إيمان فؤاد الجويلي تؤرخ لـ 'سجلماسة.. مدينة الذهب'

الدراسة الفريدة والمهمة تكشف عن دور أوائل المدن الإسلامية بالمغرب والمحطة الرئيسية للقوافل التجارة العابرة للصحراء الكبرى.

قليلة هي الدراسات التاريخية المعمقة حول المدن الإسلامية في بلاد المغرب العربي، تلك المدن التي كان لها أبعد الأثر سياسيا واقتصاديا وعلميا ودينيا واجتماعيا على دول شمال أفريقيا، كما لعب دورا بارزا في استقلالية واستقرار قبائل البربر والعرب وغيرهم، وذلك بفضل تحقيق العدالة والسلام، وتعد مدينة سجلماسة إحدى المدن التاريخية التي لم تلق الدراسة والبحث المعمقين حول تأريخها في العصور الوسطى واستقلاليتها عن الخلافتين الأموية والعباسية ثم الفاطمية.  

تعتبر سجلماسة (الريصاني) بوابة الصحراء نحو إفريقيا، وهي من أوائل المدن الإسلامية بالمغرب، ومحطة رئيسية للقوافل التجارة العابرة للصحراء الكبرى. كانت في أوج تألقها محطة لا محيص عنها في طريق قوافل التجارة العابرة للصحراء. وكانت تضم الكثير من القصبات والقصور، لعلى أبرزها تلك التي كانت تؤوي قصر الأمير، والجامع الكبير، وسوق تجار كبيرة، ومعامل سك النقود.

وهذه الدراسة الفريدة والمهمة للدكتورة إيمان فؤاد الجويلي "سجلماسة.. مدينة الذهب دورها التجاري في ازدهار بلاد المغرب العربي في العصور الوسطى 140 ـ 540 هـ ـ 757 ـ 1145م" والصادرة عن المركز الأكاديمي للنشر، التي كشفت عن دور تلك المدينة التي تعد إحدى أهم المراكز التجارية والتي أسسها الخوارج الصفرية عام 140 هـ/ 757م واتخذوها عاصمة لدولتهم، على التوغل باتجاه الصحراء جعل من هذه المدينة فسطاطا أماميا للقوافل القادمة من السودان وإليه، هذا فضلا عن موقعها الاستراتيجي الذي يتوسط الطرق الأصلية للصحراء، والذي جعل منها العاصمة الأولى للضفة الشمالية للصحراء لقرون عديدة، غدت فيها نقطة انطلاق للأحداث السياسية وقاعدة لقيام دولة سياسية وأداة وصل فعالة، ربطت شمال القارة الأفريقية بجنوبها، كما كانت منارة علم وسراجا لنشر تعاليم الإسلام في تلك المنطقة.

ولفتت الجويلي إلى أن الجغرافيين المسلمين لم يتفقوا على تحديد المسافات بين سجلماسة وغيرها من المدن الإسلامية في المغرب، وهم في هذا لا يستخدمون طريقة موحدة للقياس، فتارة يحددون المسافات بالأيام التي تقطع فيها. وتارة آخرى يقيسونها بالمراحل التي تبلغها، كما أن تقدير المراحل لم يكن متفاوفا بينهم فحسب، بل كان متفاوتا لدى الواحد منهم أحيانا، فنجد البكري ـ مثلا ـ يستثني إحدى المراحل على طريق فاس سجلماسة واصفا إياها بأنها مرحلة كبيرة تبلغ نحو ستين ميلا، كما ذكر أيضا في موقع آخر أن المسافة بين وسجلماسة ثلاثة مراحل. كما يرى بعض المؤرخين المحدثين أن الأطلال الموجودة حاليا حاليا على مقربة من تافيلات هي بقايا سجلماسة فقط، بل تضم أيضا من المدن القريبة والتي ورثتها سجلماسة بعد خرابها أو سقوطها. هذا إلى جانب التفاوت الذي وجد بين الجغرافيين القدامى والمحدثين في تحديد خطوط الطول ودوائر العرض لسجلماسة، ولعل هذا التفاوت يعود لاختلاف أنظمة تلك الخطوط ودوائر العرض في العصر الوسيط عنه في عصرنا الحاضر. وأيا كان الأمر فمن خلال ما سبق يمكن تحديد موقع سجلماسة على أنها مدينة تقع في جنوب المغرب الأقصى شمال وادي درعة في طرف بلاد السودان وبينها وبين البحر المتوسط 15 مرحلة، وبينها وبين فاس عشرة أيام تلقاء الجنوب، وليس قبيلها عمران ولا غربيها عمران، وبينها وبين غانه كذلك من بلاد السودان مسيرة شهرين في رمال وجبال قليلة لا تدخلها إلا الإبل المصبرة على العطش".

وأكدت أن الأهمية الاقتصادية والجغرافية لمكان ما قد تصنع تاريخا سياسيا له، فالاقتصاد ليس منفصلا عن السياسة والعكس صحيح، بل هي أدوار في التاريخ كل منهما مكمل للآخر، كما أن النزعات الاستقلالية تسببت في نشأة الخلافات المستقلة. ومع تلك النزعات بالإضافة إلى الحافز الاقتصادي نشأت سجلماسة على يد الخوارج الصفرية عام 140 هـ/ 757م واستمرت على هذا الأمر لسنوات عديدة، ثم توجه المهدي الخليفة الفاطمي إلى سجلماسة بترتيب مسبق، لبعدها عن مناطق النفوذ الإسلامية آنذاك، والأهم من ذلك أنها بوابة ذهب السودان، لذلك حرص المهدي منذ دخوله إليها على الحصول على ما بها من خيرات، فما لبث بعد دخول الشيعي لها أن قتل حاكمها اليسع بن مدرار، ثم صادر أموالها، وولى عليها حاكما من طرفه، لتظل خاضعة له، ولم يستسلم سكان سجلماسة للحكم الفاطمي، ولم يتقبل أهلها خضوعهم لأحد غير حكامهم من بني مدرار، لذلك قامت الثورات ضد الفاطميين، ولم يستمر الحال طويلا حتى رحل الفاطميين إلى مصر، وأسسوا خلافة كبيرة، بينما تركوا المغرب لبني زيري وبدأ الصراع في منطقة المغرب الأقصى وسجلماسة بين بني زيري عمال الخلافة الفاطمينة والزناتيين بمساندة أموي الأندلس، الذين طال صراعهم ضد الفاطميين من جهة، وطالما حلموا بالسيطرة على سجلماسة من جهة أخرى، لذلك الصراع لصالح الزناتيين وحلفائهم من أموي الأندلس، وبذلك خضعت سجلماسة لحكم زناتة والأمويين، وكان ذهبها سببا في كل تلك الأحداث التي مرت بها حيث حرص كل من الزناتيين والأمويين على سك عملة باسمهم في سجلماسة.

وقد عاني أهل سجلماسة معاناة شديدة من حكامهم الزناتيين، فقرر رجال الدين الاتصال بعبد الله بن ياسين والمرابطين لانتشال سجلماسة من تلك المصاعب، ولاقت دعوتهم قبولا لدى الشيخ ابن ياسين وأبتاعه المرابطين، فقرروا دخول سجلماسة ليخلصوا أهلها من الظلم الواقع عليهم من جهة، وأيضا يجب ألا نغفل هنا أهمية الذهب ودوره في رفع الوضع الاقتصادي من جهة أخرى للمرابطين.

وأضافت الجويلي "هكذا أصبحت سجلماسة تحت حكم دولة جديدة هي دولة المرابطين والتي كانت عاصمتهم الأولى، ثم انتقلوا منها إلى أغمات ثم مراكش، إلا أنها لم تفقد أبدا قيمتها لديهم، إذ هي دار سك العملة المرابطية التي يتم سكها من أنقى وأصفى أنواع الذهب، تلك العملة التي أصبحت عالمية في تلك الفترة، لذلك حرص المرابطون على سجلماسة أشد الحرص. ومن الملاحظ هنا مع دخول المرابطين سجلماسة لم تقم ثورات من أهلها ضدهم، كما حدث من قبل خلال حكم الفاطميين، ويرجع ذلك لحسن معاملة ولاة المرابطين لسكانها، ثم انتشار المذهب المالكي والذي أقبل عليه معظم سكانها، وبالطبع ومع ظهور دولة الموحدين والتي حرصت بدورها على الاستحواذ على سجلماسة باب الجنوب وباب الذهب، سقطت سجلماسة كغيرها من الأملاك المرابطية لتدخل في حوزة الموحدين من 540هـ/ 1145م لتظل تحت سيطرتهم حقبة من الزمن".

تناولت الجويلي في دراستها التي قسمتها إلى ستة فصول سبقتها قراءة تمهيدية لأوضاع بلاد المغرب قبل نشأة سجلماسة من خلال الفتح العربي للمغرب وصولا للمغرب الأقصى ثم ملاءمة مناخ المغرب لنشر مذهب الخوارج الصفرية وقيام الدول المستقلة. لتنطلق في فصلها الأول إلى الأسس التي قام عليها اختيار موقع المدينة ومدى أهميته كموقع استراتيجي على طريق القوافل، واستقرار الصفرية فيه وبناء المدينة وسبب تسميتها ثم قيام دولة بني مدرار وصولا إلى عهد اليسع بن مدرار الذي كان أزهى عصور سجلماسة حتى دخول الفاطميين إليها. وفي الفصل الثاني تتوقف مع حكم الفاطميين وسياستهم التي دفعت أهل سجلماسة إلى الثورة عليهم، مما اضطر الفاطميون إلى ترك الحكم لبني مدرار مع الاحتفاظ بالتبعية الاسمية لهم مكتفين بأخذ الأموال وسك النقود. وتتابع بعد ذلك الأوضاع السياسية للمدينة عقب خروج الفاطميين من بلاد المغرب وحتى سقوط دولة المرابطين على يد دولة الموحدين، وفي الفصول التالية تتناول الحياة الاقتصادية لمدينة كانت غنية بموقع استرتيجي عظيم وموارد هائلة من صناعة وتعدين وزراعة ورعي وتجارة خارجية وداخلية.

وأشارت إلى أن معدن الذهب يعد أول المعادن ذات القيمة الفريدة بسجلماسة، وكان يطلق عليه اسم "نضار" لاعتباره من المعادن النفيسة والمفضلة في عملية سك النقود، وعلى هذا اعتبرت سجلماسة محطة من محطات وصول الذهب إلى المشرق وأوروبا والأندلس مما كان له أثر كبير على النشاط الاقتصادي في البحر المتوسط خاصة وأن الذهب سواء كان نقدا أو سبائك فإنه يعتبر من الأشياء المألوفة في حركة التبادل التجاري بين الأسوا المختلفة. وكان الذهب يجلب من بلاد السودان تلك التي عرفت بباب التبر ليستقر في أرض سجلماسة فتقوم الأخيرة باستخدامه في عملية التبادل التجاري والتي جاءت على رأسها من حيث القيمة صناعة سك العملة، وليس أدل على ذلك من وصف العملة التي كانت تضرب بها بأنها نقود تضرب من أصفى ذهب في العالم، وبالإضافة إلى صناعة سك العملة ازدهرت في سجلماسة صناعة الحلي، وكان أشهر من أمتهن تلك الحرفة اليهود والروم المقيمين بها، حتى تسيدت هذه الحرفة وأقيمت بها سوقا كبيرة للمشغولات الذهبية.

ورأت الجويلي أن سكان سجلماسة وأهمهم البربر والعرب وأهل الذمة تمتعوا بالحرية الكاملة خلال العصر الإسلامي وقالت أنه "في عهد المرابطين ازدهرت الحركة العلمية في سجلماسة إذ انعكس استقرار أوضاع البلاد على مختلف المجالات، وتوحيد كل بلاد المغرب والأندلس في دولة واحدة ساعد على نمو الحركة الفكرية والتي بلغت ذروتها في عهد علي بن يوسف من سجلماسة إلى بلاد الأندلس. ومن العوامل المهمة في تنشيط الحياة الفكرية؛ التجارة فهي على مدى العصور كانت ملازمة للكشف الجغرافي وقد صحب تبادل السلع تبادل الآراء. كما صحب هذه النهضة الفكرية وجود صناعة الورق والتي يقوم أصحابها بنسخ الكتب وتجليدها، كما أن الوراقين أنفسهم كانوا من الأدباء ذوي الثقافة، ويسعون لغذاء العقل من وراء هذه الحرفة، والتي تتيح لهم القراءة والاطلاع، كما تجذب لحوانيتهم العلماء والأدباء.. أيضا جدير بالذكر أن سجلماسة كانت أحد مراكز تجمع الحجاج في المغرب، قبل الرحلة إلى الأراضي الحجازية مما ساهم إلى حد كبير في ثراء الحركة الفكرية وربطها بالمناطق الحجازية وأهم علمائها.