ابن تيمية.. هل يصح الاعتذار بواقع عصره؟!

معرفة ظروف إنتاج الفكر/ الفتاوى تعين على فهم هذا الإنتاج ولكنها لا تنزع عنه المكونات السلبية التي تتخلله والتي يطرحها الخطاب الديني التيموي بوصفها اجتهادات شيخ الإسلام ثم تجد استجابة قارئ يتمثّلها بوصفها صحيح الإسلام!

بقلم: محمد المحمود

منذ ازدهار الأصوليات الدينية/ الإسلامية التي تجد "مهدها الحركي" في تنظيم جماعة الإخوان التي تأسست عام 1928م، وتجد "مهدها الفكري" في التراث السلفي الاتباعي برموزه المتعددة، والباحثون الغربيون (فضلا عن العرب/ الشرقيين العارفين بواقع الحال) يحاولون فَكَّ مغاليق اللغز الأصولي؛ بما يُفسّر توقيت الانبعاث/ الازدهار، وبما يفسر الشرعية الباذخة لهذا الموقف الإقصائي المتشبع بالنَّفَس الدوغمائي الذي يتعيّن في الواقع عنفا من ناحية، ويتجذَّر في الأذهان يقينا مطلقا بوهم الصواب من ناحية أخرى.

لقد لفت نظر الباحثين في جماعات العنف الأصولي ـ على اختلاف مشاربهم؛ من غربيين وشرقيين ـ هذا الحضور الكبير لابن تيمية في الخطاب الشرعي لهذه الجماعات. لقد وجد الباحثون أن كل مسلك عنفي أو موقف حاد في هذا الأمر أو ذاك، غالبا ما يكون مشفوعا بفتوى لابن تيمية ابتداء، حتى وإن ألحقت بها بعض الفتاوى من باب الحشد والتكثيف، لا من باب تحقيق أصل مشروعية الفعل/ المسلك العنفي.

يشيع في خطاب ابن تيمية، وخاصة في فتاويه التي جُمعت في 37 مجلدا، مقولة تكاد تكون ثيمة لخطابه الإفتائي: "يُسْتَتاب، فإن تاب؛ وإلا قُتِل". يكرر هذه الجملة في تقرير مصير مخالفيه الذي لا يتفقون معه فيما يعده من باب الضروريات/ المعلوم من الدين بالضرورة، أو حتى ما يكون من باب الإصرار على البدعة بعد كشفه هو ـ أو من يمثله ـ لبدعيتها بالدليل الذي يراه قطعي الصواب: ثبوتا ودلالة، ومن ثَمَّ؛ يجب على الآخر أن يراه كذلك؛ وإلا فهو كافر معاند، يجب قتله لكونه أصبح من جملة الضالين المرتدين عن الدين.

عشاق ابن تيمية، أو المتشكلّون بالتراث التيموي، تقرع أسماعهم مثل هذه الاتهامات المشفوعة بالأدلة والبراهين التي تجعل شيخهم/ الرمز في مرمى الإدانة بتشريع العنف الإرهابي. وطبيعي حينئذٍ أن يحاولوا التصدي ـ ولو بالمحاولات اليائسة ـ لهذا الاتهام الخطير الذي أصبح معروفا ـ بحيثياته ـ على نطاق واسع، خاصة وأنه يأتي من مصادر شتى، وبدوافع شتى أيضا، لكنها جميعا تؤكد هذه الحال التي أصبحت واقعا، أي حال كون ابن تيمية أصبح الشيخ الأول الذي تتشرعن به جماعات العنف المتأسلمة ـ السنية منها تحديدا ـ أيا كان مكانها، وأيا كان سياقها الحركي/ التنظيمي.

إن دعوى الاعتذار بالسياق (كما يعتذر به بعضهم عن رموز العنف في التاريخ) لا تصمد كحجة للدفاع عن التراث التيموي المؤسس للعنف والإقصاء؛ لأسباب كثيرة، من أهمها:

  • أننا لا نحاكم الشخص، أي لا نحاكم الوجود المادي لابن تيمية؛ لنتعلل بظروفه وسياق عصره لتبرئته. ابن تيمية كحالة إنسانية مادية لم يعد له وجود. ابن تيمية الحاضر في عالمنا اليوم هو تراثه/ خطاب الديني الذي كان يدّعي له الشرعية/ القدسية، وأيضا أنصاره يدعون لتفعيله في الواقع. نحن لسنا في حالة ضبط جنائي لابن تيمية كشخص؛ لنترافع عنه ضد خصومه بما يكفل نجاته من الإدانة بجريمة التحريض على العنف أو بجريمة تشريع الإرهاب. نحن في مواجهة تراث/ فكر، يستحق الإدانة، ولا يعنينا الشخص بحال. إن معرفة ظروف الإنتاج (إنتاج الفكر/ الفتاوى) تعين على فهم هذا الإنتاج، ولكنها لا تنزع عنه المكونات السلبية التي تتخلله، والتي يطرحها الخطاب الديني التيموي بوصفها "اجتهادات شيخ الإسلام"، ثم تجد استجابة قارئ يتمثّلها بوصفها صحيح الإسلام! كون ابن تيمية في ظروف طبيعية أو غير طبيعية، لا يعني هذا شيئا في تقييم ابن تيمية الماثل أمامنا اليوم، والذي هو ابن تيمية المُكَوّن من "حبر على ورق"/ من تراث تستلهمه آلاف العقول الاتباعية، وليس ابن تيمية المكون من جسد، من لحم ودم وعظام، فهذا الأخير لا يعنينا في قليل ولا كثير.
  • أن ظروف عصره كانت هي ظروف عشرات بل مئات الفقهاء المُجَايلين له، فلماذا هو (عندما أقول: هو، أقصد: تراثه الذي يحضر به بيننا) من بينهم نجده أكثر عنفا أو تشريعا للعنف؟! صحيح أن التكفير والعنف والحث على القتل لم يكن من خصوصياته، وإنما يشترك فيه السياق الفقهي للجميع، وعند معظم الطوائف والفرق آنذاك. لكن، لا تخفى دلالة كون هذا المنحى التكفيري العنفي يتكاثف في خطابه حتى يكاد يكون أشهرهم في هذا المجال.
  • لا ينفي حقيقة ثبوت هذا العنف في تراثه، أن في تراثه ـ بالمقابل ـ ما يضاده معنى أو نصا، ففي النهاية، ثمة تشريع صريح للعنف، بصرف النظر عن بقية الإنتاج. فمثلا، لو أن مفكرا أو شيخا كتب عشرين مجلدا، ولم يكن العنف والتحريض على القتل متضمنا إلا في ثلاث أو أربع صفحات؛ لكانت كافية لوصم هذا المكتوب بأنه تراث يشرعن العنف ويتشرعن به العنف. أيضا، لو أن شيخا يُفتي ويحاضر ويرشد منذ سبعين سنة؛ حتى أصبح رمزا دينيا، ولم يقل خلال ذلك ما يمكن توصيفه بأنه تبرير للعنف، ثم جاء بفتوى صريحة مختصرة، من ثلاثة أسطر فقط، يقرر فيها أن ما يمارسه تنظيم "داعش" من عنف دموي هو مشروع دينيا، فإن هذه الفتوى كفيلة بأن تجعل منه: شيخ إرهاب، ولن نبرر له بأن له أقوال في هذا المجال أو ذاك؛ لأن شرعنته للإرهاب لها مفاعيلها الكارثية في الواقع.
  • أيضا، ولكوننا ننظر للأمر من زاوية استجابة القارئ/ طبيعية التلقي، فإن الأثر الذي تتركه فتوى تكفيرية/ عنفية من هذا الشيخ، ليس كالأثر الذي تتركه فتوى تكفيرية/ عنفية من شيخ آخر. فالتركيز يكون على الأشد/ الأكثر تأثيرا، وليس على الأشد/ الأكثر تكفيرا. وعلى سبيل الافتراض، قد يكون ثمة شيخ في القرن الرابع أو الخامس أو التاسع الهجري أكثر تكفيرا وأشد صراحة في الدعوة إلى العنف من ابن تيمية. لكن (ولأننا لسنا مشغولين بالشيخ/ المفكر من حيث هو منتج لتراث ما) لن نكون معنيين بنقد هذا المجهول/ المغمور؛ ما دام أثره في واقع الجماعات الأصولية معدوما أو شبه معدوم.

ملخص ما نُشر في صفحة الحرة

"ابن تيمية والعنف الأصولي"