اختبار مبكر لرئيس الحكومة السودانية

يكاد يكون احتمال الفشل لدى حمدوك صفرا.

من الطبيعي أن يبدأ أول اختبار لرئيس الحكومة في أي دولة بعد فترة من تسلم مهامه العملية. لكن في السودان ظهر ذلك في وقت مبكر، عندما شرع عبدالله حمدوك رئيس الحكومة الجديدة قبل أيام في البحث والتحري حول أسماء الوزراء المرشحين من قبل قوى إعلان الحرية والتغيير. أجاز الغالبية وتحفظ على بضعة أسماء، وطالب بمده بأخرى بديلة على أساس الكفاءة ومراعاة توازنات سياسية ومناطقية عميقة لتجنب تكرار أخطاء المرحلة السابقة.

أدى التدقيق الطويل إلى تأخير قيام الحكومة بمهامها التنفيذية في الأول من سبتمبر الجاري. غير أن الفحص والمراجعة والتشاور كشف عن مجموعة من الرسائل السياسية، أراد حمدوك لفت الأنظار إليها قبل أن يتم تدشين حكومته رسميا. فالرجل تولى المهمة في ظروف صعبة ويقع على عاتقه تخطي أزمات السودان المتراكمة، وانهاء هيمنة الإسلاميين على الدولة العميقة، ورسم شكل الخريطة التي يمكن أن تسير عليها البلاد مستقبلا، بعد فترة طويلة من التخبط أضرت كثيرا بمصالح وقوة السودان.

لم يكن التمهل والتريث والحذر غاية في حد ذاته، بل وسيلة أثبت بها حمدوك أن قوى الحرية والتغيير التي اختارته لهذا المنصب لن تتحكم في توجهاته أو يصبح مدينا وأسيرا لقيادتها في جميع الأحوال. فشخصيته الصارمة وأفكاره المتطورة وتعدد خبراته بين الاقتصاد والسياسة تمنحه هامشا واضحا للاستقلال عن أي تكتل حزبي وفئوي وجبهوي. فقد جاء محمولا على أعناق الشعب ورضاه قبل أن يكون محمولا على أكتاف الحرية والتغيير.

يكاد يكون احتمال الفشل لدى حمدوك صفرا، وربما لا يجب التفكير فيه أصلا، حيث اختير كمنقذ اقتصادي وملهم سياسي وواجهة إقليمية ودولية مشرفة. يعي حجم المهام الجسيمة الملقاة على حكومته، ويحاول أن تكون اختياراته نزيهة وبعيدة عن المأرب غير الوطنية. رفض توزير قيادات في الحرية والتغيير عندما وجد كفاءتها لا تناسب المرحلة المقبلة وما تحمل من تحديات متعاظمة. لم يعبأ بالمصفوفة الزمنية التي حددت له موعدا لإعلان أعضاء حكومته، طالما أن ذلك يمكنه من اختيار أسماء على مستوى عال من المسئولية.

أضاف له التأخير الكثير ولم يخصم منه شيئا من المعاني المهنية. فقد عرف السودانيون أنه يبحث دوما عن الأفضل الذي يستطيع أن يتعاون معه لإيجاد حلول جذرية لمشاكل مزمنة مضت على بعضها عقود طويلة. يدير علاقته مع مجلس السيادة الانتقالي بصورة متوازنة، وأبدى استعدادا طيبا للتفاهم معه. يقف على مسافة واحدة من القوى السياسية، باستئناء أعضاء وأنصار النظام السابق الذين أفسدوا الدولة وأجهزتها المختلفة وتنتظرهم محاكمات للقصاص منهم جزاء ما ارتكبوه في حق الشعب. وهي قضية حيوية لا تهاون أو مراوغة فيها.

تعمد رئيس الحكومة السودانية أن تكون تصريحاته شحيحة الأيام الماضية، ليقطع الطريق على من يدمنون التأويل والتفسيرات المتباينة. ولم يجعله التوقف عند بعض الأسماء التي رفعت إليه من قوى الحرية والتغيير يفقد ثقته فيها أو العكس، ملمحا إلى أنها بمثابة الظهير السياسي له، حتى لو أبدى البعض من أعضائها تحفظات على الحكومة والترشيحات. ولازال حمدوك هو الاختيار التوافقي الذي منحه غالبية السودانيين ثقتهم.

رفعت هذه الميزة من سقف التوقعات على الحكومة الانتقالية ورئيسها. ولذلك سيكون الحذر أو التردد سيدا في أوقات كثيرة في التعامل مع قضايا حيوية، ليمنع تسرب الشكوك، ويحافظ على الثقة الغالية التي لم يمنحها السودانيون لكثير من المسئولين قبله، ما يطوقه ويكبله في التوفيق بين ملفات متصادمة يسعى إلى تهدئتها خوفا من انفجار أي منها في وجهه، وتتعطل مسيرته الواعدة ويستهلك جزءا من طاقته المتدفقة ويتاثر طموحه في أن يكون هناك سودان جديد في الشكل والمضمون.

ركزت الأنظمة السابقة على الاهتمام باللقطة والصورة السياسية، وفرغت خطواتها من المضامين التي تفضي إلى حياة جيدة للشعب. استنزفت طاقتها في إنحيازات سافرة لقوى إقليمية ومؤدجلة بعينها، ما انعكس سلبا على كيان الدولة وأدخلها في نفق مظلم كان الضوء في آخره شحيحا. حتى جاءت الثورة التي أطاحت بحكم الرئيس عمر البشير بعد ثلاثة عقود من التسلط، فأشاعت الفرحة وجددت الأمل في قدرة السودانيين على التغيير الحقيقي.

ترك البشير وراءه حملا سياسيا واقتصاديا وأمنيا واجتماعيا ثقيلا على صعيد الداخل، ومشكلات خطيرة على صعيد الخارج. وتعمل السلطة الانتقالية، بشقيها مجلس السيادة والحكومة، على تجاوز العقبات التي تعتري المستويين بالتكاتف والتضامن والالتفاف حولها لتجاوز مرحلة الفوران الثوري إلى بناء الدولة.

إذا كانت الخطط المحلية واضحة وليست بحاجة إلى اسهاب طويل لكشف أماكن الخلل وطرق التصحيح، فإن الداء معروف وسيتم تعاطي الأدوية المريرة تدريجيا كسبيل وحيد للشفاء من الأمراض الرئيسية. غير أن الترتيبات الخاصة بالخارج يشوبها غموض. فالخرطوم أصبحت محطا لأنظار قوى كثيرة. بعضها يريد استمرار السياسات السابقة من دون اعتراف بإرادة التغيير، وكأن عجلة الزمن لم تتحرك خطوة واحدة للأمام. والبعض الآخر يسعى للاستفادة من التطورات وابعاد السودان عن الالتصاق بالتنظيمات المتشددة والدول الراعية للإرهاب.

كل طرف يحاول جذب السودان إلى تصوراته السياسية. وكل طرف يعتقد أنه قادر على جره إليه بالمساعدات المادية والمعنوية. بينما تحاول الحكومة الانتقالية التركيز على همومها الداخلية، وعدم الافصاح عن ميول جذرية لصالح تكتل إقليمي معين، ووقف الانتهازية والتنقل بين التكتلات التي أثرت سلبا على مصالح السودان، وفرضت عليه عقوبات وجرت رئيسه المعزول وعددا من رموزه إلى المحكمة الجنائية.

تبدو التوجهات الخارجية غامضة حتى الآن، لكن المؤكد أن السلطة الجديدة لن تمضي في طريق البشير وممارساته المؤيدة للتيار الإسلامي، وأعلنت رفضها تبني أي تحركات على أسس عقائدية، وتتحسب من الاندماج في تحالفات مضادة لهذا التيار. وقد تختار طريقا ثالثا. طريق توطيد العلاقات مع المحيط الأفريقي. كخيار مركزي يحل شفرة بعض التناقضات، ويضمن للسودان الحصول على مردودات إستراتيجية مهمة.