اردوغان...والاحلام والاوهام

لم يفوت اردوغان فخّا الّا وسقط فيه.

ليس هناك أسوأ من إضاعة الفرص، خصوصا عندما يكون المرء سياسيا استطاع بلوغ الموقع الاوّل في بلده. في النهاية، تبقى الاحلام احلاما والاوهام اوهاما، بل تصبح الاوهام متورّمة. يحدث ذلك عندما لا يمتلك الزعيم السياسي القدرة على فهم حدود ما يستطيع عمله انطلاقا من الامكانات الحقيقية لبلده وليس من تصورات لا علاقة لها بالحقيقة والواقع.

هذه حال الرئيس رجب طيّب اردوغان، ملك إضاعة الفرص، الذي كان في استطاعته لعب دور محوري طليعي على الصعيد الإقليمي بدل الدخول في لعبة تدفع تركيا ثمنها غاليا.

بدت تركيا قبل ما يزيد على عشر سنوات مهيّأة لان تلعب دورا إيجابيا في كلّ مجال من المجالات في المنطقة مع اقتراب تخلّصها، هذه السنة، من معاهدات واتفاقات فرضت عليها قيودا في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الاولى وهزيمتها فيها. لكنّ اردوغان فضّل على ذلك ان تتحوّل تركيا مجددا الى رجل المنطقة المريض. تماما كما حال ايران في ظلّ نظام الوليّ الفقيه الذي اسسه آية الله الخميني في العام 1979 والذي رفع شعار "تصدير الثورة"!

لم تكن تركيا مضطرة، بعد مرور قرن على انهيار الدولة العثمانية، الى الوصول الى مرحلة تعود فيها الى وضع الرجل المريض بعدما بدت في مرحلة معيّنة قادرة على ان تقدّم نموذجا يحتذى به. لكنّ اردوغان فضّل الدخول في لعبة المزايدات التي يتقنها الاخوان المسلمون، مثلما يتقنها نظام الملالي في ايران.

تحوّل اردوغان، قبل اصابته بداء العظمة، رمزا للصعود التركي في ظلّ نظام يعتمد على الوسطية بكلّ ما تعنيه الكلمة من اعتدال إسلامي تبدو المنطقة في امسّ الحاجة اليه. لكنّ السنوات الأخيرة، جعلت منه رمزا لمشروع توسّعي آخر لا يقلّ خطورة عن المشروع الايراني الذي ليس لديه ما يصدّره غير الخراب والبؤس... والغرائز المذهبية.

قاد هذا العقل المنحرف اردوغان الى التدخل في ليبيا. يدعم هناك مجموعات ميلشيوية متطرّفة تصلح لكلّ شيء باستثناء لإعادة بناء دولة دمرها التناحر بين مجموعات مسلّحة. ما الذي يمكن ان يؤدي اليه ارسال سوريين للقتال في ليبيا الى جانب ميليشيات متطرّفة موجودة حاليا في طرابلس؟ ما الذي يفيد من ارسال قوات تركية الى الأراضي الليبية؟ ما الفائدة من اتفاق مع حكومة السرّاج في شأن الحدود البحرية تعترض عليه دول عدّة مطلة على البحر المتوسّط، من بينها مصر واليونان وقبرص؟

كان في استطاعة الرئيس التركي ان يجعل من بلاده قاسما مشتركا بين كلّ الدول المطلة على البحر المتوسّط، بما في ذلك الدول الاوروبية بدل ان يصبح موضع حذر من الجميع. لكنّ المشكلة تكمن في ان الرجل يرفض الاستفادة من تجارب الماضي القريب، بما في ذلك تجارب الداخل التركي حيث انفضّ عنه كلّ الذين يمتلكون حدّا ادنى من المنطق من رفاقه في حزب العدالة والتنمية. على رأس هؤلاء عبدالله غلّ واحمد داود اوغلو.

على سبيل المثال وليس الحصر. ما الذي جناه اردوغان في العام 2010 من خطبه الحماسية عن فكّ الحصار على غزّة غير الرضوخ لما تطالب به إسرائيل التي تنفّذ منذ ما يزيد على عشر سنوات حصارا محكما على القطاع. هبّ اردوغان لمساعدة حركة "حماس"، التي هي جزء لا يتجزّأ من تنظيم الاخوان المسلمين، والتي تواطأت مع إسرائيل من اجل بقاء الحصار. لم يستوعب الرجل انّ "حماس" هي المستفيد الاوّل من الحصار الاسرائيلي نظرا الى انّه يضع اهل غزّة المساكين تحت رحمتها من جهة وتحت ما تسمح إسرائيل بادخاله اليهم من جهة أخرى.

ارسل اردوغان وقتذاك سفنا عدّة لفكّ الحصار عن غزّة. تصدت لهم إسرائيل. قتلت اتراكا كانوا على احدى تلك السفن. في نهاية المطاف، بقي الحصار وسعى الرئيس التركي الى اصلاح العلاقات مع الدولة العبرية.

لم يفوت اردوغان فخّا الّا وسقط فيه. كان في استطاعته لعب دور المنقذ في سوريا، فاذا به يحوّل تركيا الى مشكلة سورية. لا بدّ من الاعتراف بان تركيا اوت آلاف السوريين الذين هجرهم نظام يشنّ حربا على شعبه. لكن التردّد التركي الذي رافقه كلام كبير، لم يجد ترجمة له على ارض الواقع، جعل تركيا بمثابة بيدق تتلاعب به ايران وروسيا بدل ان تكون لها سياسة واضحة بصفة كونها الدولة الأقرب الى السوريين والى اهل حلب وادلب بالتحديد. كانت النتيجة ان تركيا صارت جزءا من الازمة السورية بكل تعقيداتها وامتداداتها، بما في ذلك الجانب الكردي منها، بعدما كانت في مرحلة معيّنة مدخلا الى حلّ سياسي. حلّ يتوج بالانتهاء من نظام قمعي اقلّوي صار عمره نصف قرن يحتقر السوريين ويذلّهم يوميا.

بعدما فشل اردوغان في سوريا، من الطبيعي ان يفشل في كلّ مكان آخر، بما في ذلك في إسطنبول المدينة التي احتضنته والتي خسر فيها الانتخابات البلدية الأخيرة. من يفشل في إسطنبول لا يمكن ان يربح في ليبيا. كلّ ما فعله اردوغان انّه فعل كلّ ما يمكنه ان يزيد الازمة الليبية تعقيدا. الأكيد ان هناك أخطاء كبيرة ارتكبها قائد الجيش الوطني الليبي خليفة حفتر. لكنّ الأكيد أيضا ان تركيا التي تمارس سياسة مبنية على أحلام كبيرة من نوع استعادة مجد الدولة العثمانية تواجه مشكلة كبيرة من النوع الذي تواجهه ايران. تختزل هذه المشكلة بان لا مكان لسياسية توسعية تقوم على اقتصاد ضعيف من جهة وعلى ابتزاز أوروبا والولايات المتحدة من جهة اخرى. هناك ابتزاز لاوروبا عن طريق اغراقها باللاجئين السوريين وهناك ابتزاز لاميركا عن طريق شراء أسلحة روسية. حسنا اشترت تركيا منظومة "اس. اس 400" لصواريخ مضادة للطائرات. ما نتيجة ذلك؟ هل صارت حليفا من الندّ للندّ لروسيا... ام صارت أداة صالحة للاستخدام روسيا وايرانيا؟

كان في استطاعة رجب طيّب اردوغان دخول لعبة الاستفادة من حقول الغاز في البحر المتوسط ونقل تركيا الى مكان آخر، الى مصاف الدول التي تنتمي الى القرن الواحد والعشرين. فضّل البقاء في اسر عقد الماضي من دون ان يسأل نفسه ولو مرّة واحدة لماذا تراجع الاقتصاد التركي وهربت الرساميل من البلد؟

مثل هذا السؤال الذي يفترض باردوغان ان يطرحه على نفسه يحتاج الى شجاعة. لا يمتلك السياسيون الذين حولوا نفسهم اسرى لفكر الاخوان المسلمين، الذين لديهم شبق لا حدود له الى السلطة، مثل هذه الشجاعة. هؤلاء لا يفكرون سوى بنفسهم بدل ان يفكروا في مستقبل بلدهم لا اكثر ولا اقلّ.