استراتيجية غياب الاستراتيجية

يظلّ تفتيت سوريا، كي لا تقوم لها قيامة في يوم من الايّام، الرابط بين ادارتي دونالد ترامب وسلفه باراك أوباما.

يدل كلام جيمس جيفري المبعوث الرئاسي الاميركي المكلف الملفّ السوري على ان لا وجود لإستراتيجية أميركية محدّدة في شأن كيفية التعاطي مع المستقبل السوري، باستثناء ان المطلوب تفتيت سوريا. يبدو غياب الاستراتيجية بمثابة استراتيجية.

جاء دليل جديد يؤكد ذلك. أوضح جيفري في حديث ادلى به الى الزميلة "الشرق الاوسط"  إنه ليس لواشنطن «سياسة لتغيير النظام بالنسبة إلى السيد (بشار) الأسد». أشار إلى أن اميركا ستواصل الضغط على دمشق وحلفائها عبر العقوبات الاقتصادية والوجود العسكري شمال شرقي سوريا ووقف التطبيع العربي والغربي إلى أن تتشكل في سوريا «حكومة جديدة بسياسة جديدة مع شعبها وجوارها».

يظلّ تفتيت سوريا، كي لا تقوم لها قيامة في يوم من الايّام، الرابط بين ادارتي دونالد ترامب وسلفه باراك أوباما الذي قرّر الذهاب الى النهاية في السماح لإيران وميليشياتها المختلفة في العمل داخل سوريا كي يحصل تغيير، لا عودة عنه، في التركيبة الديموغرافية للبلد.

ليس ترامب مختلفا عن أوباما في ما يخصّ مستقبل سوريا وضرورة تقسيمها. كشف المبعوث الأميركي عن تحقيق الكثير من التقدم في المفاوضات مع تركيا في شأن إقامة «منطقة أمنية» شرق الفرات على طول الحدود السورية- التركية، لافتاً إلى أن أميركا تريد خروج القوات الإيرانية من سوريا في نهاية العملية السياسة، وأن «هذا الطلب واقعي، بحيث يعود وجود القوات الأجنبية في سوريا كما كان قبل 2011». وأكد ضرورة أخذ البيانات الأميركية في شأن انتشار القوة البحرية الأميركية بشكل جدّي، إذ إن هذا الانتشار حصل «لأننا وجدنا إشارات جدية عن تهديدات إيرانية». وأكد أن واشنطن لن تسمح لإيران بملء الفراغ شمال شرقي سوريا. ما لم يقله انّ هذه المنطقة ستكون موضع تفاهمات مع تركيا وروسيا والاكراد من السكّان المحلّيين.

لم يعترض أوباما يوما على التدخل الخارجي في سوريا، اكان ذلك إيرانيا او روسيا او إسرائيليا او تركيا. جاء ترامب ليقول ان جزءا من الأراضي السورية يجب ان يكون تحت السيطرة التركية بطريقة او أخرى. هناك خلاف أميركي – تركي في شأن الاكراد والمنطقة السورية التي فيها أكثرية كردية، لكنّ لا خلاف في ما يبدو على ضرورة الوجود التركي في مناطق سورية معيّنة.

في النهاية، لا اعتراض اميركيا على بقاء بشّار الأسد في دمشق، ما دام هذا البقاء يؤدّي الغرض المطلوب. كان في استطاعة باراك أوباما، لو كان بالفعل حريصا على سوريا، الانتهاء من النظام السوري صيف العام 2013، وربّما قبل ذلك. لكنّه لم يفعل شيئا على الرغم من دعوته رئيس النظام السوري الى التنحي. كشف تطوّر الاحداث منذ آب – أغسطس 2013 ان سوريا، بالنسبة الى الادارة الاميركية، مجرّد أداة وليست هدفا بحدّ ذاته. كان أوباما هدّد بأنّ استخدام السلاح الكيميائي في الحرب التي يشنّها النظام على الشعب السوري بمثابة "خط احمر". استخدام النظام السلاح الكيميائي صيف 2013. ادّى ذلك الى مقتل مئات السوريين وذلك في وقت كانت المعارضة تهدّد دمشق مباشرة. فجأة، لم يعد أوباما يرى اللون الأحمر. طار "الخط الأحمر" من قاموس الادارة الاميركية. تبيّن بعد مرور بعض الوقت ان المطلوب اميركيا عدم ازعاج ايران في شيء كي لا تنسحب من المفاوضات الدائرة في شأن ملفّها النووي.

اكتفت إدارة أوباما بقبول اقتراح الرئيس فلاديمير بوتين القاضي بتجريد النظام السوري من مخزون السلاح الكيميائي الذي كان يمتلكه. حصل ذلك جزئيا واستمرّت الحرب علي الشعب السوري بقساوة ووحشية بعد دخول موسكو مباشرة على خط الدفاع عن النظام ابتداء من أيلول – سبتمبر 2015.

لم يتغيّر شيء اميركيا بالنسبة الى سوريا في يوم من الايّام. يبدو انّه لن يتغيّر شيء مستقبلا ما دام النظام ينفّذ المهمة المطلوبة. لذلك ليس ما يمنع بقائه في دمشق، من وجهة نظر واشنطن. الأكيد ان إسرائيل لا تمانع ايضا في ذلك، خصوصا بعد التوصل الى اتفاق في العمق مع روسيا في شأن الوجود الايراني في مناطق معيّنة قريبة من الجولان الذي لم يعد محتلا، بل صار إسرائيليا بعد اعتراف الإدارة الاميركية بذلك. اصبح الجولان إسرائيليا بما يتعارض مع كلّ قرارات الشرعية الدولية. المهمّ ان يبقى النظام في دمشق، خصوصا انّ هذا النظام لم يرد يوما استعادة الجولان المحتلّ منذ العام 1967.

في مرحلة يبدو فيها الشرق الاوسط مقبلا على تطورات كبيرة تشمل إعادة رسم خريطة المنطقة في ضوء ما تطرحه "صفقة القرن" التي وعدت بها إدارة ترامب بعد شهر رمضان، ليس ما يمنع الاستمرار في عملية تفتيت سوريا. من الواضح ان اميركا لا تمتلك حاليا استراتيجية بالنسبة الى سوريا. ربّما أراد المبعوث الرئاسي جيمس جيفري تأكيد ان غياب الاستراتيجية هو الاستراتيجية الاميركية في هذه المرحلة بالذات، كما في المراحل التي بدأت مع اندلاع الثورة السورية في آذار – مارس من العام 2011. وقتذاك، سعت الإدارة الاميركية الى تشجيع السوريين على متابعة ثورتهم وقدّمت لهم وعودا كثيرة من اجل الوصول الى الوضع الراهن. لم تنفّذ شيئا من هذه الوعود.

ليس افضل، اميركيا واسرائيليا وايرانيا وروسيا، من الاعتماد على نظام غير شرعي يؤمن بحلف الاقلّيات، شرط ان تكون هذه الاقلّيات تحت الجناح العلوي، للانتهاء من سوريا. لا يمكن اعتبار النظام غير شرعي فقط. انّه اكثر من ذلك بكثير. انّه نظام يقبل من اجل ان يظل بشّار الأسد مقيما في دمشق كلّ أنواع الاحتلالات. الاميركيون ما زالوا شرق الفرات. الاتراك موجودون في الشمال السوري. والروس والايرانيون في كلّ مكان، في حين تستطيع إسرائيل التي ضمت الجولان التدخل كلّما شعرت بضرورة لذلك. هل من نظام يناسب كلّ الأطراف المعنيين بالازمة السورية، من محتلين ومتفرّجين على ما يدور، اكثر من هذا النظام، المرفوض من الأكثرية الساحقة لشعبه، والذي تحوّل الى الحليف الحقيقي والطبيعي لـ"داعش"؟

طبيعي تمسّك جيمس جيفري ببقاء بشّار الأسد في دمشق. طبيعي اكثر ان يطلب المستحيل، أي ان تقوم حكومة جديدة تمارس سياسة مختلفة في ظلّ وجود الاسد. الواقع، ان كلّ شيء يبدو مبررا، بما في ذلك طلب المستحيل من اجل بلوغ الهدف المتمثل في التخلّص من سوريا... في سياق التخلّص من النظام الإقليمي الذي قام بعد انهيار الدولة العثمانية، وهو نظام اقليمي انهار عمليا ونهائيا مع سقوط العراق في العام 2003.

ما زالت المنطقة كلّها تعيش الى اليوم تداعيات السقوط العراقي الكبير الذي وفّر انطلاقة جديدة للمشروع التوسّعي الايراني في المنطقة. هذا المشروع الذي ادّى بدوره المطلوب منه، أي المساهمة في تفكيك العراق وتفتيت سوريا واغراق لبنان في ازمة سيكون صعبا عليه القيام منها في يوم من الايّام!