استقالة ظريف وافلاس نظام

ذهب ظريف ضحيّة لعبة لم يدرك حدودها اسمها لعبة التذاكي.

لا تقدّم استقالة وزير الخارجية الايراني محمّد جواد ظريف ولا تؤخّر. يمكن ان تكون اهميّتها الوحيدة في انّها تعبّر عن افلاس نظام وعد أبناء شعبه بكلّ ما يمكن ان يحلموا به، فاذا بما يزيد على نصف الايرانيين يعيش بعد أربعين عاما من قيام الثورة وسقوط الشاه تحت خط الفقر. ربّما كان ذلك السبب الذي دفع وزير الخارجية الايراني منذ العام 2013 الى الاستقالة عبر "انستغرام"، غير المحظور في الداخل الايراني، مع "اعتذار عن التقصير من الايرانيين".

في النهاية، انتصرت "الثورة" على فكرة محاولة إقامة دولة في ايران. دولة تحترم نفسها وتهتم برفاه شعبها ومصلحته وتعرف حدودها وحجمها الحقيقيين وتعرف كيف يكون التعاون مع جيرانها القريبين والبعيدين.

لذلك، ليس صدفة ان الاستقالة جاءت مع وصول رئيس النظام السوري بشّار الأسد الى طهران في زيارة مفاجئة تميّزت بالحضور الطاغي للجنرال قاسم سليماني قائد "فيلق القدس" في "الحرس الثوري"، خصوصا في لقاء الأسد مع رئيس الجمهورية حسن روحاني ومع "المرشد" علي خامنئي. بدا الأسد الابن وكأنّه جاء الى طهران تلبية لدعوة من سليماني وهو يزورها كواحد من فريق عمل إيراني، يشرف عليه "الحرس الثوري"، وليس كـ"رئيس دولة" اسمها الجمهورية العربية السورية، كما يعتبر نفسه. بدا ذلك واضحا عندما غاب العلم السوري عن الصورة مع كلّ من خامنئي وروحاني...

دفع ظريف ثمن الاعتقاد ان السياسة يمكن ان تمارس عن طريق الألعاب البهلوانية والعلاقات العامة وتوزيع الابتسامات والتظاهر بالبراءة. خلط عمليا بين الديبلوماسية والبهلوانيات. ذهب ضحيّة هذا الخلط بعدما ظنّ ان الولايات المتحدة هي باراك أوباما وان باراك أوباما هو الولايات المتحدة وانّ الرهان على خداع العالم والبناء على الاتفاق في شأن الملفّ النووي الايراني الذي تمّ التوصل اليه صيف العام 2015 يمكن ان يستمرّ الى ما لا نهاية. ما قد يكون اهمّ من ذلك ان ظريف وبغطاء روحاني اعتقد انّ الاتفاق في شأن الملفّ النووي يسمح لإيران بممارسة سياسة الدفع الى امام بمشروعها التوسّعي من دون حسيب او رقيب. لذلك، سكت "الحرس الثوري" طول هذا الوقت عن ظريف الى ان شعر ان كلّ حساباته خاطئة وانّه كان عليه ان يرحل مع نهاية ولاية باراك أوباما. كان خروج أوباما من البيت الأبيض وجون كيري من وزارة الخارجية بمثابة بداية النهاية للوزير الظريف الذي استغل جهل كيري بما يدور في الشرق الاوسط ومنطقة الخليج الى ابعد حدود.

جاءت إدارة دونالد ترامب لتقول ان ثمّة حدودا للسذاجة وان اميركا ليست قادرة بعد الآن على رفع العقوبات عن ايران ومتابعة العمل بالاتفاق في شأن الملفّ النووي الايراني وما يترتب على ذلك. صارت هناك إدارة أميركية جديدة مزّقت الاتفاق النووي وزادت العقوبات. هناك إدارة فتحت كلّ ملفات ايران منذ احتجار رهائن السفارة الاميركية في طهران عام 1979 وعلى غير استعداد لاي تساهل مع الأدوار التي تلعبها السفارات الايرانية في العالم في خدمة "الحرس الثوري". ما الذي لدى محمد جواد ظريف يقوله لايّ مسؤول أوروبي او غير أوروبي يسأله مثلا عن نشاطات "حزب الله" في لبنان والعراق وسوريا واليمن والبحرين وفنزويلا... او عن تورط السفير الايراني في نيروبي في محاولة تهريب عنصرين من "الحرس الثوري" محتجزين في كينيا؟

كان على ظريف التأقلم مع ظروف عمل جديدة فرضت الإدارة الاميركية شروطها. لعلّ فشله الأكبر كان في رهانه على ان الاوروبيين يستطيعون عمل شيء لإيران مع تمسّكهم بالمحافظة على الاتفاق النووي. تبيّن ان اوروبا لم تعد ذات وزن وان كلّ دول العالم، بما في ذلك الهند والصين، مجبرة على الرضوخ للمطالب والعقوبات الاميركية بطريقة او باخرى.

اكثر من ذلك، اكتشف ظريف انّ بقاء أوروبا الى جانب ايران سيكون له ثمنه. هذا ما دفع قاسم سليماني الى التحذير قبل ايّام من أي مفاوضات تتناول الدور الإقليمي لطهران. قال ان اتفاقا من هذا النوع "يهدف الى القضاء على الروح في ايران الإسلامية وحركتها". اشار الى ان هناك نية لاتفاق آخر على غرار الاتفاق النووي. بدا واضحا ان اكثر ما يخشاه سليماني هو دخول ايران في اتفاقات في شأن صواريخها ودورها الإقليمي. قال: "اذا خضعنا لاتفاق ثان. سنضطر الى تطبيق اتفاقات أخرى. انهّم يريدون ان تخسر البلاد هويتها في الجوهر". ما لم يقله سليماني انّ ايران ترفض الثمن المطلوب منها أوروبيا. يبدو ذلك واضحا من خلال الطريقة التي تمت بها زيارة بشّار الأسد لطهران وظروف هذه الزيارة. تعكس طريقة الزيارة وظروفها أجواء تصعيدية في طهران ورغبة واضحة في اغلاق الأبواب امام كلّ بحث في الدور الإقليمي لـ"الجمهورية الإسلامية" وما تفعله هنا وهناك وهنالك.

على هامش مؤتمر ميونيخ للامن الدولي الذي انعقد أخيرا، لم يجد وزير الخارجية الايراني سوى الاستنجاد بصدّام حسين لتبرير سعي ايران الى تطوير صواريخها. لم يجب عن سؤال في غاية البساطة: هل كان صدّام حسين ليجد مبررا لمهاجمة ايران في العام 1980 لو اعتمدت "الثورة" سياسة عاقلة في التعاطي مع دول الجوار بدل سياسة "تصدير الثورة"؟ لو تصرّفت ايران بعقلانية تجاه العراق وقتذاك، لكان العالم كلّه وقف في وجه صدّام.  

ذهب ظريف ضحيّة لعبة لم يدرك حدودها اسمها لعبة التذاكي في وقت تبدو ايران مقبلة على احداث كبيرة. ليست استقالة ظريف بمثابة استقالة لوزير خارجية عادي بمقدار ما انّها هزيمة لخط سياسي جمع بين وزير الخارجية ورئيس الجمهورية. لا شكّ ان روحاني سيجد نفسه في وضع صعب في الأسابيع المقبلة بعدما تبيّن ان أصحاب السلطة الحقيقية في "الجمهورية الإسلامية" هم قادة "الحرس الثوري" الذي يقولون ان ايران "حققت تسعين في المئة من أهدافها في سوريا"، في حين ان كلّ يوم يمر يكشف مدى عداء الشعب السوري لكل ما هو إيراني ويمت له بصلة من قريب او بعيد.

بنى محمّد جواد ظريف كل رصيده على الاتفاق الذي وقعته ايران مع مجموعة الخمسة زائدا واحدا في شأن الملفّ النووي. كان لديه ما يبيعه لادارة باراك اوباما ووزير خارجيته جون كيري. لم تعد هناك بعد الآن بضاعة قابلة للتسويق لدى "الجمهورية الإسلامية" التي تبدو مصرّة على البقاء في سوريا في ظلّ نوع من التفاهم الروسي – الإسرائيلي.

اخطر ما في الامر انّ هامش المناورة لدى ايران لم يعد واسعا. صار عليها العمل في الهامش الضيّق المتاح مع ما يمكن ان يؤدي اليه من تصعيد في ظلّ المعرفة التامة ان الخروج من سوريا هو خروج من طهران. فبداية خروج الأسد الابن من دمشق بدأت مع خروجه العسكري من لبنان.