الأبنودي وتناقضات الشخصية الكبيرة

الشاعر عبدالرحمن الأبنودي بقي في العمق من الوعي، وكذلك في دائرة الضوء لعقود طويلة.
الخال استطاع أن يبدع قصيدة تدخل القلوب و"تعمَّر الدماغ" في الآن نفسه
كيف يٌدخلك رجال الأعمال إلى صالوناتهم ويُدخلك المعدمين إلى قلوبهم في نفس اللحظة؟ 

بقي الشاعر عبدالرحمن الأبنودي في العمق من الوعي، وكذلك في دائرة الضوء لعقود طويلة، ويرجع ذلك لأسباب عديدة من أهمها وأبقاها أنه فنان خاص وحقيقي ومتجاوز، حيث لو عددنا المجددين في مسيرة قصيدة العامية المصرية بعد البدايات والتأسيس التي تنتهي وترق عند العم بيرم التونسي ثم البداية الحقيقية على يد فؤاد حداد وصلاح جاهين، ثم مرحلة التعضيد عند عبدالرحمن الأبنودي وسيد حجاب وأحمد فؤاد نجم، ورغم الفوارق الفنية والمواقفية بينهم فإنك لن تستطيع تجاهل واحد منهم مهما اختلفت مع توجهاته أو تقلباته أو بالأحرى مع علو وانخفاض ترمومتر علاقته مع السلطة أو قرار السلطة باعتبار الشاعر عروة في قميصها أو عدواً.
الأبنودي شاعر متمكن وماكر يجمع بين البساطة والتعقيد في شعره وينحت شعراً من الطبيعة المصرية الشاسعة العمق والامتدادات واستطاع أن يبدع قصيدة تدخل القلوب و"تعمَّر الدماغ" في الآن نفسه. 
إن "جوابات حراجي القط" مثلاً عمل قار في الضمير بغض النظر عن أنه جزء من توهج المرحلة الناصرية، وهكذا الفنان الحقيقي يسرق مما هو عابر أوراد خلوده واستمراره. ومن يستطيع تجاهل "صمت الجرس" بتجريبيته الخلاقة أو "الموت على الأسفلت" الأنشودة الأكثر عذوبة في استشهاد ناجي العلي، وما إلى ذلك من أعمال شعرية كبيرة. حتى كتابه النثري" أيامي الحلوة" تكتشف وتسمع وأنت تقرأه شخصاً ليس بعيداً عن ملامحك وروحك أبداً.
إن من ينجحون في قراءة شرطهم التاريخي ويتعاملون معه بمعينهم العميق من الإبداع وكثير من الذكاء أيضاً ليسوا كثيرين؛ لكنهم يبقون ويشكلون وعينا ونظرتنا للدنيا.
وإضافة الأبنودي لفن الأغنية العربية إضافة مبهرة لا يمكن تجاهلها وحذفها من روحنا المجهدة، حيث حوّل الأغنية إلى صور غنية بالدهشة وباكتشاف أبعاد أخرى وطبقات متعددة للحب والموت والفرحة والحياة وأدخل المفردات والعوالم الشعبية وعمقها العبقري لدائرة الانتباه والاكتشاف بحذق ومهارة وفنية عالية. 

جمع الرجل بين حب البسطاء وبين احترام قطاعات كثيرة من المثقفين وكذلك على سخط قطاعات أكثر منهم ربما لأنهم اندهشوا مما اعتبروه توليفة عجيبة لا يقدر عليها إلا جبار. 
كيف تكون فناناً لا خلاف على دوره التجديدي وإضافاته وعلى ثقافته، ويسارياً لا اختلاف على انتمائه للمهمشين، وكيف تكون قريباً طول الوقت من السلطة ولا تستغني عنك أبداً رغم وضعك في السجن حتى ..!! 
كيف يٌدخلك رجال الأعمال إلى صالوناتهم ويُدخلك المعدمين إلى قلوبهم في نفس اللحظة؟ 
لم يستطع الجميع الاستغناء عنك لأنك تستحق وتقدر. كتبتَ في أعياد ميلاد مبارك لكنك انتقدته بعنف في السنوات الأخيرة. لفت النظر للسيرة الهلالية وأخرجتها للأعلام ولقطاعات كانت بعيدة عن بريقها رغم اتهام الباحثين لك بتهميش الطيب "جابر أبو حسين" .. الخ الخ من الشائعات والحقائق التي لا تُنسج إلا حول الكبار.
في النهاية سيبقى هذا الفنان الكبير صفحة مهمة في مشروع التجديد المصري في القصيدة العامية وفي الأغنية، وصفحة برّاقة لاقتراب المثقف الحاد والواضح من الحياة المعاشة وتحطيمه لأسطورة البرج العاجي.