الأتراك يئنون تحت وطأة المديونية والتضخم

حجم القروض غير المسدّدة للأفراد في تركيا يرتفع من 17 إلى 29 مليار ليرة تركية (1.55 مليار دولار) بين مارس وسبتمبر الماضيين.
24 مليون ملف لتسديد فواتير وديون أمام المحاكم التركية
حجم مديونية الأفراد ينسف صورة وردية ترسمها البيانات الرسمية
الوضع المعيشي والاقتصادي يحدد مشار صوت الناخبين في الانتخابات القادمة

أنقرة - في مشهد يسلط الضوء على حالة قاتمة، لم يعد "المختار" علي غولبينار في إحدى ضواحي أنقرة، يعرف أين يضع في مكتبه عشرات إشعارات الدفع التي تُرسل يوميا إلى سكان مديريّته وتعود إليه حين لا يتم تسليمها، ما يدّل على دوّامة المديونية التي يعاني منها الأتراك.

وهذا المشهد يبدو مناقضا تماما لصورة وردية ترسمها الحكومة التركية للوضع الاقتصادي، إذ يعيش كثير من الأتراك في دوامة المديونية في علامة أخرى على تردي الأوضاع المعيشية وتدهور المقدرة الشرائية والعجز عن سداد الفواتير والديون.

ويتزايد كثيرا عدد اشعارات فواتير غير مسدّدة وإخطارات رسمية أو استدعاءات إلى القضاء ويتعلق عدد هذه الرسائل في جزء كبير منها بتحصيل الديون، في غضون عامين لتصل إلى حوالي أربعين في اليوم في هذا الحيّ المتواضع الذي يضم 25 ألف نسمة.

وقال المختار "هذه ليست سوى الرسائل التي لم يتم تسليمها. تصوروا العدد الإجمالي. الناس لم يعد بإمكانهم تسديد ديونهم"، بنما تقول الصحافة التركية، إن 24 مليون ملف لتسديد فواتير تنتظر منذ اغسطس/اب الماضي أمام محاكم البلاد.

وبحسب الوكالة التركية لتنظيم المصارف، ارتفع حجم القروض غير المسدّدة للأفراد من 17 إلى 29 مليار ليرة تركية (1.55 مليار دولار) بين مارس/اذار وسبتمبر/ايلول الماضيين، بينما يعتبر ارتفاع المديونية أحد نتائج التضخم المرتفع جدا الذي يضرب تركيا، والذي تجاوز عتبة 84 بالمئة خلال عام وفق البيانات الرسمية، بينما تقول مجموعة خبراء مستقلين إنه تجاوز عتبة الـ165 بالمئة.

ويتعيّن على أكثر من 40 بالمئة من العاملين الاكتفاء بالحد الأدنى للأجور الذي سيرفع من 300 إلى 450 دولارا في الأول من يناير من العام الجديد.

لكن مع ارتفاع أسعار الإيجارات (+163 بالمئة خلال سنة في أنقرة و +144 بالمئة في اسطنبول)، ستبقى نفقات الإسكان تستهلك كل الراتب تقريبا من الأجور المتدنّية كما تقول هاجر فوغو المكلفة بمكافحة الفقر لدى حزب الشعب الجمهوري، أبرز حزب معارضة تركي.

وفي هذا الإطار، عادت ممارسة قديمة لتصبح شائعة مجددا وهي المشتريات بالدّين في متاجر الحيّ. وقال غولبينار إن "طلب قرض مصرفي أمر محفوف بالمخاطر، لكن البقّال المحليّ يعرفك ولن يرفضك".

وبناء على الثّقة وبدون توقيع أي وثيقة ولا سند فائدة، هذه المشتريات بالائتمان هي الملاذ الأخير لبعض العائلات المديونة.

وقال يوسكل كورت البقّال في منطقة كيشيورين في الضواحي الشمالية لأنقرة إن "الزبائن يطلبون بشكل متزايد الشراء بالدّين".

وأضاف "أنا مضطر لرفض بعضهم لأنني أعلم أنهم لن يدفعوا لي أبدا. إذا لم يتم دفع دين ما في غضون ستة أشهر فنحن نعلم أنه يجب نسيانه"، مشيرا إلى الصفحات الممزقة في دفتره حيث يسجل الديون.

وهذه المشتريات بالائتمان تركز على المنتجات الضرورية مثل الخبز والبسكويت والزيت لكنها تضاف إلى لوائح ديون طويلة أساسا.

ويضيف كورت "كثيرون يسددون ديونهم عبر الاقتراض من مكان آخر". ورفضت امرأة شابة دخلت لشراء السجائر بالدّين التحدّث وقد بدا عليها الانزعاج.

وفي مخبز مجاور يذكر كمال آيغون بأن المتاجر بحد ذاتها مديونة أيضا قائلا "أنا مدين بعشرة آلاف ليرة تركية (535 دولار) لمورّد الدّقيق. كل شهر أطلب من أصدقائي مساعدتي".

وحتى العام 2021، كانت الحكومة التركية تشجّع دوامة الدّيون هذه كما يقول الخبير الاقتصادي ارينج يلدان، موضحا أنه "تم تسهيل الحصول على قروض مصرفية لتشجيع نموّ افتراضي". والنتيجة: حصل أفراد ليس لديهم عمل ثابت أو دخل كاف على قروض لا يتمكنون الآن من سدادها كما قالت فوغو، مضيفة "إنهم يواجهون معضلة: دفع الإيجار أو أخذ أولادهم إلى الطبيب أو سداد قرضهم".

وفي بلديات تديرها المعارضة التركية مثل اسطنبول وأنقرة، يتيح موقع الكتروني دفع فواتير المياه والغاز، لكن ليست هناك أي هيئة مكلفة تحديدا المديونية المفرطة.

وقال يلدان "هناك إجراءات محددة بلغت حدّ أعمال خيريّة بدون أن تعتبر مؤسساتية"، بينما قالت فوغو إن هناك مساعدات حكومية للأكثر فقرا لكنها غير كافية.

ومع اقتراب الانتخابات الرئاسية والتشريعية في يونيو/حزيران 2023، تكثّف الحكومة المبادرات، فقد أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في مطلع نوفمبر عن شطب ديون تقل عن ألفي ليرة تركية (105 دولار) بشرط أن يعطي الدائن موافقته، لكن غولبينار يبقى مشككا ويقول "لا أعرف أي شخص استطاع الاستفادة منها".

ويشكك خبراء في جدية وفاعلية الإجراءات التركية الرسمية ويعتبرون البيانات الرسمية التي تشيع صورة وردية لوضع قاتم مجرد دعاية انتخابية.

ويواجه أردوغان وحزبه وضعا صعبا في الانتخابات القادمة التي يعتبر فيها الوضع الاقتصادي والوضع المعيشي محددا رئيسيا لمسار أصوات الناخبين.

وقبل أشهر من الاستحقاق الانتخابي يتحدث المحللون عن تصويت عقابي قد يخرج حزب العدالة والتنمية ذو المرجعية الإسلامية من الحكم كما أخرج نظيره المغربي في انتخابات العام الماضي.

ويكابد أردوغان لترقيع شعبية متهاوية عبر اجراءات يصفها خصومه وخبراء بأنها تسكينية لن تغير في واقع الوضع المتردي شيئا مع ارتفاع قياسي في معدل التضخم وبقاء الليرة في مربع الاضطرابات وغياب مؤشرات ايجابية على خروج محتمل من النفق المظلم.