الأدواتُ الأيديولوجيّة الإيرانية للتأثير على الدائرة الأوروبيّة

حملة تعقب أوروبية للمراكز الشيعية على أنْ يُتبَع ذلك بسنّ تشريعات تقوض حرية عمل المراكز وتحرمها من صلتها بالنظام الإيراني.

بقلم: محمد بن صقر السلمي

فيما حظيت أوروبا بأهميةٍ جيو_سياسية واقتصادية وتاريخية بالغة في العقلية الإيرانية لعقود طويلة، لعب العامل الأيديولوجي دورًا مركزيًا في توجهات النظام الإيراني تجاه الدائرة الأوربية على مدى أكثر من أربعين عامًا من الحكم الثيوقراطي لإيران في مرحلة ما بعد الثورة بحكم وقوعها ضمن المجالات الحيوية الثلاثة ضمن الإستراتيجية الإيرانية الكبرى لتدشين الجمهورية العالمية المنشودة إيرانيًا تحت قيادة الولي الفقيه بوصفه نائبًا عن الإمام الغائب في العقيدة الإيرانية المعلنة، إذ لا تنحصر ولاية الولي الفقيه على الحدود الجغرافية الإيرانية، بل تمتدّ لتشمل جميع المسلمين في كافة أصقاع الأرض، وليس الشيعة فحسب.

كذلك، تتمتع أوروبا بثقلٍ وتأثيرٍ كبيريْن على الخريطة السياسية العالمية وتمتلك أوراق ضغطٍ هائلة في مختلف القضايا الدولية ولا سيَّما القضايا الشرق أوسطية إلى أنْ أضحت قطبًا دوليًّا ضمن مجموعة أقطاب دولية مرشحة لإحداث تحول في النظام الدولي من الأحادية إلى التعددية القطبية لاعتبارات القوة المادية وغير المادية وحجم النفوذ وقربها من مناطق المصالح الحيوية والإستراتيجية العالمية بوصفها تمثل نقطة ارتكازٍ إستراتيجية وقاعدة انطلاقٍ حيوية للإستراتيجية الإيرانية إلى مناطق جيوسياسية أخرى من العالم، ووجود دولتين أوروبيّتيْن ضمن الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن الدولي.

مازالت تمر أوروبا بالمرحلة الأولى من مراحل التمدد الشيعي، وهي مرحلة نشر التشيع، وربما أحيانًا تندرج بعض الحالات تحت المرحلة الثانية، وهي تسييس التشيع، وتعتمد إيران في نشر التشيع على أدوات الاختراق الناعم مثل: تدشين المراكز الثقافيّة والجمعيات الأهليّة الشيعية وتنظيم المؤتمرات والفعاليّات الشيعية في العواصم الأوروبية، وتنظيم البعثات التبشيريّة لغسل العقول والأدلجة والشحن الطائفي؛ وذلك لأسباب البعد الجغرافي، أو لضآلة الأعداد الشيعية فيها، أو لقوة أنظمتها السياسية واستقراراها؛ بما لا يتيح بيئةً مواتية للتمدد بالعسكرة مقارنةً بأعداد الشيعة في دول المجال الحيوي كالعراق وسوريا ولبنان، وقربها الجغرافي وضعفها بل واهترائها نتيجةً للاقتتال الطائفي والصراعات السياسية.

استغلت إيران منافذ عديدة للولوج نحو العمق الأوروبي وخلق نفوذٍ على تلك الساحة الحيوية في الإستراتيجية الإيرانية منها أجواء التسامح الديني والانفتاح والحريات الدينية والسياسية المتاحة في المجتمعات الأوروبية كحرية الرأي والتعبير والتنظيم، وسماح السلطات الأوروبية بممارسة الشعائر الدينية للأقليات المختلفة على أراضيها، وسهولة الإجراءات الأوروبية والإعفاءات الضريبية لتأسيس المراكز الثقافية والجمعيات الخيرية، فضلًا عن بعض الأعداد الشيعية الضئيلة المنتشرة في العواصم الأوروبية مقارنةً ببقية مناطق العالم، حيث يتراوح عدد الشيعة في آسيا من 180-200 مليون، وما يقرب من حوالي ثلاثة أرباع السكان الشيعة في العالم يعيشون في أربعة دولٍ آسيوية: إيران وباكستان والهند والعراق، كما يعيش أكثر من ربع الشيعة في العالم في الشرق الأوسط في إيران والعراق ولبنان وسوريا واليمن وبعض بلدان الخليج العربي.

تتطلع إيران مِن وراء نشر التشيّع في الساحة الأوروبية إلى تحقيق عددٍ من الأهداف، منها: بروز إيران كدولة مؤثرة في النظام الإقليمي والدولي عبر امتلاك نفوذ وتأثير داخل النظام الإقليمي الأوروبي، وامتلاك نفوذٍ وتأثيرٍ كبيريْن داخل دوائر الفكر والسياسة والاقتصاد في الدول الأوروبية من خلال تكوين جماعات ضغطٍ داخل المجتمعات الأوروبية للتأثير على القرارات المتعلقة بإيران تمهيدًا للانتقال إلى المراحل التالية للتمدد الشيعي من عسكرة وخلافة، وتوظيف الشيعة في أوروبا لخدمة مشروع إيران وتحقيق أهدافٍ أمنية واستخباراتية لإيران من خلال تجنيد بعض العناصر الأمنية والاستخباراتية في هذه المراكز؛ بهدف تنفيذ الأجندة الأمنية والاستخباراتية لإيران، وبروز إيران كدولة مركز لمسلمي أوروبا بما يصب في صالح الترويج لنظرية ولاية الفقيه بين السنة والشيعة في أوروبا، فضلًا عن الحد من نفوذ المعارضة الإيرانية بين أوساط المهاجرين الإيرانيين في أوروبا.

لا شكّ تمكّنت إيران من إنشاء ومد الصلة بالمراكز والجمعيات الشيعية التي ترعى مصالح الجاليات الشيعية في البلدان الأوروبية، خصوصا أنَّ هذه المراكز بدا يتعدى دورها النشاط التبشيري والدعوى والرعائي، واستطاعت أن توظف علاقتها معهم لخدمة سياستها الخارجية وقوتها الناعمة بإحياء المناسبات مثل: الاحتفال بذكرى الثورة الإيرانية، وتأبين الخميني في ذكرى وفاته، والاحتفال بيوم الغدير، والاحتفال بيوم عاشوراء..إلخ، والترويج لولاية الفقيه كمشروعٍ سياسي ملهم، بل أمكنها توظيف هذه العلاقة في تنفيذ مهام أمنية واستخباراتيّة وإرهابيّة داخل بعض الدول الأوروبية، فضلًا عن بناء شبكاتٍ دولية للتغلب على العقوبات الدولية، ووصل دور إيران في توظيف تلك المراكز في التأثير على التركيبة المذهبية في هذه البلدان، بل وتشييع أبناء جاليات الدول العربية والإسلامية، واستخدامهم كمنابر تبشيرية في بلدانهم الأم.

بالنظر إلى ما آلت إليه الأوضاع المأساوية في الدول التي غضت الطرف عن التدخل الإيراني في المنطقة الشرق أوسطية بطريقةٍ مباشرة أو غير مباشرة مقصودة أو غير مقصودة من اقتتال وفتنٍ طائفية وحروبٍ أهلية دمرت طاقاتها وفجرت مؤسَّساتها وشردت أطفالها ونساءها وشيوخها. يمكن القول، إنَّ هذا التدخل يبدأ بمرحلة نشر التشيع لخلق ظهيرٍ داخل هذه الدول لاختراقها وكسب ولائها وتأييدها ثُمَّ تسييسه فعسكرته ثُمَّ دمجة في الأنظمة القائمة، وبالتالي فمرحلة نشر التشيع هي أهم مرحلة يمكن خلالها مواجهة الأذى الإيراني لوقف مخططات تخريب الدول وتقسيمها وإضعافها، كما أنَّ تكلفة مواجهة هذه المرحلة الماديّة والسياسيّة أقل بكثير من مواجهة الأذى الإيراني إذا ما انتقل إلى مراحلَ متقدمة من التمدد الشيعي كما هو الحال في العراق وسوريا واليمن ولبنان، يقف العالم عاجزًا عن مواجهة وإخراج الميليشيات المسلحة الموالية لإيران من سوريا والعراق وغيرها.

فلم يعُد دور المراكز الثقافية الشيعية بالعواصم الأوروبية يقتصر على الأدوار الدعوية والرعوية بل اتجهت لتكون أداةً لدعم النفوذ الإيراني في أوروبا بدءًا بنشر التشيع، ومصدر تهديدٍ لاستقرار المجتمعات الأوروبية، إذ لا يخفى على أحد ارتكاب إيران ممثلةً بأذرعها وعملائها سواءً من الحرس الثوري أو حزب الله اللبناني العديد من العمليات الإرهابية على الساحة الأوروبية (اليونان، فرنسا، النمسا، بلغاريا، ألمانيا، بلجيكا) خلال الفترة من 1985-2019، بدءًا بعملية اختطاف حزب الله بدعمٍ إيراني لطائرة «TWA flight 847»، وبقتل غواصٍ في البحرية الأمريكية في يونيو 1985، حتى إلقاء القبض على عملاء إيرانيين من ضمنهم مسؤولٌ إيرانيٌّ إذ خططوا لزرع قنبلةٍ تستهدف تجمعًا معارضًا لإيران في باريس خلال عام 2018.

حتمًا ستُهدد الأنشطة الإيرانية على الساحة الأوروبية لنشر التشيع منظومة القيم الأوروبية وتماسك الدول الأوروبية، وهو ما ظهرت بوادره في حملة التعقب الأوروبية للمراكز الشيعية، على أنْ يُتبَع ذلك بسنّ تشريعات تقوض حرية عمل المراكز الشيعية وتحرمها من صلتها بالنظام الإيراني، وتقطع عنها مصادر التمويل، وحرمانها من الإعفاءات الضريبية وغيرها من الامتيازات، وقد اتخذت بالفعل الدنمارك وفرنسا خطواتٍ في هذا الاتجاه، إذ توفر علاقة إيران بالمراكز الشيعية في أوروبا ساحةً وعناصر قد توظفهما لخدمة مشروعها ونفوذها في ساحاتٍ عديدة حول العالم، وساحةً للتهرب من العقوبات وتكوين شبكاتٍ عابرة للحدود لتجارة السلاح والمواد النووية، وتهريب الأموال وتجارة المخدرات والسلاح وغيرها من الأعمال غير المشروعة.

نُشر في المعهد الدولي للدراسات الإيرانية