الأزهر والإيهام بتجديد الفكر الإسلامي

الأصولي يخشى تجديد التراث إذ يرى فيه هدما لا تقوم بعده قائمة لا يرى فيه هدما بغرض البناء بحسب ما يتطلّبه الحاضر.

بقلم: هدى شقراني

مؤتمر الأزهر العالمي للتجديد في الفكر الإسلامي، الذي نُظم مؤخّرا في القاهرة، هو مؤتمر فرضه دوران الأزمان. فمقارعة الأصوليّة الإسلاميّة ضرورة مُلحَّة سيفرضها بشدّة واقع متغيّر لم يعد يقوى على شدّه قسرًا إلى الماضي الثقيل بخيوط رفيعة جدا. هو مؤتمر يؤكد لنا أن هذا الشدَّ القويّ إلى الوراء أو الأصول يدلُّ على أنّ هنالك قوّة دفع إلى الأمام قويّة أيضا حتّى وإن كانت لا تضاهي حجم القوّة الأصولية لكنّها تتفوّق عليها فكريّا وعلميّا. هي قوّة لا تقف على الأطلال ولا تبكي على الماضي.

هُزم العقل وانتصر اللاَّعقل مرّة أخرى. وأتت جماعة الإخوان المسلمين ولعبت دورا في افشال ذلك المشروع وفاقمت انحراف العقل المهيمن، الذّي ضُرب في مقتل بفعل كل هذه التراكمات وفاقمت جماعة الإخوان تورُّط الإسلام في المعركة السياسية.

ثم أتى الخميني بثورته الإسلامية. ومرَّت علينا العشريّة الجزائرية السوداء في التسعينيات. وأتت العشريّة الأخيرة بموجتين ثوريتين صعد في موجتها الأولى خاصة الإسلاميون للحكم وبرزت قوى ظلامية مَغوليّة. إنه الانسداد التاريخي في أعمق تجليّاته. هي موجة ثورية تم فيها إحياء السؤال حول كلِّ شيء. كل هذا وأكثر يجعل من ظروف طرح التحديث في يومنا هذا مهيّأة أكثر.

تريد الأصولية الإسلامية أن تسوِّق مطلب مراجعة التراث على أساس أنه مطلب غربي يُراد به تشتيت الأمّة. وأمام هذه القوّة الغربيّة الفكريّة والفلسفيّة التّي نبشت في التُّراث والإنسان والوجود، وأمام هذه القوّة العلمية والتكنولوجية غير المكتفية بما حصلت، ليس لدينا، حسب الأصولية الإسلامية، إلاَّ القرآن بصفته آخر تجلّ لكلام الله لنرفعه في وجه هذه القوّة. تقترح علينا الأصولية أن نكتفي بالقرآن ونقدّمه ككتاب دين وأخلاق وعلم ويقدمه البعض دستورًا أيضا بعيدا عن كل ما هو وضعي فيه مراعاة لتغيّر الأزمان.

أمام مطلب التحديث، يطلب منّا شيخ الأزهر الالتفاف حول تراثنا وسلفنا. نعم، الأصولي يخاف المسَّ من قداسة الماضي بكل تراثه وأسماءه. الأصولي يراهن على نص غير راهن في مجمله. هو مستقر وغير طيّع فكريا، مكتفٍ بالنص الأول. لا يصيب الأصولي القلق الفكري الذي ينتجه الحاضر. فبالنسبة للأصولي، النص الأول هو حل لمشاكل راهنة، لكنها مشاكل لم تكن قائمة حين كُتب النص الأول. فـ"الأصولي لا يجيد قراءة التّاريخ ولا قراءة النصوص ويقفل باب الإبداع مكتفيا بوهمه النظري".

خلال هذا المؤتمر، وفي ردٍّ على رئيس جامعة القاهرة، محمد الخشت، الذي تحدَّث عن ضرورة مراجعة التراث، قال شيخ الأزهر "إن إهمال التراث بأكمله ليس تجديدا وإنّما إهمالا." وطبعا ليس هذا ما يقصده محمد الخشت ولا أغلب المجدِّدين، إذ "لا يمكن تبنّي التراث ككل لأن العناصر المقوّمة للماضي لا توجد في الحاضر".

يخاف الأصولي من تجديد التراث إذ يرى فيه هدما لا تقوم بعده قائمة ولا يرى فيه هدما بغرض البناء بحسب ما يتطلّبه الحاضر. لكن الهدم لا يمكن أن يكون بالكامل فالتغيير لا يمكن أن يبدأ من الصفر. وهو ما يجعلنا نسأل: "هل الماضي عبء أم حافز؟"  وتجيبنا وقائع تاريخنا على ذلك فنحن لسنا متأكدين "من وجود حالات تاريخية متحققة لعب فيها الماضي حافزا على التقدم إلى الحد المتصوَّر في التخييل النهضوي العربي".  هذه الماضويَّة المطلقة التي تمتلأ وتزهو بها الأصولية الإسلامية سيخترقها الحاضر عاجلا أم آجلا.

للأسف تجثم الأسماء فوقنا وتجثم فوق الأسماء عَبدتها. يُؤلَّه الإسم ويحوم في فلكه المؤمنون بقداسته. تحضر الحقائق المطلقة، التّي دافع عنها شيخ الأزهر بكل ما أوتي من قوّة، وتكثر المسلَّمات. احدى هذه المسلَّمات هي مسلّمة علويّة الإسم وتفوُّقه. وأمام هذه المسلّمة يتلاشى العقل والوعي وينتفي الإبداع والتّنوير ويحضر التّخوين والتّكفير والقتل. القالب الأصولي ينتج مخوّنين ومكفّرين وقتلة لمن ضاق بهم هذا القالب.

أشار شيخ الأزهر في وقت سابق للمؤتمر، "أنّ في التعدد ظلم للمرأة وأنّ من يقولون إن الأصل في الزواج هو التعدد مخطئون." وأكّد على ضرورة قراءة الآية التي وردت فيها مسألة تعدد الزوجات بشكل كامل، فالبعض يقرأ "مثنى وثلاث ورباع"، وهذا جزء من الآية، وليس الآية كاملة، فهناك ما قبلها وما بعدها.

إعادة تأسيس الدين على العقل، أي بجعل العقل حكما ومرجعا في أمور الدّين والعقيدة، بدلا عن قراءة الموروث المتأسسة على سلطة النقل وتوخِّي القراءة التاريخية لهذا الموروث كلُّها صارت ضرورات ملحَّة لنتكيّف مع متطلبات حاضرنا. "فـالنص في حقيقته وجوهره منتج ثقافي، والمقصود بذلك أنه تشكّل في الواقع والثقافة خلال فترة تزيد على عشرين عامًا، وإذا كانت هذه الحقيقة تبدو بديهيّة ومتفقًا عليها، فإنَّ الإيمان بوجود ميتافيزيقي سابق للنص يعود لكي يطمس هذه الحقيقة البديهية ويعكر من ثمَّ إمكانيَّة الفهم العلمي للنص".

أما آن السَّماح للعقل أن يتواجد في نفس المكان مع من صادر مكانه بعنف لقرون طويلة؟ أما آن أن نتخلى عن الأحاديّة لصالح التعدديّة؟ أما آن للمراجعات الفكرية العميقة والدّقيقة أن تنبعث وللمصالحات أن تتحقّق؟ أما آن لعمليّة تجديد الفكر الإسلامي أن تبدأ؟ وأيُّ تجديد لن ينمو إلاَّ في إطار تغيير شامل يطال التعليم ومناهجه التّي يجب أن تتصالح مع الفلسفة والعلوم الإنسانية. أيُّ تجديد يتطلّب مساعدة من رجال الدين التقليدين. و"ينبغي على المفكر المسلم المعاصر أن لا يجرح الوعي الإيماني وألاّ يعامله بفجاجة وينبغي على علماء الدين التقليديين أن يؤدوا دورهم كوسطاء ذوي مصداقية بين هذا الوعي الإيماني وبين متطلّبات المعرفة العلميّة الحديثة".

أعتقد أنٌنا مدعوُّون بجدية بالغة إلى عقلنة تعاملنا مع تراثنا فـ"ما لم نمارس العقلانية في تراثنا ومالم نفضح أصول الاستبداد ومظاهره في هذا التراث فإنّنا لن ننجح في تأسيس حداثة خاصّة بنا. حداثة ننخرط بها ومن خلالها في الحداثة المعاصرة -العالميّة - كفاعلين وليس كمجرد منفعلين".

ملخص منشور قنطرة الألمانية