الأصوليون.. والمجتمع التقليدي

غلاة المتطرفين استطاعوا تحويل عموم المتدينين إلى انغلاقيين غير واعين بانغلاقهم حتى أصبح هؤلاء العموم متطرفين فطرة يمتدحون اعتدالهم المزعوم غير مدركين أن اعتدالهم هو عين التطرف وأنه الخطوة الأولى في طريق الإرهاب أو تأييده.

بقلم: محمد المحمود

أعلن التقليديون المتطرفون عليَّ حربا شاملة. فتحوا كل جبهات القتال التي اعتقدوا أنهم سيستطيعون إسكاتي من خلالها. جبهة إكمال الدراسات العليا، وجبهة الاستقرار الوظيفي، وجبهة التشويه الاجتماعي، وجبهة الضغوط العائلية، وجبهة الشتائم الإعلامية (ما يعدونه نقدا وهو تكفير صريح أو تكفير مضمر)، بل وجبهة التهديد بالقتل.

في هذه الحرب الشاملة استخدموا كل الأسلحة، المشروعة، وغير المشروعة/ القذرة، معتقدين أنهم في "جهاد" عظيم لنصرة دين الله. حتى الوالد ـ حفظه الله ـ استغلوا تديّنه الفطري ودماثة أخلاقه وثقته العامة بالمتدينين، فألحوا عليه أيما إلحاح ليتحول من "أب رحيم" إلى "خصم خصيم" في حربهم القذرة التي حاولوا أن يُصوِّروها له بوصفها حربا ضروسا بين الإيمان والكفر، وأن عليه ـ بوصفه مؤمنا متدينا ـ أن يكون في صفوف المؤمنين، ضد الكافرين الضالين المُضلّين، وطبعا هم من المؤمنين، وأنا من الكافرين؛ كما يزعمون!

لقد استطاع غلاة المتطرفين تحويل عموم المتدينين إلى انغلاقيين غير واعين بانغلاقهم، إلى رافضين لأي اختلاف؛ حتى أصبح هؤلاء العموم متطرفين فطرة/ طبيعة، بحيث يمتدحون "اعتدالهم" المزعوم في مقابل المسلك الإرهابي العيني، غير مدركين أن "اعتدالهم" هو عين التطرف، وأنه الخطوة الأولى في طريق الإرهاب أو ـ على الأقل ـ في طريق تأييد الإرهاب.

لقد أصبح "المتدين العادي" يتوهم نفسه قَيّما على تديّن الناس أجمعين، وأنه المحظوظ بـ"أصدق وأصفى عقيدة"، دون العالمين. لهذا، تجده يُطالب كل مفكر/ كل مثقف/ كل إعلامي أن يوافقه في كل شيء، يحاصره ليكون متحدثا باسمه، وإلا فهو ـ في أيسر الأحوال ـ مرفوض على مستوى موقعه كمفكر/ كمثقف/ كإعلامي، وعلى مستوى وجوده المحض كإنسان.

حتى رجل الدين المنتمي لهذه المنظومة التقليدية، يكفي أن يختلف معها في أقل من 1 في المئة من فروع العقائد وليس من أصولها، حتى يكون مصيره التضليل الذي يقف به على تخوم التكفير. تضليله وربما تكفيره لا يصدر فقط عن مشاهير "السلك الكهنوتي" (الرائج جماهيريا، والموجود ضمنيا/ دونما تنظيم ظاهر، والذي يعدّ نفسه حامي حمى الإسلام) وإنما أيضا يصدر أيضا من عموم المتدينين، ابتداء من عند أنفسهم، وليس اقتداء بما يقوله الكهنوت الديني؛ لأن مقولات التراث الذي يتشرعن به الكهنوت قد أصبحت من جملة الثقافة العامة لـ"المتدين العامي" الذي ينطق بلسانها على سبيل الجزم واليقين.

يمكنك أن تلاحظ الأثر الأخطر للتقليدية في اندياح مفاهيمهما ومقولاتها على سطح الوعي الاجتماعي، من خلال ملاحظتك لضمور الفعاليات النقدية حتى عند المتخصصين في فروع المعرفة. لدينا في أوطاننا مئات، وربما آلاف المتخصصين في علم الاجتماع، وفي علم النفس، وفي علم التاريخ، وعلم اللغويات، وفي الأنثروبولوجيا، وفي علم الأديان المقارن...إلخ، ومع هذا فلن تجد لهم دراسات نقدية جادة تعاين التراث والتاريخ والسرديات العقائدية الموروثة بموضوعية علمية محايدة. لقد تحوّل هؤلاء إلى "عوام" تقليديين في موقفهم من كل ما يتعلق بالأنا، حضاريا وعقائديا؛ لأنهم يدركون أن أي اختلاف، فضلا عن النقد والتشريح، سيضعهم على محك التضليل والتكفير، بل إن كثيرا منهم انخرط في محاولة التبرير الاجتماعي، أي أصبح متحدثا بلسان الثقافة الاجتماعية التقليدية السائدة المُبَجِّلة للتراث، المتشنجة عند أول مساس به على سبيل النقد الذاتي.

المفاجأة الأكبر أنني منذ وقت قريب، لا يتجاوز بضعة أشهر، احتجت للبحث عبر "تويتر"؛ فاطلعت على كم هائل من الهجوم الذي سبق دخولي عالم "تويتر" بسنوات. قبل ذلك، كنت لا أعرف، ولا أريد البحث عن شيء في "تويتر"، إذ هو في نظري مجرد أداة نشر تواصلي عابر، وليس مدونة نشر وتوثيق فكري/ ثقافي يرجع إليها.

لكن، عندما بدأت البحث عن أشياء محددّة تتعلق بي، اكتشفت ـ عرضا ـ أن كثيرين هاجموني بعنف غير مفهوم، بل ونادوا صراحة بوجوب منعي من الكتابة؛ مع أنني لم أكن أعرفهم، بل ومع أن كثيرا منهم لا ينتمون صراحة للمسار الديني المتطرف الذي يهاجمونني من خلاله، أو يهاجمونني بناء على نقدي له. مستوى عال جدا من الحق والكراهية والتحريض لمجرد الاختلاف النقدي يشي بطبيعة الثقافة المجتمعية الانغلاقية التي استطاع المتطرفون دينيا تثبيتها في الوعي الاجتماعي العام.

إنني هنا لا أتحدث عن معاناتي الخاصة لذاتها، فهي بذاتها محدودة، ولا أثر لها ـ أثرا مباشرا ـ إلا عليّ، وإنما أتحدث عن معاناة مجتمع، عن كارثة مجتمعية من خلال الحديث عن معاناتي. كارثة أن تكتسح ثقافة الانغلاق وعي شرائح كثيرة من مجتمعنا، كارثة أن يتحوّل الضيق بالنقد الذاتي للموروث/ للتراث إلى مبدأ عام يتمفصل عليه وعي عموم المتعلمين، وليس فقط وعي عموم المتدينين.

أن يجعلك كثيرون (من غير المتدينين ظاهريا؛ حتى وإن كانوا يتمثلون ثقافة الانغلاق الديني دون وعي) عدوهم الأول (دون أدنى سابقة من تماسٍ اجتماعي أو فكري، بل فقط لمجرد أنك تمارس حقك في نقد التراث أو نقد التاريخ أو نقد العادات والأعراف الاجتماعية)، فهذا يعني أن أمامنا عشرات السنين التي تفصلنا عن اللحظة/ النقلة الفكرية النوعية التي نستطيع فيها أن نضع أقدامنا على العتبة الأولى في سلّم التنوير.

ملخص المنشور في شبكة الشرق الأوسط للإرسال