الأغنية الأمازيغية من مواويل الأجداد إلى النغمات الرقمية

الثورة التكنولوجية أمكنت للأجيال المتعاقبة في المغرب أن تتمم رحلة الرواد بأشكال متنوعة.

الرباط - ينبعث من قمم جبال الأطلس المتوسط الشامخة صوت عيشة رقراقا يكسر صمت الصخور، ليتراقص على نغماته بلوط خنيفرة، صنوبر أزيلال، وأرز إفران، ففي عقدها الثالث، يبدو صوتها فتيا نقيا، يفرض وجوده وإن لم ترافقه آلات موسيقية أو مؤثرات صوتية.

وتصدح الشابة الخنيفرية على صخرة شاهقة قرب بيتها الريفي بمنطقة عيون أم الربيع، بشذرات من فن تماوايت وهو موال غنائي يميزه طول النفَس، ويؤديه رجل أو امرأة بأحاسيس جياشة تنعكس من ثناياها صور صوتية لمناجاة إنسانية يصعب تجاهلها.

وبدت عِيشة أثناء انغماسها في تماوايت في قمة الانصهار مع اللحن الشجي المنسكب من صوتها البِكر، ومع الكلمات المعبرة المنطلقة من لسانها الأمازيغي الفصيح.

وعن تعلقها الشديد بهذا الفن، تقول عيشة "أحب الغناء وأجد حريتي في تماوايت. تعلمت هذا الفن وأنا طفلة، وتحول مع الوقت إلى جزء لا يتجزأ من طقوسي اليومية".

وعلى غرارعيشة، يحفل المغرب بمئات المواهب في تماوايت والألوان الغنائية الأمازيغية الأخرى، ومن بين هؤلاء هواة تعاطوا هذا الفن في الظل بغرض المتعة والاستئناس، وآخرون استثمروا مواهبهم الفطرية، فاحترفوا الغناء إبان الاستقلال، وأرسوا أسس الأغنية الأمازيغية الحديثة، وسار على دربهم من بعدهم، تقودهم عجلة التطوير والتجديد، وتحفزهم الحاجة إلى مواكبة العصر.

من تماوايت إلى الغناء المعاصر مرورا بأحيدوس وباقي الأصناف الشعرية المُغنّاة، ظهرت الأغنية الأمازيغية في الأطلس المتوسط قبل قرون خلت، وتأقلمت مع الحقب الزمنية المختلفة، مُشكّلة عنصر إثراء للثقافة المغربية الضاربة جذورها في التاريخ.

ويرى الأستاذ الباحث في الفن والتراث الأمازيغيين عبدالمالك حمزاوي في حديث لوكالة المغرب العربي للأنباء، أن الموسيقى الأمازيغية ظهرت مع الإنسان الأمازيغي مثلما ظهرت باقي الأنواع الموسيقية الأخرى مع أهلها كل بلسانه وخصوصياته، مشيرا إلى أن "الرجل الأمازيغي في الأطلس المتوسط، كان يغني وهو يحتطب أو يحرث أو يحصد، وكذلك كانت المرأة تفعل أثناء انهماكها في النسج أو غزل الصوف أو طحن القمح مثلا".

ويعد فن تماوايت نتاج لبيئة الإنسان الأمازيغي في الأطلس المتوسط، إذ "كان يُستعمل في زمن الحروب لبعث الرسائل المشفرة من جبل إلى جبل، وفي زمن السلم للتواصل المرموز بين رجل وامرأة يجمعهما الحب ويؤرقهما الوجد"، وفق حمزاوي.

ومن مميزات هذا الفن اعتماده على اللحن والرسالة وقوة الصوت. وتعد الراحلة يامنة نعزيز تفرسيت المولودة بإقليم خنيفرة سنة 1930 أول من سجل هذا الفن، ولها في أرشيف الإذاعة الوطنية خمسة تسجيلات خالدة.

وإذا كان فن تماوايت وأحيدوس هما الأبوان الشرعيان للأغنية الأمازيغية في الأطلس المتوسط، بحسب حمزاوي، فإن الراحل حمو اليزيد المولود في العام 1927 بعين اللوح، هو أول من نظم الأغنية الأمازيغية الأطلسية وأرسى قواعدها، قبل أن يسير على دربه من عاصروه أو جاؤوا بعد رحيله بسنوات. وقد تميز هذا الرجل بتعدد المواهب، فكان مغنيا لامعا، وملحنا بارعا، وكان يجمع كلمات أغانيه بذكاء من الشعراء الذين يلتقيهم في الأسواق بحكم مهنته كإسكافي.

ومن الأسماء الأخرى التي عاصرت حمو اليزيد وساهمت في وضع الأغنية الأمازيغية في الأطلس المتوسط على سكتها الأولى أوسيدي بناصر، موحى أوعلي أوموزون، وإيشو حسن وغيرهم كثير.

الثورة التكنولوجية وإن ساهمت في انتشار الأغنية الأمازيغية وطنيا ودوليا، إلا أنها تسببت في ظهور جيل يعتمد على المؤثرات والخدع الصوتية لإخفاء ضعفه الفني وجفافه الإبداعي

وانطلاقا من إرث الرواد، ظهر جيل ثان طور الأغنية بطريقته، ونقلها من مرحلة التأسيس إلى مرحلة إثبات الذات. من هؤلاء فنانون لم يتعاملوا مع الآلات الموسيقية كما وُجِدت، بل غيروا خصائصها وطَوَّعوها لتتلاءم مع اللحن الأمازيغي والأبيات الشعرية المُغناة.

ولفت حمزاوي إلى أن "لوتار" - على سبيل المثال - ظهر بوترين اثنين فقط، قبل أن يُضاف له الوتر الثالث على يد مجهول. وقد كان الفضل للراحل محمد رويشة في إضافة الوتر الرابع مساهما بذلك في خلق مساحة أوسع لعزف المقامات الموسيقية الرائجة في الأطلس المتوسط.

وعلى عكس الراحل رويشة، عُرف الفنان أوعشوش لحسن بإزالته للوتر الرابع من آلة الكمان كي يتسنى له العزف براحة أكبر.

ومن التغييرات التي طالت الآلات الموسيقية بالأطلس المتوسط تعويض جلد الماعز المستخدم في "البندير الأمازيغي" بجلد اصطناعي لا يتأثر ببرودة الطقس.

وفي ظل هذه التحولات، أمكن للأغنية الأمازيغية أن تُوثق بشكل دقيق خلال الخمسينيات من القرن الماضي، ذلك أن تسجيلات الأغنية الأمازيغية بشكل عام والأطلسية بشكل خاص بدأت بشكل محتشم سنة 1952، وفق حمزاوي، لكنها تأكدت وتعززت بعد الاستقلال مباشرة عندما تم إطلاق القسم الأمازيغي بالإذاعة الوطنية، وكان الراحل حمو اليزيد أول من سجل في الإذاعة مستهلا هذه المرحلة المهمة من تاريخ الموسيقى الأمازيغية الأطلسية.

ونتيجة للتسجيلات الإذاعية، وظهور أستوديوهات الإنتاج، وما أعقب ذلك من ثورة تكنولوجية ضخمة، أمكن للأجيال المتعاقبة أن تتمم رحلة الرواد بأشكال متنوعة. من هؤلاء مثلا الفنانة الخنيفرية شريفة كرسيت.

وكشفت كرسيت أنها منذ انطلاق مسارها الفني سنة 1980، ظلت وفية لأسلوبها على مستوى الصوت، لكنها اضطرت لمواكبة العصر من خلال الغناء مصحوبة بآلات موسيقية جديدة كالبيانو والأورج وغيرهما.

وأوضحت الفنانة الأطلسية أن عصر السرعة فرض عليها أداء أغان قصيرة لا تتعدى 4 دقائق، في حين كانت أغانيها القديمة تقارب 90 دقيقة.

وأبرز الفنان عبدالعزيز أحوزار أنه تعلم من جيل الرواد الشيء الكثير، لكنه سلك طريقا خاصا ينهل من الإيقاعات المغربية الأصيلة دون غيرها، ويحفظ للأغنية الأمازيغية الأطلسية تفردها عبر العالم.

وأشار إلى أن أسلوبه سمح له منذ سنة 1992 بإثراء خزانة الأغنية الأمازيغية في الأطلس المتوسط بأكثر من 35 ألف شريط حتى الآن.

وعلى عكس أحوزار، كشف الفنان مصطفى أومكيل المولود سنة 1973 بالقباب عن تأثره بفن الراي والموسيقى الهندية، لافتا إلى أن أسلوبه الغنائي وإن كان مستلهما من هذه الأنواع الموسيقية وغيرها إلا أنه يقدم الإضافة للأغنية الأمازيغية في الأطلس المتوسط.

المغرب يحفل بمئات المواهب في تماوايت والألوان الغنائية الأمازيغية الأخرى

ومما يتفق عليه الفنانان أحوزار وأومكيل أن الثورة التكنولوجية وإن ساهمت في انتشار الأغنية الأمازيغية وطنيا ودوليا، إلا أنها تسببت في ظهور جيل يعتمد على المؤثرات و"الخدع الصوتية" لإخفاء ضعفه الفني وجفافه الإبداعي.

ويهدف الاعتماد على المؤثرات الصوتية والتوزيع الرقمي لمواكبة العصر، وتحبيب الأغنية الأمازيغية في الأطلس المتوسط للأجيال الصاعدة، وفق الفنان الشاب نبيل باجا، قائلا إن شهرته على موقع يوتيوب تعود إلى أسلوبه المبتكر في إعادة أداء أغاني الرواد والذي يمزج بين الأصالة الأمازيغية والإيقاعات الشرقية والغربية.

أما الفنان الشاب يونس الهواري، فإن حبه للأغنية الأمازيغية دفعه لإنشاء أستوديو خاص به، وفق قوله، مضيفا أن أسلوبه الغنائي "ينهل من الأنماط الأمازيغية المعروفة في الأطلس المتوسط، وفي نفس الوقت يواكب التطورات الرقمية على مستوى الموسيقى والصوت، قائلا أغنية "نْدَّا نْدَّا مثلا قديمة في الأصل، إلا أني أخرجتها بتوزيع عصري جعلها تنال استحسان الجمهور".

وطالب الهواري بالتشبث بالألحان الأمازيغية الأطلسية الكلاسيكية، كما دعا إلى الانفتاح على الإيقاعات العالمية.

وتشير الأبحاث إلى أن الأغنية الأمازيغية في الأطلس المتوسط قد أثرت وتأثرت عبر الزمن بأنماط موسيقية مختلفة منحتها تفردا يثري الثقافة المغربية.

ويرى الأستاذ والباحث في الموسيقى أحمد عيدون أن المقامات التي تستعملها الأغنية الأطلسية مشرقية الأصل، وأكثرها ورودا هي البياتي والصبا والحجاز. لكن هذه المقامات "تختلف عن مثيلتها المشرقية في صياغة الجملة الموسيقية ونحو خاص من الزخارف، كما أن ملحني الأطلس لا يستعملون من المقام سوى جنسه دون فرعه".

ولفت عيدون إلى أن الأغنية الأمازيغية في الأطلس المتوسط لها تأثير متبادل مع فن الملحون في ما يتصل بالأعاريض الشعرية (القياسات ولْمرمَّات)، وأن المقامات والإيقاعات الأطلسية أثرت في جوانب معينة من فن العيطة والأغنية الشعبية عموما.

وعلى عكس الطرب الأندلسي والملحون اللذين يحضران بقوة في المؤسسات الموسيقية المغربية، كشف عيدون أن معظم المعاهد الموسيقية في بلادنا لا تُدَرس الأنماط الموسيقية الجهوية بما في ذلك الموسيقى الأمازيغية الأطلسية.

وتابع أن هناك محاولات سابقة لإدماج البعد الجهوي في التعليم الموسيقي من خلال تجربتين لم تستمرا، وهما إدخال الطقطوقة الجبلية في معهد طنجة وآلة الرباب السوسي في معهد أكادير.

وأضاف "لقد حان الوقت للتفكير في مقاربة الموسيقى الأمازيغية بصفة منهجية وعلمية حفاظا على أنماطنا الموسيقية التقليدية، ومساهمة في الرقي بها عبر مناهج ترتكز على تقوية التقاليد الشفوية بأدوات وتقنيات حديثة".