الإخوان المسلمون وفقه الدولة: الريسوني يصادم حسن البنا

الريسوني ينقلب على الإخوان عندما يقول: "المجال فسيح أمام الحركة الإسلامية ودعاتها وعمالها في أن تحقق الكثير من أهدافها ومن أحكام دينها ومن إصلاح مجتمعها من غير أن تقيم دولة ومن غير أن تمتلك سلطة وذلك من خلال العمل في صفوف الأمة ومن خلال بناء الأمة ومن خلال 'إقامة الأمة بديلا عن إقامة الدولة'".

بقلم: بابكر فيصل

ظل مطلب الوصول للحكم وإقامة "الدولة الإسلامية" يمثل الركن الأساسي في أفكار جميع حركات الإسلام السياسي، وفي مقدمتها جماعة الإخوان المسلمين، باعتباره الضمانة الوحيدة لتطبيق حكم الله القائم على الشريعة الإسلامية، وكذلك لكونه نقطة الانطلاق نحو استعادة "الخلافة الإسلامية" التي ستقود بدورها لسيطرة المسلمين على كل أرجاء المعمورة أو ما أسماه المرشد المؤسس، حسن البنا، "أستاذية العالم".

ونسبة لأهمية ذلك المطلب، أي إقامة الدولة الإسلامية، ومركزيته في فكر الإسلام السياسي، فقد رفع البنا من مكانته وجعله ركنا من أركان الإسلام، شأنه شأن الصلاة والصوم والحج، بحيث أضحى التقصير في طلبه وعدم السعي لإقامته يمثل خروجا على الدين نفسه.

يقول البنا في رسالة المؤتمر الخامس: "فالإخوان المسلمون يسيرون في جميع خطواتهم وآمالهم وأعمالهم على هدى الإسلام الحنيف كما فهموه، وكما أبانوا عن فهمهم هذا في أول هذه الكلمة. وهذا الإسلام الذي يؤمن به الإخوان المسلمون يجعل الحكومة ركنا من أركانه، ويعتمد على التنفيذ كما يعتمد على الإرشاد، وقديما قال الخليفة الثالث رضي الله عنه: 'إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن'".

وبما أن الحكومة عند الإخوان تعتبر ركنا لا يكتمل بنيان الدين بدونه، فإن السعي لإقامتها أصبح فرضا لا مناص منه وأولوية تسبق أي مطلب آخر، حيث اعتبر المرشد المؤسس أن "قعود المصلحين الإسلاميين عن المطالبة بالحكم جريمة إسلامية لا يكفرها إلا النهوض واستخلاص قوة التنفيذ من أيدي الذين لا يدينون بأحكام الإسلام الحنيف".

هذه الغاية المنشودة والمتمثلة في استخلاص قوة التنفيذ "الحكم" من أيدي كل حكومة لا تنفذ أوامر الله، هي أمر يتم الوصول إليه بجميع الوسائل بما فيها قوة السلاح والاغتيال والتفجير والانقلاب العسكري، ذلك لأنها فرض واجب لإقامة شرع الله.

ثم جاء سيد قطب ليكرس موضوع الدولة بصورة أكثر راديكالية من المرشد المؤسس، حيث قرر أن مهمة الجماعة الأولى هي تكفير المجتمع (الجاهلي) والخروج عليه خروجا تاما حتى يكتمل الإعداد للانقضاض على السلطة من أجل إقامة الدولة الإسلامية التي تكون "قاعدة التعامل فيها هي شريعة الله والفقه الإسلامي".

من المعلوم أن أفكار حسن البنا وسيد قطب في إطار فقه الدولة مثلت المنارة التي اهتدت بها جميع حركات الإسلام السياسي المنادية بتطبيق الشريعة الإسلامية، حيث استطاعت بعض تلك الحركات الاستيلاء على السلطة وقدمت تجارب في الحكم مثل دولة طالبان في أفغانستان، ودولة الإخوان المسلمين في السودان.

ولما كانت مختلف التجارب عكست نماذج بائسة من الاستبداد والفساد وانتهاكات حقوق الإنسان، فقد بدأ بعض الرموز المنتمين لتلك الحركات في مراجعة المنطلقات والمبادئ الفكرية التي تضع المطالبة بقيام الدولة الإسلامية في مقدمة أولويات حركاتهم، ومن بين هؤلاء زعيم حركة النهضة التونسية راشد الغنوشي.

في هذا الإطار كتب رئيس الاتحاد العالمي للعلماء المسلمين، الدكتور أحمد الريسوني، مؤخرا مقالا بعنوان "مستقبل الإسلام بين الشعوب والحكـام"، نشره في موقع الاتحاد على الشبكة العالمية. ومن المعلوم أن الاتحاد العالمي للعلماء المسلمين هو مؤسسة تتبع للتنظيم الدولي للإخوان المسلمين وقد قام بتأسيسه الشيخ يوسف القرضاوي في عام 2004 وظل يترأسه حتى عام 2014.

قال الريسوني في مقاله المذكور "لا نجد في شـرع الله تعالـى نصا صريحا آمرا وملزما بإقامة الدولة، كما لا نجد في شأنها نصوصا في الترغيب والترهيب على غرار ما نجد في سائر الواجبات. وإنما تقرر وجوب إقامة الدولة، ووجوب نصب الخليفة، من باب الاجتهاد والاستنباط، ومن باب النظر المصلحي والتخريج القياسي، وامتدادا للأمر الواقع الذي تركه رسول الله".

وأضاف أن "وجوب الدولة والخلافة إنما هو من باب الوسائل لا من باب المقاصد. فهي (أي الدولة) من قبيل ما لا يتم الواجب إلا به فهو اجب. بمعنى أن هذا الواجب ليس من نوع "الواجب لذاته" وإنما هو من نوع "الواجب لغيره". ومعلوم أن الواجب لغيره أخفض رتبة وأقل أهمية من الواجب لذاته".

الحديث أعلاه يناقض بصورة جذرية ما خطه يراع المرشد المؤسس من أن الدولة ركن من أركان الإسلام، ويؤكد أنها مجرد وسيلة لتحقيق واجبات أخرى، وهو الأمر الذي يمثل انقلابا كاملا في أولويات حركات الإسلام السياسي التي ظل همها الأول على الدوام هو الوصول للسلطة بأي شكل ووسيلة، حتى لو ترتب على ذلك وقوع مفاسد وأضرار كبيرة.

من المعلوم أن الحجة التي ساقها المرشد المؤسس لتبرير سعيهم لإقامة الدولة الإسلامية بأي وسيلة هي أن "الإخوان المسلمين لم يروا في حكومة من الحكومات التي عاصروها ـ و لا الحكومة القائمة و لا الحكومة السابقة، و لا غيرهما من الحكومات الحزبية من ينهض بهذا العبء أو من يبدي الاستعداد الصحيح لمناصرة الفكرة الإسلامية".

ولكن الريسوني لا يتفق مع هذا التبرير ويقول إن "الدولة القائمة قد يتأتى في كثير من الحالات إقامة بعض الدين في ظلها أو من خلالها، حتى ولو كانت منحرفة أو مناوئة أو معادية، فضلا عما إذا كانت محايدة أو محابية. وفي هذه الحالات أيضا فإن أهمية "الدولة الإسلامية" وضرورتها تنقص بقدر ما تتيحه 'الدولة القائمة' من فرص وإمكانات لإقامة الدين وإقامة أحكامه في الحياة الخاصة والعامة".

تؤكد التجربة السودانية أن الدولة قبل أن يسيطر عليها الإخوان المسلمين لم تكن تحارب الدين، وأنها لم تُضيِّق على المتدينين ولم تحد من إقامة شعائر الإسلام بأي شكل من الأشكال، وقد كانت أوضاع الدين العامة أفضل كثيرا مما هي عليه الآن بعد ثلاثة عقود من حكم الإخوان، حيث تحول الدين لمجرد مظاهر شكلية بينما انتشر الفساد والسرقة والمحسوبية، وعانى الشعب من كبت الحريات وانتهاك حقوق الإنسان بصورة غير مسبوقة.

فما أن أرسيت فكرة الدولة الإسلامية في أساس النظام السياسي السوداني، حتى عمدت إلى تنمية واحد من أكثر أنواع التعصب تطرفا، وتطفلت على حياة الأفراد، محكمة سيطرتها على أدق تفاصيلها، وسعت لحشر جميع الناس تحت راية فكرية واحدة.

وما أن استقرت تلك الفكرة كمحور ارتكاز للسلطة حتى تحولت لوسيلة رهيبة لمراقبة الضمائر، وباسم الدين والحقيقة المطلقة مارست أقصى أنواع الإكراه والإقصاء مخالفة بذلك لمقاصد الدين الحقيقية في الحرية والعدل.

ثم يخطو الريسوني خطوة كبيرة وجريئة قائلا إن "المجال فسيح أمام الحركة الإسلامية ودعاتها وعمالها في أن تحقق الكثير من أهدافها ومن أحكام دينها ومن إصلاح مجتمعها، من غير أن تقيم دولة ومن غير أن تمتلك سلطة، وذلك من خلال العمل في صفوف الأمة ومن خلال بناء الأمة ومن خلال 'إقامة الأمة بديلا عن إقامة الدولة'".

الحديث أعلاه يمثل نقلة نوعية كبيرة في تفكير أهل الإسلام السياسي، ويقترب من الدعوات التي ظل ينادي بها التيار المدني حول ضرورة الفصل بين المجالين الديني والسياسي، وأن تكتفي الجماعات الدينية بالعمل الذي ينشد إصلاح الأفراد وتنشئتهم على القيم التي من شأنها الإسهام في تطوير المجتمع من شاكلة الصدق والأمانة وتقديس العمل واحترام الوقت وغيرها، دون أن تقتحم مجال السلطة الذي من شأنه أن يضر بالطرفين.

إن دخول الجماعات الدينية ساحة العمل السياسي ومحاولتها ربط الدين بالسلطة يعني إهدار معناه، ذلك لأن السلطة بطبيعتها تُفسد العقيدة، وكل جماعة دينية تحاول الاقتران بالسلطة بقصد إصلاحها وتطويعها لا بد أن تقع فريسة لها وهذا الأمر ثبت بالتجربة العملية في التاريخ كما هو في الحاضر وسيكون كذلك في المستقبل.