الإخوان وممارسة الإسلام السياسيّ: سقوط التجربة وانعدام الفرص!

خطاب الإسلام السياسيّ التقليديّ من خلال الإخوان قد أفل وحَكَم على نفسه بالاندثار التدريجيّ وهذه النتيجة تستند إلى تجربتهم التي كشفتْ ضعفَ هذا الخطاب أمام التحدّيات التي تواجهه وعجزَه عن تجاوز النصّ الموضوع أو جعلِه أكثرَ مرونةً في التأقلم مع التغيّرات.

بقلم: عباس الزين

طَرح "الربيعُ العربيّ" العديدَ من التساؤلات عن مفهوم الحكم في مرحلة ما بعد سقوط الأنظمة، وكيفيّةِ نقل مفاهيم "الثورة" ومطالبها من الشارع الى السلطة البديلة. وقد برزتْ حركاتُ "الإسلام السياسيّ" حالةً تنطبق عليها تلك التساؤلاتُ، لِما أوردتْه من أجوبةٍ تعالج الإشكاليّاتِ التي رافقتْ مسارَها منذ بروزها، في عشرينيّات القرن الماضي، كجماعاتٍ تهدف إلى الوصول الى الحكم.

حين كانت تلك الجماعات "معارضةً" للسلطة طوال عقود، كانت ممارساتُها خاضعةً لخطابها الإيديولوجيّ. ولكنْ حين استلمت السلطةَ، تبيّن أنّ هذا الخطاب لم يكن في جوهره معارِضًا للأنظمة، بل لهيكليّة "الدولة الوطنيّة" وعناصرِها ومؤسّساتِها وبيئتِها الحاضنة، ولا سيّما أنّ القانون الذي يسيّر عملَ تلك الدول (واستمرّ في مرحلة ما بعد "الثورات") لا يخضع لمفهوم "حاكميّة الله"؛ وهو المفهومُ المركزيّ الذي تفرّعتْ منه مفاهيمُ الحكم الأخرى عند حركات الإسلام السياسيّ. ولئن استطاعت تلك الحركاتُ الوصولَ إلى الحكم في مرحلةٍ معيّنة، فإنّها لم تستطع إخضاعَ القوانين لمفاهيمها الخاصّة، بتعديلها بما يتناسب مع خطابها السابق. لا بل هي تبدو مدينةً لتلك القوانين، إذ إنّها وصلتْ إلى الحكم من خلال "الديمقراطيّة الشعبيّة الشرعيّة" التي تستند عليها تلك القوانينُ وتحميها.

ما بين المفاهيم الخطابية الخاصّة من جهة، وضرورات الحكم وممارساته الدستوريّة وعلاقاته الإقليميّة والدوليّة من جهةٍ أخرى، سقطتْ براغماتيّةُ حركات الإسلام السياسيّ بضربةٍ وجّهها خطابُها التاريخيّ إليها، ذاك الذي لا يحتمل التأويلَ. إذ وقعت تلك الحركات بين محظوريْن:

- فإمّا الاندماجُ في "الدولة" كما استلمتْها؛ وهذا ما لا يتناسب مع خطابها.

- وإمّا بناءُ دولةٍ تتماهى مع خطابها؛ وهذا ما لا يتناسب مع كونها مجرّدَ حالة اجتماعيّة، وسط حالات أخرى متباينةٍ ومتباعدةٍ في الإيديولوجيا والدين.

وفيما كانت حركاتُ الإسلام السياسيّ تجهد لتعديل خطابها كي يتناسب ومرحلةَ تسلّمها السلطةَ وصنْعَ القرار، كانت تحرق مراحلَ عديدةً لازمةً قبل ذلك؛ أبرزُها: مرحلةُ المشاركة في صنع القرار كطرفٍ في الدولة يعترف بمؤسّساتها الدستوريّة.

لقد أظهرتْ معارضةُ الإسلام السياسيّ لتلك المؤسّسات، ورفضُه المشاركةَ في صوغ قراراتها في مرحلةٍ سابقة، انتهازيّةً واضحةً في خطابه في مرحلةِ ما بعد وصوله إلى الحكم؛ وهي المرحلة التي رافقتها مخاوفُ شعبيّةٌ من هذا التحوّل الكبير والسريع من دون أيّ مراجعة عمليّة للأفكار.

***

ستنقلنا دراسةُ مسار حركات الإسلام السياسيّ، ضمن إطاره العامّ خلال السنوات الأخيرة، إلى الحالات الخاصّة، وعلى رأسها جماعةُ "الإخوان المسلمين" في مصر... لا سيّما أنّ هذه الجماعة، إلى جانب كونها "المركز،" تعبّر أيضًا عن الصورة الأوضح لرسم معالم إخفاق هذا الخطاب في بلورة نفسه كسلطة حاكمة. ويعود ذلك إلى افتقارها إلى عوامل النجاح الذاتيّة والداخليّة؛ وهو ما استغلّته القوى المنافسة في صعودها نحو الحكم بعد الإطاحة بها.

شكّل الصعودُ السريع لجماعة الإخوان في مصر، بعد نجاح الثورة في إسقاط نظام حسني مبارك، امتحانًا لبنيتها وجهوزيّتها لتسلّم السلطة. لكنّ التجربة القصيرة نسبيًّا تُظهر أنّ الجماعة لم تمتلك رجالَ دولة قادرين على تسيير شؤون الحكم بطريقة احترافيّة. وهذا ما كشفته احتجاجاتُ يونيو 2013، عندما تحوّل قياديّو الإخوان إلى "رجال عصابات" على المنابر، يهدّدون كلَّ مَن يخالفهم الرأيَ. وقد عبّر عن ذلك القياديُّ في "الجماعة الإسلاميّة،" صفوت حجازي، بتهديده الأقباطَ إنْ دعموا التظاهرات، قائلًا: "سيكون لنا معكم شأنٌ آخر في حال انضمامكم للفلول ضدّ مرسي!" تكشف كلماتُ حجازي، الذي كان قد ترشّح عن حزب "البناء والتنمية" (المعبّر عن الجماعة الإسلاميّة في مصر) لانتخابات الرئاسة 2012، قبل أن يتراجع الحزبُ عن ترشيحه، عن حالة الضياع التي عاشها الإسلامُ السياسيّ في مصر، وعدم تمكّنه البنيويّ والتنظيميّ من إيجاد رجال دولة يتعاملون مع التحدّيات الداخليّة كظواهر تهدّد الدولةَ لا جماعتَهم.

هناك حالاتٌ يكون فيها النظامُ الحاكمُ مرتبطًا بمؤسّسات الدولة، فيؤدّي سقوطُه الى سقوطها وانتشار الفوضى. لكنّ ممارسات الإخوان في الحكم في مصر أثبتتْ أنّ سقوط هذه الجماعة استقرارٌ للدولة. والسبب يعود إلى أنّهم لم يمتلكوا رؤًى سياسيّةً واقتصاديّةً واجتماعيّةً تؤهّلهم للبقاء في السلطة والدفاع عن حكمهم بوجه الاتهامات الشعبيّة، ولم يتعاملوا مع الدولة ككيان تنظيميّ تجب حمايتُه، بل مثّل وجودُهم في الحكم حالةً نافرةً عن هيكليّة الدولة، على الرغم من حيازتهم أغلبيّةً برلمانيّةً.

فالحال أنّ تلك الأغلبيّة لن تكون ذاتَ جدوى ما لم تجيَّرْ للصالح العامّ. والإخوان لم يجيّروا تلك الأغلبيّة للصالح العامّ بل لصالحهم الخاصّ. فصارت أروقةُ البرلمان تناقش أمورًا خاصّةً بهم، لا تعبّر عن تطلّعات الشعب، ولا تقدِّم حلولًا للمشاكل الاقتصاديّة التي يعانيها الشعب. وكثيرون يذكرون كيف رفع النائب ممدوح إسماعيل أذانَ العصر أثناء انعقاد الجلسة، ما أثار اندهاشَ زملائه، وتسبّب فى خروج رئيس البرلمان السابق عن الجلسة بقوله: "لستَ أكثرَ إسلامًا منّا،" كما أثار ردودَ أفعال محليّة ودوليّة واسعة على أداء نواب "الثورة." وتداول ساخرون عبر مواقع التواصل الاجتماعيّ طلبًا تقدّم به النائب أحمد عطا الله بتعويض شهداء الثورة بمئة ناقة لأسرة كلٍّ منهم، على اعتبار أنّها دية القتيل تطبيقًا للشريعة الإسلاميّة بدلًا من دفع 100 ألف جنيه. ويُذكر، في هذا السياق أيضًا، تقدّم أمين عامّ حزب الحريّة والعدالة بمشروع قانون لحظر المسابقات التلفزيونيّة! يضاف إلى ذلك تقدم نوّاب الإخوان بالعديد من التشريعات القانونيّة البرلمانيّة الخاصّة بـ"الشريعة الإسلاميّة،" ما سبّب جدلًا واسعًا في المجتمع المصريّ المتنوّع، وأظهر درجةً كبيرةً من اللامسؤوليّة وقلّة المهنيّة والخبرة السياسيّة التي رافقت عمل الأكثريّة البرلمانيّة الإخوانيّة.

إلى جانب ذلك، لم يطرح الإخوانُ أيَّ نظريّة ذات علاقة بالنظام الجمهوريّ الذي استلموه، ولا موقفَ "الإسلام" من هذا النظام، وإذا ما كان اعتمادُه في الحكم ممكنًا ضمن شروط معيّنة. لم تحظَ أسئلةُ الشارع تلك بأجوبة جماعة الإخوان، التي استلمت السلطةَ كـ"جائزة تشريفيّة" قُدّمتْ إليها بعد مشاركتها في الثورة، لا لأنّها مسؤوليّةٌ تقع على عاتقها من أجل تسيير شؤون الدولة.

يُضاف الى ذلك كلِّه عاملُ المفاجأة الذي أتى بالإخوان إلى السلطة. فهم لم يتصوّروا أنْ يصلوا إلى الحكم بهذه السرعة، ولم يستغلّوا هذا الأمرَ في دمج "شرعيّتهم" داخل الدولة ليعبّروا عن مشروعهم بطريقةٍ غير منفِّرة، بل تعاملوا باستعلاءٍ مع مختلف مكوّنات الشعب المصريّ. وهذا، بطبيعة الحال، سلوكٌ يعبّر عن فكرٍ اقصائيّ، يرفض الأحزابَ والتحزّب، ويعتبر نفسَه "الحقّ المطلق" الذي لا يُعارَض ولا يُناقَش، مصوّرًا نفسَه ممثّلًا أوحدَ لسلطة إلهيّة تنفذُ من خلاله.

بعد ثورة 30 يونيو 2013 المطالِبة بإسقاط الرئيس المصريّ محمد مرسي، خرج الإخوان إلى الشارع واعتلوا المنابر، محمّلين "الشعبَ" والجيشَ مسؤوليّةَ إخفاقهم، مصوّرين أنفسَهم كأنّهم مجرّدُ طرفٍ في الحكم، مع أنّهم كانوا مسيطرين على كلّ جوانب الدولة. واللافت ليس إحالتَهم سببَ فشلهم على ما اعتبروه "مؤامرةَ"  فقط، بل عدمَ قبولهم أيضًا بنقاش أيّ خطأ ذاتيّ ارتكبوه وأدّى إلى خروج الجماهير ضدّهم!

لقد فشِل الإسلامُ السياسيّ، بأحد أجنحته، أي الإخوان المسلمين، في التصرّف كسلطة حاكمة ذاتِ رؤية مستقبليّة للبلاد. فلم تأخذ "الجماعةُ" في الاعتبار أنّها قوّة سياسيّة، جاءت من خارج إطار السلطة، وتتبنّى فكرًا "راديكاليًّا،" وعليها من ثمّ اعتمادُ خطاب تطمينيّ ينعكس على ممارساتها؛ بل جاءت ممارساتُها داخل مؤسّسات الدولة في سياق الهيمنة لا الإصلاح الإداريّ المطلوب. وفي هذا الشأن، يرى الباحثُ المصري أحمد بان، وهو قياديّ سابق في الإخوان، في دراسته المعنونة "الإخوان المسلمون: اغتيالُ حلم الخلافة،" أنّ أهمّ الأسباب التي أدّت إلى فشل الإخوان المسلمين في الحكم تمثّلْتْ في: إقصاء القوى السياسيّة الأخرى عن المشاركة في إدارة البلاد، والاكتفاءِ بأعضاء الجماعة وحزبها (الحريّة والعدالة)، واختزالِ صناعة القرار في مؤسّسة الرئاسة بتعيين هيئة استشاريّة عكستْ تمدُّدَ القرار من مقرّ الجماعة في المقطّم إلى قصر الاتحاديّة. يضاف إلى ذلك الأداءُ المُربك لرئاسة الجمهوريّة، والتردّد السياسيّ، وإصدارُ القرارات ثمّ التراجعُ عنها.

إنّ العجز عن خلق خطاب دينيّ يتماهى بممارساته العمليّة مع التطوّرات السياسيّة أمرٌ يتجاوز النوايا. المشكلة لا تكمن في طريقة ممارسة الخطاب وترويج الأفكار، بل في الخطاب والأفكار نفسها التي لم تعد قادرةً على مجاراة متطلّبات الحكم ومؤسّساته الدستوريّة وبنيته الاجتماعيّة. فالحال أنّ تغييرَ الممارسات سيؤدّي إلى تغيير الخطاب، وهذا يعني أفولَ الثوابت الفكريّة التي قام عليها الإسلامُ السياسيّ، بجناحه جماعة الإخوان المسلمين.

على هذا الحال، ستبقى جماعةُ الإخوان خاضعةً - على الأرجح - للخطاب الذي أدّى إلى فشل تجربتها، وستكرّر نفسَها في كلّ مرّة تحاول فيها الوصولَ إلى السلطة. وحتى لو قامت بتغيير الممارسات، فإنّها سرعان ما ستكشف عن خطابها الذي لم يتغيّر، موهِمةً أنّها كانت "مضطرّةً" إلى فعل ذلك كي تحافظَ على وجودها وكي تشدَّ عصبَ جمهورها (كما حصل في مصر خلال فترة صعود الإخوان الى الحكم، وفترة تسلّمهم الحكم، ثم فترة سقوطهم). لذا، فإنّه من البديهي القول إنّ الإسلام السياسي، بتجربة الإخوان المسلمين تحديدًا، لم يعد قادرًا على العودة إلى الدولة كسلطةٍ حاكمةٍ منفردة - أقلّه في هذه المرحلة - بعد إخفاقه في استغلال الفرصة التاريخيّة التي سنحتْ له. ولم يعد مطلوبًا تغييرُ الممارسات فحسب، وإنّما القبولُ الواقعيّ أيضًا بنتائج التجربة التي خاضوها، وهي نتائج أكّدتْ أنّ دمجَ خطابهم بالممارسة السياسيّة العامة التي تتجاوزهم كـ"جماعة" مسألة غير قابلة للحياة. وهذا يعني أنّ ممارستَهم للإسلام السياسيّ ستبقى في إطارها النظريّ، أو العمليّ الضيّق فيما بينهم؛ أمّا مسألة الحكم ضمن إطار الدولة (بمفهومها الشامل والجامع) فهي مسألة تجاوزتْهم بأشواط، وباتت خاضعةً لعوامل لا يمكن أنْ تتأقلم مع وجودهم على رأس السلطة. وليست التجارب وحدها ما يُثبت ذلك، بل كذلك حالةُ النفور الشعبيّ والجماهيريّ غير المسبوقة التي ولّدتها تلك التجارب.

وهذا يأخذنا إلى نتيجة واقعيّة، مفادُها أنّ خطاب الإسلام السياسيّ التقليديّ من خلال الإخوان قد أفل، وحَكَم على نفسه بالاندثار التدريجيّ. وهذه النتيجة تستند إلى تجربتهم التي كشفتْ ضعفَ هذا الخطاب أمام التحدّيات التي تواجهه، وعجزَه عن تجاوز النصّ الموضوع أو جعلِه أكثرَ مرونةً في التأقلم مع التغيّرات.

نُشر في الآداب اللبنانية