الإرهاب "المعولم" .. صناعة غربية

عدد من المستشرقين الغربيين ينبري عقب أحداث 11 سبتمبر في مهاجمة الإسلام باعتباره مصدراً للإرهاب وفي مقدمتهم برنارد لويس. 
إذا ما رجع الضالين عن ضلالهم نجوا من الموت حرقاً وحكم عليهم بالسجن مدى الحياة وصودرت أملاكهم
المنظومة الإرهابية نشطت وسط مناخات السيولة الحدودية الناجمة عن ميكانيزمات العولمة التكنولوجية الحديثة
الشبكات الإرهابية تمكنت من توظيف وسائط الإعلام الجديد في جمع المعلومات، والتخطيط والتنسيق، وتحديد الأهداف

د. هند عبدالحليم محفوظ

عقب أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001، انبرى عدد من المستشرقين الغربيين في مهاجمة الإسلام باعتباره مصدراً للإرهاب وفي مقدمتهم برنارد لويس. 
وفي بداية عام 2012 في أوج الحملة الانتخابية للرئاسة الفرنسية، صرح أحد وزراء فرنسا (كلود غيان) قائلا:" ليست لكل الحضارات القيمة نفسها"، مشيراً إلى وجود حضارات أكثر تقدماً من أخرى أو"أرقى" من أخرى، ثم يضيف أن "المقصود هو الدين الإسلامي"، فأجابه أحد النواب الفرنسيين (سيرج ليتشيمي) بأن ذلك يعد "إهانة للإنسانية"، وفرت في الماضي أرضية خصبة لنمو الأيديولوجيات الأوروبية التي أنتجت مراكز الاعتقال النازية.
وفي سياق حديثنا عن ثقافة أوروبا في العصور الوسطى ومحورها المتمثل في محاكم التفتيش وحرق المخالفين في العقيدة أحياء. لم تنفرد الكنيسة الكاثوليكية أو الغوغاء في حرق المخالفين في العقيدة، بل ساهمت الدولة في اضطهاد هؤلاء المخالفين، فيقول وول ديورانت: "أمر هنري السادس إمبراطور ألمانيا في سنة 1194 بأن ينزل بالمخالفين في العقيدة (والتي كانت تصفهم الكنيسة بالضالين) أشد العقاب، وأن تصادر جميع أملاكهم، وأصدر كثير من ملوك أوروبا – آنذاك- أوامر شبيهة بمرسوم هنري السادس، وكان الدافع لذلك هو خوف الدولة من أن يكون الضلال الديني ستاراً يخفي وراءه التطرف السياسي، كما كانت تخشى ألا تستطيع الحكم بغير مساعدة الكنيسة التي تغرس في قلوب الناس عقيدة دينية موحدة. وقد يكون للاعتبارات المادية دوراً في هذا الشأن؛ لأن الضلال الديني أو السياسي كان يعرض للخطر أملاك الكنيسة والدولة".

خطورة نمو "شبكات" الإرهاب تتزايد عند حدوث خلل في أحد مقومات "الجغرافيا السياسية"، أو كلها، مما قد يصيب سلباً الأمن الداخلي

وكان أشد قوانين الاضطهاد هو القانون الذي أصدره فريدريك الثاني فيما بين عامي 1220 و1239 ويقضي بإحراق الضالين أحياء، فإذا ما رجعوا عن ضلالهم نجوا من الموت حرقاً وحكم عليهم بالسجن مدى الحياة، ثم صودرت جميع أملاكهم، وحرم ورثتهم من ميراثهم، وظل أبناؤهم محرومين من تقلد المناصب المهمة، إلا إذا كفروا عن ذنب آبائهم بالتبليغ عن غيرهم من الضالين، وقضي القانون بأن تحرق بيوت المنشقين (الضالين) ولا يعاد بناؤها أبداً.
وقد ساد قانون فردريك الثاني هذا سائر أوروبا في العصور الوسطى وكان سيفا مسلطا على رقاب كل المخالفين في العقيدة أو السياسة. وفي العام 1183 بعث الكونت فيليب حاكم فلاندرز (مكانها الآن بلجيكا وهولندا وشمال غرب ألمانيا) وهو رئيس أساقفة ريمس عدداً كبيراً من المنشقين من النبلاء ورجال الدين والفرسان والفلاحين والفتيات والنساء المتزوجات والأرامل ،... إلخ، إلى المحارق لحرقهم أحياء بعد أن صادروا أملاكهم.
فالإرهاب صناعة غربية، وقد آلت هذه الصناعة إلى أميركا في عصرنا الحالي والتي روجت لها كل وسائل الإعلام وألصقتها بالدول المعارضة سابقا، والدول الإسلامية حاليا، واستغلت أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001 في ترويجها وإشاعتها حتى خدعت العالم كله وجعله يؤمن بها.
وتشكل بعض التنظيمات الجهادية المتطرفة مثل تنظيمي "القاعدة" و"داعش" نموذجا فعلياً للتنظيمات الإرهابية العابرة للحدود مع اختلافها حول المفاهيم والأولويات الحركية للتطبيق مقابل اشتراكها في استلال مفهوم العالمية الذي تتخطى به الحدود الوطنية صوب العمل الحركي في أية بقعة جغرافية بصفتها هدف "الخلافة الإسلامية" الأسمى، مما قاد إلى ولادة مفاهيم جديدة تصل حدّ تشريع إعلان الحرب ليس فقط حيال "الآخر"، وإنما أيضا، داخل المجتمعات الإسلامية، وضد المخالفين لتفسيراتها، إلى جانب استحضار سوابق تاريخية صدرت فيها فتاوى تشرع القتال في الداخل الإسلامي، متجاهلين السياق التاريخي والفقهي والسياسي الواردة فيه، مما دعم صعود خطاب التشدد والانغلاق، وفتح المجال السياسي والاجتماعي على الفتنة والحرب الأهلية.
وكشف ضابط الاستخبارات البريطانية الأسبق تشارلز شويبردج والعامل في جهاز مكافحة الإرهاب لفضائية "روسيا اليوم" أن الاستخبارات البريطانية والأميركية تقفان خلف كل الأحداث الإرهابية التي تعصف بدول في الشرق الأوسط مثل سوريا والعراق وليبيا. ولخص شويبردج الموقف بجملة بليغة، تعقيبا على إعلان أميركا تكوين تحالف ضد تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام: "هكذا صنعنا داعش، وهكذا تُقرع طبول الحرب ضدها".

وتعد منطقة الشرق الأوسط الأكثر "إنماءً"، وقابلية للتأثر بالتنظيمات الإرهابية العابرة لحدودها، حد السيطرة على مساحات معتبرة من أراضيها، كما داعش في العراق وسوريا وليبيا، وذلك بحكم قدراتها وإمكانياتها المحدودة وضعف تماسكها، لاسيما اقتصاديا وسياسيا، واختراقها خارجيا، واتساع نطاق صراعاتها، وأزماتها البنيوية العميقة، مع غياب الإطار الجمعي القادر على حل الخلافات وضبطها.
ونحن نواجه الآن نمطاً مستجداً من الإرهاب، هو "الإرهاب المعولم"، وهو نمط يختلف من حيث  القدرات التسليحية، ومستوى التدريب العسكري، وطبيعة العلاقات بالمحيط الداخلي والعالمي والإمكانات البشرية والمادية، والقدرات اللوجستية والإعلامية، اختلافاً بيناً عن إرهاب عقدي الثمانينيات والتسعينيات؛ فجماعات الإرهاب – آنذاك- كانت تنظيمات محدودة الإمكانيات مهما تعاظمت قدراتها، وتدريبها وتسليحها وثقافتها وتمويلها، في الأغلب الأعم لم يتجاوز حدود المتاح محلياً. ولذلك كان من السهل – نسبياً - وبتضحيات محدودة إلى حد ما، وفي مدى زمني مقبول، وبكلفة محتملة، أن يتم تحقيق الانتصار على هذه النوعية من الإرهاب. وإلحاق هزيمة نكراء به .
وتمكنت الشبكات الإرهابية من توظيف وسائط الإعلام الجديد في جمع المعلومات، والتخطيط والتنسيق، وتحديد الأهداف، وإعطاء التعليمات ضمن ما يسمى "شبكات الكوادر" الرامية للتواصل بين عناصر التنظيم المسلح، كمساحات افتراضية مغلقة، بهدف تكوين الخلايا التنظيمية، والتدريب على استخدام الأسلحة وصنع القنابل.
وساعدت التكنولوجيا في نشر الفوضى والرعب، من خلال بث فيديوهات توثق العمليات الإرهابية، تزامناً مع نشر الأفكار والمعتقدات لكسب المتعاطفين وتوسيع قاعدة الأنصار والمريدين لأجندتها الخاصة، لاسيما بين صفوف الفئة الشابة، وتجنيد الإرهابيين من شتى أنحاء العالم ونقلهم إلى بؤر القتال، وكسب التمويل، من خلال التحويلات المالية البينية، ونيل التبرعات المرفقة بفتاوى دينية تدعو للتضحية بالأموال والأنفس، من قبل الحركات الجهادية المتطرفة، بالإضافة إلى كسب الدعم المعنوي. وقد شهدت بعض الصفحات الإلكترونية ما يسمى "البيعة الافتراضية" لزعيم تنظيم داعش أبوبكر البغدادي، من جانب آلاف السلفيين الجهاديين، عقب إعلان التنظيم، في 29 يونيو/حزيران 2014، عن قيام "الخلافة الإسلامية"، ودعوة المسلمين إلى المناطق التي يسيطر عليها، مما ساهم في انتشاره وتنامي مؤيديه عبر العالم الافتراضي.

الشبكات الإرهابية المتخطية للحدود الوطنية استطاعت استغلال ديناميات التغيير في هيكل القوى والسياسة الدولية، والتي طالت بالضعف، مناعة الحدود الحصينة

يتجاوز تهديد الإرهاب "الشبكي" التغلغل بين ثنايا الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، المجتمعية، المحفزة لنموه لكسب المؤيدين، خاصة الشباب منهم، بما يقدمه من أنموذج مغاير لبيئاتهم المحلية، أو عند حديث تنظيم داعش عن الخلافة ومغريات انتشالهم من أوضاعهم الصعبة، من حيث الظروف المعيشية والتهميش ولكن من دون تقديم خطة محددة المعالم للحل، صوب أنماط غير تقليدية قد تشي بتطور نوعي في طبيعة الصراع معه.
استطاعت الشبكات الإرهابية المتخطية للحدود الوطنية استغلال ديناميات التغيير في هيكل القوى والسياسة الدولية، والتي طالت بالضعف، مناعة الحدود الحصينة، إزاء نظام كوني يتسم بالتشابك الاقتصادي والسياسي والثقافي والعسكري، وسيولة تدفق القضايا العابرة لحدود ما بعد العولمة والقاطعة لمسافات "القرية الكونية"، بما أنتجته من مؤسسات عالمية أممية وشركات متعددة الجنسيات، و"فورة" معلوماتية ومعرفة تكنولوجية قادت إلى حدوث نقل مؤثر للعنصر الأمني بين البيئات المحلية والإقليمية والدولية.
وفي هذا الإطار نشطت المنظومة الإرهابية، وسط مناخات "السيولة" الحدودية الناجمة عن ميكانيزمات العولمة التكنولوجية الحديثة، والاستفادة من مخرجاتها التي زودت الشبكات الإرهابية حول العالم بطرائق وأدوات إرهابية متنوعة. وتتزايد خطورة نمو "شبكات" الإرهاب عند حدوث خلل في أحد مقومات "الجغرافيا السياسية"، أو كلها، مما قد يصيب سلباً الأمن الداخلي، لاسيما مع توفر بيئة حاضنة لإشكاليات حادة ما يجعلها عرضة لمصادر التهديد الإرهابي؛ حالما تجد في غياب الأمن والاستقرار معولاً للتغلغل والنفاذ لتحقيق أهداف معينة، وهو ما يؤدي إلى انقسام النظام وتهديد استقرار النطاق الجغرافي حد التفكك، والذي لا يتوقف تأثيره السلبي عند النطاق المحلي فقط، بل يمتد إلى البيئة الإقليمية المحيطة.