الإسلاموفوبيا في فرنسا.. تعقد الظاهرة

رهاب الإسلام أي الإسلاموفوبيا صار أساساً لهوية تستخدم كالشبح لتمارس وظيفة ملجأ أو بديل عن رابط اجتماعي صار تآلفاً بفعل مفاعيل أزمة نسبت أصولها إلى البلدان المصدرة للمواد الأولية والمواد البترولية والمهاجرين ولكل أنواع العنف ولكل أشكال الإجرام؛ والبلدان الإسلامية دون تمييز صارت بخيال من يقول برهاب الإسلام في أول صف هذه البلدان التي صارت أصل كل مشاكل المجتمعات الغربية.

بقلم: روضة القدري

يزداد اهتمامنا على الجانبين الجنوبي والشرقي من البحر المتوسط، بمختلف أشكال العنف التي اقترفت أو أعلنت بتعبير أو بآخر عن الإسلام السياسي، علماً أن أول من يعاني من ذلك هم المسلمون وصورة الإسلام في العالم. بعد إقامات علمية متعددة في فرنسا، كما في إيطاليا وإسبانيا أيضاً، وبتبادل الآراء مع زملاء يقيمون في هذه البلدان، استطعت التحقق من أهمية الإسلاموفوبيا، إن من جانب ما لها من تأثير على تطور فكرة كره الأجانب في المجتمعات الإسلامية ضد كل ما هو «آخر» أو ضد ما يعرف دون أي تمييز أو تفريق «بالغرب»[4].

انطلاقاً من تبادل الآراء هذا، وبعد قراءات مستفيضة أعقبت ذلك، استطعت إدراك تعقيد هذه الظاهرة وما لها من نقاط مشتركة مع الخوف والكراهية اللذين يسكنان مجتمعاتنا، واللذين هما في أصل «الهويات القاتلة» التي حللها أمين معلوف بكثير من الدقة والرهافة[5]. تطال تأملاتنا فكرة الإسلاموفوبيا، (أو رهاب الإسلام) في فرنسا، وسنتوقف عند بعض النقاط: نشأة هذه الظاهرة منذ ما بعد السبعينيات، تحديد أحكامها، وحدودها الأساسية، الأعداد أو الأرقام الخاصة بتطور الأفعال التي تتسم بهذه الصفة، قبل أن أشير -أخيراً- إلى الصراعات التي تتعارض معها. لقد استندت في هذه الدراسة إلى بعض الأعمال التي أثارت تساؤلاتي بشكل خاص، والتي أحيل إليها في هذه المساهمة.

رفض عديد من الكتاب استخدام هذا التعبير. بعضهم يعتبر أن استخدام تعبير إسلاموفوبيا يعني الامتناع عن توجيه أي نقد للإسلام بوصفه ديانة، ويفضلون الحديث بدل ذلك عن «رهاب المسلمين» باعتبار ذلك نظرة عنصرية (عرقية) تجاه المسلمين. هكذا تعتبر الكاتبة الفرنسية كارولين فوريست (Caroline Fourset) أن كلمات مثل إسلاموفوبيا (رهاب الإسلام) أو (Judeophobie) (رهاب اليهود) لا تتمتع بالمشروعية نفسها مثل (Homophobie) (كره اللواطية)، ذلك أن هذه الكلمة «تشير إلى موقف تجاه أفراد حول ما لم يقوموا باختياره»، في حين أن التعبيرين الأولين يمزجان كراهية الدين مع النزعة العرقية تجاه معتنقيه، مع التحديد أن العداوة تجاه معتقد، أو دين أو أيديولوجية إنما يعود لتقديرات شخصية ولمجرد الحرية بالتعبير[6]. كذلك قدم كل من آلان فينكيلكراوت (Finkielkraut)، وبرنار هـنري ليفي ( Bernard–Henri Lévy) وعديد غيرهما الحجج نفسها حول استعمال هذا التعبير. مع ذلك، وبعد مقاومة طويلة انتهى الأمر بقبول هذه الكلمة، إن في العالم الأكاديمي أو في عالم الإعلام والسياسة، مع التشديد على معنى دقيق يتعلق بشكل من العنصرية لا بد من مقاومته شأن الأشكال الأخرى. وهكذا شقت الكلمة (Islamophobie) طريقها إلى القواميس الأكثر شهرة في اللغة الفرنسية، ومنها لاروس، وروبير مع هذه التعريفات: «الإسلاموفوبيا شكل خاص من أشكال الكراهية موجه ضد الإسلام والمسلمين، يتمظهر في فرنسا عبر أفعال عدوانية وتمييز إثني ضد المهاجرين المغاربة»[7]، أو «العداوة تجاه الإسلام، والمسلمين»[8]. وبهذا المعنى أستخدم أنا هذا التعبير لتحليل الظاهرة التي يحيل إليها.

أصول الإسلاموفوبيا

مع أن الظاهرة تعود، كما يذكرنا بذلك عبدالعلي حجة، ومروان محمد[9] إلى بداية القرن العشرين في فرنسا، كما في سائر أنحاء أوروبا وفي أميركا الشمالية، فإن صعود الإسلاموفوبيا يعود إلى العقود الثلاثة الأخيرة من القرن الأخير. وهي ظاهرة تفسر بعوامل عدة عززت أشكالاً أخرى من كراهية الأجانب في أنحاء العالم.

الأزمة المالية والاقتصادية المستمرة منذ بداية السبعينيات، مع ما تحمل من معدل بطالة، وإقصاء، وتدني شروط الحياة عند شرائح واسعة من المجتمع، وحرمان وفقد أمل، ومخاوف وغيظ في صفوف ضحايا هذه الأزمة.

تسارع سيرورة العولمة الفائقة – الليبرالية، مما أحال الكائن البشري إلى وضعية المساعد الطوعي لإكراهات اقتصاد السوق، والسعي الجامح لأكبر كسب ممكن، بأقصر الأوقات وبأقل كلفة، مما يستوجب إعادة النظر في دور الدولة للإبقاء على الخدمات العامة الضرورية لتأمين التضامن والحقوق الأولية.

أزمة نماذج الحداثة التي ظهرت بعد عصر الأنوار، واعدة بمزيد من التقدم والرفاهية ومزيد من الحرية والمساواة لكل الإنسانية.

الانطواءات الهوياتية على التضامنات الحصرية القائمة على رابطة الدم والانتماءات القومية، والإثنية والطائفية.

عززت هذه العوامل -كما في كل زمان- كل أنواع الخوف والبحث عن كبش فداء لاتهامه بتحمل مسؤولية كل الشقاء الذي لم يصر إلى تحديد أسبابه الحقيقية، ولا إلى تحديد المسؤولين عنه. الإسلاموفوبيا هي أحد أشكال كره الأجانب الملازم لهذا النوع من المخاوف.

مع نمو الإسلام السياسي وقيام جمهورية إيران الإسلامية، من جهة، وسقوط جدار برلين وانتهاء الإمبراطورية السوفيتية، من جهة أخرى، بدأ «العدو الإسلامي» يشغل المكان الفارغ بعد اختفاء «العدو الشيوعي» وذلك في الخطاب الإعلامي والسياسي، الذي شكل بنية الرأي العام في فرنسا وأوروبا وأميركا الشمالية.

ففي فرنسا ترافقت كثافة أمواج المهاجرين القادمين من المستعمرات القديمة ذات الثقافة الإسلامية، وخصوصاً من شمال أفريقيا وتركيا، وقد تحولوا إلى سكان مقيمين، ومتطلبات الجيل الشاب المتحدر منهم ورفض ما تعرض له الأهل من تمييز وإقصاء، وبروز مطالب ثقافية ودينية لم يسبق أن تم التعبير عنها… إلخ، كل ذلك ترافق مع احتدام الأزمة وما لها من آثار اجتماعية ومخاوف تولدت عنها، وانطواء على الهوية، وهذا ما عززته الأزمة لدى كل السكان أياً كانت أصولهم أو انتماءاتهم الثقافية. ميَّز توماس دلتومب[10] (Thomas Deltombe) مراحل ثلاث ربطها ببناء موضوع «إسلام فرنسا»:

  • بين أواسط السبعينيات ونهاية الثمانينيات: طيلة هذه المرحلة تم النظر إلى الإسلام في تورطه بالأزمة النفطية، التي تم اعتبارها أصل الأزمة، وكذلك إلى الثورة الإيرانية عام 1978/1979 إذ تم تحليلها باعتبارها «عودة الإسلام»[11]، الذي يهدد الغرب: أضيفت صور هذه الثورة وصور العالم الإسلامي المسؤول عن الأزمة، إلى صور الهجرة التي أحيلت إلى المكون المسلم الذي اعتبر «متعارضاً» مع المجتمع الفرنسي. ثم بدأت بالظهور نزعة جديدة توازي بين «العمال الأجانب» و«الخمينيين»، وقد ترافق ذلك مع خطاب قومي معادٍ للأجانب، رابطاً هوية فرنسا بالكثلكة. إنه خطاب أعلنته حركات اليمين المتطرف في فرنسا مثل الحركة الملكية (Action Française)، وبشكل خاص –أيضاً- من جانب الجبهة الوطنية التي كان زعيمها ولمدة طويلة مؤسسها جان – ماري لوبان. تم إنشاء هذا الحزب عام 1972 تحت اسم «الجبهة الوطنية لوحدة فرنسا»، متذرعاً بما سببته الأزمة، شكلت العداوة للهجرة وللإسلام مكانة بارزة في خطاباته في الحملات الانتخابية وفي دعايته القوموية المعادية للأجانب. ارتفعت أرقامه الانتخابية من أقل من (0.43%) في الانتخابات التشريعية عام 1973، لتتجاوز (25%) إبان الدورة الانتخابية الإقليمية الأولى في ديسمبر (كانون الأول) 2015، وبحسب أعداد المقترعين بات هذا الحزب هو الأول في فرنسا.
  • المرحلة الثانية وتمتد من الثمانينيات إلى 2001: بسبب الإجراءات التي اتخذتها حكومات اليسار، والآيلة إلى شرعنة وجود المهاجرين دون أوراق ثبوتية، وتحسين شروط استقبال وإقامة الأجانب، ودمج السكان من أصول أجنبية[12]، بتنا نشهد تطور حركة كره الأجانب، وقد حمل لواءها اليمين المتطرف والجبهة الوطنية التي حققت عام 1986 أول انتصاراتها الانتخابية. تمثل ذلك بكسب (35) مقعداً في الانتخابات التشريعية. وطيلة هذه الفترة أخذ رهاب الإسلام بالنمو. عام 1987 نشرت الجبهة الوطنية أول ملصقاتها المعادية للإسلام، وكان ذلك بمبادرة أحد قادتها: جان – بيار ستيربوا (Jean – Pierre Stirbois). ومنذ عام 1983 حذر الصحافي الكبير جون دانيال (Jean Daniel) الحكومة الاشتراكية من «تغذية هذا العداء للإسلام، الذي لا يميز والمهين الذي بتنا نشهد ازدهاره -ويا للأسف!- في أوساط الشرائح الاجتماعية الشعبية في فرنسا وفي أوروبا»[13]. جاءت الاعتداءات التي حصلت في باريس عام 1986، وقضية لبس الحجاب من جانب فتيات باسم الإسلام في ليسيه كريل (Creil) عام 1989، وردود الفعل الموالية والمعارضة لنشر كتاب سلمان رشدي، «آيات شيطانية»، والأحداث التي نسبت عام 1990 في فرنسا إلى مجموعات إسلامية جزائرية مسلحة، والدعاية التي بررت التدخل الأول في العراق على قاعدة احتدام الأزمة الاقتصادية. بما لها من آثار اجتماعية، جاء ذلك كله ليسمح لرهاب الإسلام أن يلوث العقول بما يتجاوز حدود اليمين المتطرف. ينسب جان بوبيرو (Jean Bauberot) الظاهرة إلى الخلط بين المؤمنين والأصوليين، استناداً إلى تأويلات مثيرة للقرآن، إن من جانب الإسلاميين أو القائلين بالإسلاموفوبيا.
  • تبدأ المرحلة الثالثة بعد الاعتداءات التي أعلنت عنها القاعدة في الولايات المتحدة، والتي تتابعت بعد ذلك جراء التدخل الثاني في العراق، وتكرار الاعتداءات التي نسبت إلى مختلف الجماعات الإسلاموية أو التي أعلنت هي عنها (منذ المجموعات الأولى المنتسبة إلى القاعدة، وصولاً إلى ما يعلن اليوم باسم «داعش»)، تتابع ذلك كله على أساس احتدام الأزمة الاقتصادية، والبطالة والمخاوف على الهويات المرتبطة بالعولمة غير الخاضعة للسيطرة.

أنماط الإسلاموفوبيا ومعاداة الإسلام

يختلف رهاب الإسلام بحسب الأشخاص والأوساط التي تعلنه وتتعهده. بالإمكان أن نميز بين مكونات ثلاثة: رهاب الإسلام الشعبي، رهاب الإسلام الأيديولوجي والسياسي، ورهاب الإسلام الذي يدعي العلمية.

يعتبر رهاب الإسلام الشعبي، مثل كل أشكال التمييز العنصري المنتشرة في مختلف المجتمعات، فهو نوع من ردود الفعل الأولية والشائعة. فالإسلام والمسلمون إذا ما تم ربطهم بالسكان المهاجرين وبأسلافهم، بكل المشاكل المثارة مع الأزمة: نقص في الوظائف وأماكن السكن الاجتماعية «للسكان الأصليين»، العجز في صناديق الضمان الاجتماعي، «الضجيج» و«الروائح»[14]، انحراف الأحداث، السرقات، المخدرات، الجريمة، شتى أشكال العنف، عدم الأمان و… إلخ، يعتبر الغرباء عامة، والمسلمون بشكل خاص، بنظر السكان الذين يتقاسمون معهم المشاكل عينها، أنهم السبب بما لحق المجتمع من شرور، وقد بات هذا مجتمعاً يخشى خسارة كل شيء: حقوقه التي باتت عرضة للشك من جانب قانون السوق، أحلامه بحياة أفضل، قيم التكافل التي طالما آمن بها، ثقته بنفسه وبمستقبل أبنائه، ومعالمه الاجتماعية… إلخ، صار رهاب الإسلام، أي الإسلاموفوبيا، أساساً لهوية تستخدم كالشبح لتمارس وظيفة ملجأ أو بديل عن رابط اجتماعي، صار تآلفاً بفعل مفاعيل أزمة نسبت أصولها إلى البلدان المصدرة للمواد الأولية والمواد البترولية، والمهاجرين ولكل أنواع العنف ولكل أشكال الإجرام؛ والبلدان الإسلامية، دون تمييز، صارت بخيال من يقول برهاب الإسلام في أول صف هذه البلدان التي صارت أصل كل مشاكل المجتمعات «الغربية».

تمت استعادة كل هذه المقولات بشكل خطاب أيديولوجي، متماسك إلى حد ما، تتناقله وسائل الإعلام، والمنظمات والأحزاب التي تنسب إلى اليمين المتطرف، أو المحافظ تقريباً، أو القومي: فالجبهة الوطنية، والمجموعات التي تنادي بصفاء الهوية أو تلك الفاشية أو النازية الجديدة، كما بعض الشرائح الكبيرة -إلى حد ما- من اليمين، بل حتى من اليسار، كل هؤلاء راحوا يغرفون من هذا المخزون من الكليشيهات التي ما أرادوا ترك احتكار استثمارها لخصومهم. فالأكثر محافظة لم يترددوا عن تحريك تاريخ العلاقات الصدامية بين الإسلام والمسيحية منذ فتوحات المسلمين، والحروب الصليبية في القرون الوسطى، حتى الفتوحات الاستعمارية وحروب الاستقلال في القرون الأخيرة، كذلك من أجل البرهنة على أن الإسلام هو العدو اللدود للغرب وفي كل الأوقات. والسكان المسلمون المقيمون الذين استقروا، يُنظر إليهم من خلال هذا الخطاب الذي يتمثل رهاب الإسلام بمثابة موجة غزو جديدة، بل كشكل جديد من أشكال «الجهاد» بهدف أسلمة فرنسا، ومن ثم أوروبا والغرب.

وبقدر ما تسجل النتائج الانتخابية تقدماً لصالح اليمين المتطرف، يصار للتداول بالإسلاموفوبيا من جانب الخصوم، وكل على طريقته وبحسب ما يتيح لهم ذلك برنامجهم السياسي أو الأيديولوجي: فاليمين يشدد على الرابط بين الإسلام من جهة والهجرة الغازية، وتهديد الأمن والمخاطر على الهوية القومية أو الأوروبية المرتبطة بالمسيحية أو بالثقافة اليهودية – المسيحية، بذلك يحرك اليمين طيف الإسلام باعتباره ديانة غازية وغريبة ومنذ الأزل. أما المسلمون فهم ينذرون برفض اختلافهم وبقبول التماثل، بمعنى الإلزام على «التشابه» وقبول القولبة في ثقافة المجتمعات التي استقبلتهم. ثمة قسم من اليسار، الذي يؤمن بشكل أو بآخر بالليبرالية الاجتماعية ينذر المسلمين باحترام «العولمة» و«المبادئ العالمية أو الكونية» الخاصة بالجمهورية، مع التشكيك الخفي -إلى حد ما- بأن ديانتهم وثقافتهم يشكلان عائقاً أمام اندماجهم. ومع الاعتداءات المتعددة التي قام بها مسلمون في فرنسا منذ عام 1980، ولا سيما ما جرى منذ بداية عام 2015 (ضد صحافيي شارلي إيبدو في يناير/ كانون الثاني، وفي 13 أكتوبر/ تشرين الأول في باريس) أو ضد أهداف فرنسية في الخارج، وخصوصاً –أيضاً- مع تصاعد المطالبات بمعاملة الإسلام والمسلمين مثل سائر الأديان ومعتنقي العائلات الروحية الأخرى في فرنسا، مع هذا كله راحت الحدود بين مختلف التيارات الأيديولوجية والسياسية تتلاشى، وأصبحت الإسلاموفوبيا إحدى ثيمات المزايدة بين من هم جاهزون لإضرام الحرائق ومداعبة الرأي العام كما يشتهي. أدى تقدم اليمينيين المتطرفين في حملاتهم الانتخابية إلى جعل التيارات السياسية الأخرى تتبنى أطروحاته الكارهة للأجانب، ولا سيما منها أطروحات كره الإسلام. لقد تلاشت خطوط الفعل: واليمين المتطرف راح يستعيد الحجج المرتبطة بالعلمنة، أما الأحزاب الأخرى فاستعادت الحجج المرتبطة بالهوية والأمن، التي حركها اليمين المتطرف.

تنهل الخطابات الإعلامية والأيديولوجية المناهضة للإسلام أكثر فأكثر من النتاج العلمي، أو ما يقدم نفسه باعتباره كذلك، مستخدمة حججاً لتساند نظرتها إلى الإسلام وإلى الشعوب والثقافات الإسلامية في فرنسا أو خارجها. منذ الثمانينيات، أسهمت أطروحات برنارد لويس التي تعهدت فكرة الاستثناء الإسلامي العصي على الحداثة والمقاوم للفصل بين السياسي والديني (والمقاوم بالتالي للعلمنة والأفكار الدنيوية) للمساواة والحرية وحقوق الإنسان، لقبول الغير والتعايش المسالم والدائم مع عقائد أو فلسفات أخرى، وللديمقراطية …إلخ[15].

هذه جميعها أسهمت بقوة في نمو الإسلاموفوبيا. ثم جاءت أطروحة صدام الحضارات[16] التي أخذ بها صموئيل هنتنغتون بعد برنارد لويس الذي يدعي أبوتها[17]، لتؤكد هذه الرؤية؛ إذ اعتبرت أن الحضارات التي تتحدد بإيلاء الأولوية للديانات التي تكونها، هي حضارات محكومة بالتواجه، وذلك بسبب الخلافات الأساسية التي تفرقها في العلاقة مع المسائل الأساسية المتعلقة بالوضع الإنساني، ولا سيما: «… العلاقات بين الله والإنسان، الفرد والمجموعة، المواطن والدولة، الأهل والأبناء، الزوج والمرأة»، ولا سيما –أيضاً- بالنسبة «للأهمية التي تولى للحقوق والمسؤولية، والحرية والسلطة، والشرعية والتراتبية»[18]. في كل هذه المسائل الأساسية، نجد «إسلاماً متراصاً وأزلياً» يتعارض نسقياً مع «غرب هو –أيضاً- أزلي وأسطوري» بحسب تعبير محمد الشريف فرجاني[19].

مع أن الإسلام قد أصبح من حيث عدد معتنقيه الديانة الثانية في فرنسا (مع قرابة «6» ملايين نسمة) وفي أوروبا (مع أكثر من «50» مليون نسمة منهم «16» مليوناً في الاتحاد الأوروبي عام 2007)، فإن الإسلام ما زال يعتبر من قبل قطاعات عريضة من الرأي العام بمثابة غريب ومغلوط تاريخياً. «إنه سلف معاصر»[20] «للغرب الحديث» الذي أتى ليذكره بالذكريات التي لا تُحتمل لعالم تمت القطيعة معه منذ قرون عدة؛ القرون الوسطى بظلاميتها وسلطاتها وقوانينها الدينية التي فرضت على المجتمعات وعلى التصرفات الفردية، محاكم التفتيش ورقابة العادات، والعقوبات الجسدية والتمييز تجاه المرأة الخاضعة لوضعية الوصاية وللاحتجاز ولبس الحجاب، وتعدد الزوجات والطلاق والرجم، كل ذلك لم يعد مقبولاً. تقابل هذه النظرة –أيضاً- بتصرفات بعض المسلمين، لا سيما تصرفات الشباب الذين يعيشون في فرنسا وفي أوروبا، والذين يتماهون مع هذا التمثل للإسلام، إن بالصور التي تغرق وسائل الإعلام، الآتية من عديد من البلدان الإسلامية ومن «أراضي المعركة» لمجموعات تتصارع على أرض العنف وباسم الإسلام: القاعدة ومختلف تشعباتها من باكستان إلى شمال أفريقيا، والدولة الإسلامية في العراق والشام (ISIS) أو «داعش»، أو أخيراً، في ليبيا، وبوكو حرام في أفريقيا جنوب الصحراء، وشباب الصومال، ومختلف المجموعات المسلحة التي تقوم بحرب لا هوادة فيها في سوريا وليبيا، وفي كل مكان نعاين فيه ضعف، بل اضمحلال الدولة – الأمة، ناهيك عن الحديث عما قامت به طالبان في أفغانستان، والإخوان المسلمون في السودان، والمجموعات الإسلامية في الجزائر ومصر، وفي كل مكان ما زال وجودهم كاف بقوة لينتقل إلى الفعل.

وبما يتجاوز الكليشيهات والمختصرات التي كان الإسلام عرضة لها، إن من جانب من يقومون بالتشنيع عليه، أو بفعل تصرفات عديد من معتنقيه، فإن الإسلاموفوبيا تتغذى من خوف على هوية فرنسا وأوروبا والغرب: والهوية هذه أهي أكثر فأكثر ترابطاً بالمسيحية أم بالثقافة اليهودية – المسيحية»؟ إنها هوية رُبطت بنظرة تماهي المسيحية (أو الثقافة اليهودية – المسيحية) مع «الغرب» المتطور، الحديث، الديمقراطي، كما ربط الإسلام بالجنوب المتخلف، القديم المعادي للحرية والديمقراطية وأنوار العقل… إلخ! والحال أن حضور الإسلام في قلب هذا «الغرب» الحديث، من جهة، وكون مركز ثقل المسيحية قد تحول نحو الجنوب (إلى أميركا اللاتينية وإلى أفريقيا –أيضاً- وإلى آسيا) إلى حد أن البابا لم يعد غربياً أو أوروبياً، من جهة أخرى، فإن ذلك يوحي بانقلاب النظرة. وهذا ما يشكل أحد الأسباب التي ما زال بسببها يعامل الإسلام كديانة غريبة، ينظر إليها كديانة تتناقض والحضارة الأوروبية أو الغربية، هذا في وقت أصبح فيه الإسلام في فرنسا -كما في أوروبا- الديانة الثانية من حيث عدد معتنقيه الذين اختاروا في أغلبيتهم جنسية البلد الذي يعيشون فيه، اجتماعياً، وثقافياً، وسياسياً، وقد صاروا أكثر اندماجاً في هذه البلدان من البلدان التي تحدر أهلهم وأجدادهم منها. إن رفض ضم تركيا إلى الاتحاد الأوروبي -وفرنسا تعتبر أحد البلدان التي تعارض ذلك بقوة- لا تفسير له إلا هذا الخوف على الهوية. وبقدر ما يصبح الإسلام واقعاً فرنسياً، أوروبياً «غربياً» يزداد هذا الخوف على خسارة الهوية، وتنمو نزعة الإسلاموفوبيا.

بالعلاقة مع هذه النظرة إلى الإسلام والحقائق التي تغذيها، فإن الأفعال التي توصف برهاب الإسلام لم تتوقف عن الازدياد. فمنذ قيامه عام 2003 يوالي «الائتلاف ضد الإسلاموفوبيا في فرنسا» (CCIF) كل عام نشر تقرير يلخص الأعمال التي تتسم بمعاداة الإسلام في فرنسا. واضطراد عدد الأعمال التي جمعها هذا الائتلاف، والتي أكدتها تقارير مرصد الإسلاموفوبيا التابع للمجلس الفرنسي للديانة الإسلامية (CFCM)، إلى جانب مصادر أخرى، يشير إلى أعداد مقلقة. والجدول التالي -نقلاً عن الائتلاف ضد الإسلاموفوبيا- يظهر هذا الاضطراد في الأعمال العدائية.

ترجمة: جورج كتورة
عن مركز المسبار للبحوث والدراسات