الإسلام السياسي التونسي.. الجهد والاجتهاد

حركة النهضة التي أصبحت ورماً خبيثاً ألمّ بالتعليم الديني الزيتوني مارست التهديد بالقتل ودهاليز قانونية أخرى لمن تتوجس الكشف عن استراتيجيتها القائمة على تلقين الشباب أصول الفكر المتطرف لغرض التعبئة وتجنيد الشباب للقذف بهم على فُوَّهة بركان.

بقلم: إيمان بوقردغة

 يعبّر مفهوم الجهاد عن السعي أو بذل قصارى الجهد، وفي البناء الإسلامي هناك مفهومان لاهوتيان أساسيان للجهاد: الجهاد الأصغر "وهو صراع خارجي" "الجهاد الأكبر" وهو الكفاح ضد الذات الأدنى أي الكفاح من أجل تطهير قلب المرء، وفعل الخير، وتجنب الشر فهو سعي روحي متجه نحو الذات كواجب ديني مقدس حتى تنعكس فيه صفات الكائن المخلوق لله وهي مفاهيم لا تخفى مغازيها على المؤمن حتى أنها تتحول إلى جزء من الأحكام الدستورية التي يلتزم بها .

فالجهاد الرئيسي هو الجهد الواجب بذله لمحاربة النفس، ضد الأنانية فالحياة الغريزية التي لا تعرف شيئًا سوى الإعمال الفوري لأهدافها غير عابئة بالعواقب سواء في صلة بالموضوع أو على علاقة بالآخرين، وضد الغطرسة والشغف بالسيطرة على الآخرين وهو يندمج في الكفاح الداخلي الذي يقوده المؤمن ضد حسيكة الحسد وأصنام القوة والثروة والمعرفة الخاطئة التي تفصله عن طريق الله.

فالمؤمن بالحقيقة العليا يوجّه ديناميكيته النفسية نحو الأعلى وإن كان جهاد تزكية النفس يعني المعاناة والنضال ولكن الطموح الروحي للمؤمن يتمحور حول كيفية العيش بشكل جيد مع هذين الواقعين. فلا يضجر خاطره ولا تضطرب خواطره فبالنسبة إلى طبيب النفس النمساوي فيكتور فرانكل، كان هذا هو الموضوع الأساسي للوجودية: "العيش هو المعاناة، والبقاء على قيد الحياة هو إيجاد معنى في هذه المعاناة".

إنه نضال الضمير الإنساني وسط آجام الحقائق السياسية والاجتماعية المرعبة أحيانا لكن رعبها هو حتما أقل وطأة من فَرق الشر ورعب الانفصال عن الله فتنخرط مسألة النضال الروحي البشري في التحديات المختلفة التي تثيرها الأغراض المادية والمغريات الدنيوية فالمادة تسحق فكرة القيمة لتتّجه نحو الكساد العدمي الذي يجعل كل شيء بلا معنى.

إنه الميل إلى التطور الروحي كنتيجة للقوى الداخلية التي تدفع من أجل التعالي على المادة والدفع الدؤوب لإتقان الذات أكثر فأكثر لرحلتها نحو الكمال حتى لا تغزو بطريقة مؤلمة الأنا التي ستطغى عليها التجارب المؤلمة فإن العملية المعقدة التي تحدث داخل الأنا تحصل هي نفسها بالتخلي عن الأشياء واقتراح الأنا العليا ككائن الاستبدال الذي سيصل به إلى مستوى الإدراك الفكري والتسامح الأخلاقي

وفي هذا السياق فإن الحياة الحميدة تتطلب مستويات أعلى من المعيشة الأخلاقية التي لا تتوافق مع تسليم النفس للفتنة والانكفاء والتعب الروحي.

وترتيبا على هذه المفاهيم فإن الجماعات المتطرفة تنال من مفهوم "الجهاد" وتسيء استخدامه لإضفاء طابع ديني على حركاتها وتكتيكاتها السياسية العنيفة في إطار ما يعرف بالإسلام السياسي

و"الجهاد الإسلامي "المبتكر ابتكارا عربيا وغربيا يعد من أكثر التنظيمات الإرهابية العربية تعقيدا وخطورة، حيث توجد خلايا في العديد من دول الشرق الأوسط، وفي أوروبا أيضا. وتطمح هذه المجموعات في صميمها إلى الإطاحة بالأنظمة العربية القائمة لفرض أنظمة موالية لجهات سياسية خارجية .

فالجهاد الإسلامي المبتدَع حديثاً يجنِّد الشباب العربي عن طريق التلقين الديني، وهوما أخذتُ اليراع في استقصائه وإجلاء غياهبه من خلال دراستي للعلوم الإسلامية بجامعة الزيتونة بتونس بعد الدراسات التي أجريتها في العلوم القانونية والسياسية والاجتماعية في إطار مشروع بحثي قصد التفكير في الهياكل اللاهوتية والأنثروبولوجيا التي تشكل تاريخ الفكر الإسلامي بمعنى التمحيص في المصطلحات والمفاهيم والعادات الفكرية الناتجة عن الرؤى اللاهوتية التي أحاطت بالنصوص التأسيسية والغرض في ذلك فتح أقفال التقليد الديني التي ما تزال مغلقة للخوض في المعرفة اللاهوتية بحثا عن لآلئ الجانب المعرفي والأنثروبولوجي للتغلب على الخطاب الأصولي المتطرف عبر تسليط الضوء على الطابع الديناميكي والتطوري المتأصل في الشريعة الذي يفرض أسلوب الجهاد من أجل إماطة أذى الإرهاب عن طريق النصوص التشريعية الأصلية عبر دفع العقل نحو البحث عن أجرام أخرى من المعرفة اللاهوتية الملتزمة بمكافحة الإرهاب.

فكان المناخ الإيديولوجي يعوق بشكل كبير سير العمل في الأبحاث التي أجريتها حيث اعتصرتني عصّارة الحدثان واكتظّتني صبّارة الصرفان ونلت ما زَنِخَ وكَرُهَ من تكفير وتشويه وقذف واشتغلت حركة النهضة التي أصبحت ورما خبيثا ألمّ بالتعليم الديني الزيتوني على إبعادي عن الجامعة رغم حصولي على المركز الأول في الجامعة في الاختصاص الذي انتخبته وانتهى الأمر بقضية في التهديد بالقتل ودهاليز وسراديب قانونية أخرى أفضّل عدم الخوض فيها لأسباب أمنية والذنب الذي ارتكبته حسب حركة النهضة الإرهابية هو الكشف عن استراتيجيتها الإرهابية القائمة على تلقين الشباب أصول الفكر المتطرف لغرض التعبئة وتجنيد الشباب للقذف بهم على فُوَّهة بركان الأجنحة القتالية الإرهابية في تونس وخارجها في نطاق تلقين ما يسمى بمبادئ الحرب المقدسة"، وهو مفهوم اجتماعي و تاريخي سيء التعريف والاستخدام ومثله كمثل المفاهيم الأخرى التي أسيئ فهمها والتي تتسم بقدر كبير من التسييس، مثل الإرهاب أو الأصولية.

إنه يثير استجابات عاطفية وفكرية قوية لدى فئة الشباب المضلَّلين "بجهاد" القتل والنكاح والحال أن الجهاد في واقع الأمر يمكن أن يكون في قول الحق أمام حاكم مستبد، أو في سبيل العلم أو النضال الداخلي ضد النوازع المادية ومن أجل قضية عادلة فالجهاد هو أن يسعى المؤمن لخدمة الله في كل ما يفعله أما الاجتهاد في تكييف مفهوم الجهاد مع الإرهاب فهو اجتهاد عقول أغراها الشيطان خدمة للشيطان فهنيئا "لشياطين الإنس بسقر الجحيم على الأرض قبل أن تأخذ عدالة السماء مجراها".

كاتبة مصرية