الإصلاح الاجتماعي.. في يد الحكومات وليس رجال الدين!

دخان الفتاوى الكثيف الذي يملأ السماء العربية والتشريعات والقوانين البالية وآراء رجال الدين الذي يظهرون في القنوات التلفزيونية توحي كلها بأن للمؤسسة الدينية سطوة تفوق أحيانا سطوة الحكومات لكن الحقيقة أن هذا كله ليس أكثر من الشجرة التي تخفي خلفها غابة الدولة.

بقلم: عمران سلمان

عندما أعلن العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز في 26 أيلول/سبتمبر 2017 منح النساء حق قيادة السيارة، وإصدار رخص القيادة بعد عشرة أشهر من ذلك التاريخ، لم يواجه الإعلان بأي معارضة تذكر مما يعرف بالمؤسسة الدينية أو الجزء المحافظ من المجتمع السعودي، رغم صدور "همهمات" معارضة هنا وهناك وخاصة على مواقع التواصل الاجتماعي.

قبل الإعلان المذكور، كنا نسمع تبريرات تدافع عن عدم اتخاذ هكذا القرار، مثل أن المجتمع السعودي ليس مستعدا بعد لخطوة "جريئة" من هذا النوع، وأنه ينبغي انتظار مرور بعض الوقت، كي يتسنى إعداد المجتمع لهذا التغيير. وهناك من تحدث عن "الكثير من المحاذير الاجتماعية وليست الدينية التي تحول دون تمكن صناع القرار في المملكة من السماح للمرأة بقيادة السيارة".

في الواقع إن المجتمع السعودي بغالبيته رحب بالقرار أو قبل به على الأقل. وثمة ما يكفي من الشواهد على أن أجزاء واسعة من المجتمع السعودي، وخاصة الجيل الشاب، كانت ولا تزال تتقدم على حكومتها بأشواط في المجال الاجتماعي.

إذا كان هذا الأمر يدل على شيء، فهو يدل على ما كنت شخصيا أعتقده منذ فترة طويلة، وهو أن التغيير الاجتماعي في شقه التشريعي والقانوني على الأقل مرتبط أكثر بالحكومات وليس بالمجتمع أو رجال الدين. والحكومات مثلها مثل الأفراد تطلب ثمنا لكل خطوة تتخذها، سواء داخليا أو خارجيا.

فهي تستخدم مختلف الذرائع والحجج حين لا يكون القرار مواتيا لها، وعندما تقرر، فإن مؤسسات الدولة بما فيها المؤسسة الدينية تكيف نفسها ضمن القرارات الجديدة. وكان لافتا في حالة السعودية أن بعض رجال الدين ذهبوا مدى أبعد في إبداء القبول والتأييد عبر التأكيد على أن النقاب ليس ضرورة إسلامية وإن الأصل هو الاحتشام.

وموضوع قيادة السيارة ليس الحدث الوحيد هنا. ففي عام 1955 أسست الملكة عفت الثنيان آل سعود، زوجة الملك فيصل في جدة أول مدرسة للبنات في السعودية. وكان لها الفضل في الدفع بتعليم الفتيات، رغم أن الحجج وقتها أيضا لم تعدم حول موقف الدين والعادات من تعليم البنات.

ونموذج السعودية ليس هو الفريد في المنطقة حينما يتعلق الأمر بالتغيير الاجتماعي. ففي العديد من الدول العربية مثل مصر وتونس ودول الخليج وغيرها وعبر مراحل تاريخية مختلفة، لعبت الحكومات إما دور المساعد أو المعرقل لتطوير المجتمعات.

في الكثير من الأحيان كانت القرارات الحكومية في هذا الشأن انعكاسا لتحالفات سياسية محلية أو خارجية. فأحيانا تلجأ بعض الحكومات لاسترضاء الجماعات الدينية التي تحتاج إلى دعمها سياسيا، عبر الإبقاء على التشريعات المعرقلة للتطور الاجتماعي فيما يتعلق بالأحوال الشخصية وحقوق المرأة مثلا، كما هو الأمر في بعض دول الخليج.

في حالات أخرى أطلقت بعض الحكومات العنان لهذه الجماعات في المجتمع حينما أرادت مواجهة خصومها العقائديين أو السياسيين كما هو حال الرئيس أنور السادات في فترة السبعينيات من القرن الماضي. وكانت تلك بالمناسبة وصفة أميركية عممت في أكثر من بلد عربي في تلك الفترة لمواجهة نفوذ الاتحاد السوفييتي السابق والجماعات الموالية له.

في المقابل، تشكل قرارات الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي الأخيرة فيما يتعلق بالإرث وزواج المرأة التونسية المسلمة من غير المسلم، نموذجا آخر على قدرة الحكومات على أخذ زمام المبادرة في الإصلاح الاجتماعي.

كما يشكل المسار التحديثي الذي اتخذته الإمارات وجرى تعميقه في أعقاب حملتها ضد جماعة الإخوان المسلمين والمنتمين للتيارات الدينية، مثالا آخر، على أن حزم الحكومة وسلطانها ونفوذها، قادر على تمرير القرارات التي تريدها.

خلاصة القول إن الحكومات العربية تملك زمام الموقف حينما يتعلق الأمر بالإصلاحات الاجتماعية وإن رجال الدين في الغالبية العظمى يسيرون خلف الحكومات، إما حماية لمصالحهم أو التزاما بالفكرة التقليدية القائلة بعدم جواز الخروج على ولي الأمر، ويمكن على الدوام إعادة تأويل النصوص الدينية لكي تناسب الوضع الجديد. إذ لا تعدم كتب الفقه والتفاسير من اجتهادات تناسب كل حالة أو موقف.

لذلك، باعتقادي قد يكون من غير المفيد أن يركز الداعون للإصلاحات جل وقتهم وجهدهم على النصوص الدينية أو رجال الدين فقط، وينسون مربط الفرس وهي الحكومات.

يمكن تفهم حالة اللبس التي يمكن أن يقع فيها الإنسان بسهولة. فدخان الفتاوى الكثيف الذي يملأ السماء العربية والتشريعات والقوانين البالية وآراء رجال الدين الذي يظهرون في القنوات التلفزيونية، توحي كلها بأن للمؤسسة الدينية سطوة تفوق أحيانا سطوة الحكومات. لكن الحقيقة في نظري أن هذا كله ليس أكثر من "الشجرة" التي تخفي خلفها "غابة" الدولة، وأنه عندما تحين ساعة الجد، فإن الدولة/الحكومة تخرج إلى العلن كي تفرض كلمتها ومنطقها. والأمر ليس جديدا فهو يحدث منذ أكثر من ألف سنة في المنطقة العربية.

نشر في صفحة الحرة الأمريكية