الاستماع ركيزة أساسية لتذوق الموسيقى

ياسين فراج تحلل 30 نوتة موسيقية لـ 30 أغنية مصرية.
العلاقة بين هواة الاستماع للموسيقى والغناء العربي والناقد الموسيقي المحترف هو التذوق الموسيقي
السماع يرتبط بالجانب الإدراكي عند المستمع، ويتأثر بالحالة المزاجية عند المتلقي الهاوي

تذهب الأغنية بالجسد فيتغنى كلماتها فرحا أو حزنا، يعلو صوته أو يهمس، فيما تهيم الروح طربا وفتنة بموسيقاها المتغلغلة فيها، فالأغنية كلماتها وموسيقاها تشكل العلاقة بينهما علاقة جسد وروح، ربما يسهل التعرف على ملامح الجسد لكن سبر غذاء الروح وكشف عناصر عمله أمر صعب، من هنا تأتي أهمية هذا الكتاب "شدو الألحان" للناقدة الموسيقية د.ياسمين فرّاج أستاذ النقد الموسيقي بالمعهد العالي للنقد الفني بأكاديمية الفنون. حيث تصحبنا في رحلة للتعرف على كيفية بناء وصناعة موسيقى الأغنية العربية وكشف نسيج العلاقة بين الكلمة والموسيقى، وتذوق الموسيقى لإشاعة الثقافة الموسيقية، انطلاقا من هدف يتمثل في نشر الثقافة الموسيقية غذاء الروح.
تهدي فراج كتابها الصادر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة "إلى محبي الموسيقى والنغم، إلى كل من أبدع فنَّا في هذا الوطن، إلى كل صوتٍ شدا فرسم بسمة وعالج ألمًا، إلى كل فن راقٍ يحمي الأوطان من الفتن". وتقول "نستمع إلى الأغنيات فنجد أنفسنا نتراقص مع نغمات ونبكي مع أخرى، ننجذب إلى أغنيات ونبتعد عن أخرى، ولا يعرف كثيرون لماذا نستملح أغنية ولا يستهوينا أخرى!، وغالبًا ما يرجع ذلك إلى درجة التذوق الموسيقي عند الفرد، التي تختلف في تلقّيها من شخص لآخر، بما يتفق مع نشأة كل فرد وثقافته".
وتؤكد أن العلاقة بين هواة الاستماع للموسيقى والغناء العربي والناقد الموسيقي المحترف هو التذوق الموسيقي، فكلاهما قادر على تقييم العمل الموسيقي الغنائي، ولكن أدوات وسُبل تحقيق ذلك هي التي تختلف، فهواة الاستماع للموسيقى يستطيعون إدراك القيمة الجمالية بالفطرة السليمة في العمل الموسيقي الغنائي، من خلال ممارسة فن الاستماع، ولكن من الصعب عليهم الوقوف على هذه العناصر التي جعلت من عمل ما متميزًا، وعملًا آخر ذا قيمة أقل منه، لأن ذلك يتطلب المعرفة ببعض علوم الموسيقى، إلى جانب القدرة على التفسير.

أغنيات لها جانب فلسفي مثل "رباعيات الخيام" لأم كلثوم، أو أخرى تتغنى بالطبيعة مثل "يا بدع الورد" لأسمهان

وترى فراج إن السماع يرتبط بالجانب الإدراكي عند المستمع، ويتأثر بالحالة المزاجية عند المتلقي الهاوي، والدليل على ذلك أنه يمكنك تقييم أجزاء من العمل الموسيقي الواحد بعدة تقييمات مختلفة تبعا لحالتك المزاجية، فأحيانا يكون انجذاب المستمع للكلمة، وأحيانا للإيقاع، وأحيانا ثالثة للخط اللحني وأحيانا رابعة للتوزيع الموسيقي أو التنسيق الآلي للعمل الغنائي، أما المعرفة فهي التي تمكن المتلقي من تمييز عناصر العمل الموسيقي، والقدرة على إيجاد العلامات المكونة للدلالة في العمل الموسيقي، والتي تمكن الناقد من تفكيك العمل الموسيقي ومن ثم تقييمه.
وتشير إلى أن الركيزة الأساسية في عملية التذوق الموسيقي هي الاستمتاع، وهي وظيفة من وظائف العقل يجب أن يتوافر فيها الهدف، والهدف هنا هو محاولة الوصول إلى العناصر المكونة للعمل الموسيقي، ولذلك يجب أن نفرق بينها وبين كلمة سماع والتي تعد من وظائف الأذن إحدى الحواس الخمسة، وفيها يتم تلقي مثيرات صوتية أو موسيقية بعينها، دون الإدراك العقلي بها ودون تحديد للهدف، وحاسة السماع تؤثر فينا على نحو غير مباشر مثل سماعك لأغنية في وسيلة مواصلات، في مقهى، في احتفالات اجتماعية ـ خاصة وعامة ـ أو أثناء السير في الشارع، أو أثناء العمل اليومي، أو أثناء المذاكرة.. وما إلى ذلك. وأنت في هذه الحالة تسمع دون تمعن في ما تسمعه، لسببين: أولهما أن ما تسمعه مفروض عليك وليس من اختيارك، ثانيهما أن الأجواء المحيطة بحالة السماع لا تمكنك من تحديد الهدف مما تسمعه، فبالرغم من إدراكك أن ما تسمعه هو عمل موسيقي أو غنائي، إلا أنك لا تستطيع تمييز جماليات أو سلبيات هذا العمل.
وللوصول إلى مرحلة الاستماع، تحدد فراج ثلاثة مستويات يجب أن يمر بها المتذوق أولا: المستوى الحسي وهو الذي يتم فيه استقبال العمل الموسيقي عن طريق الحواس وتحديدا حاسة السمع، وهي أبسط المستويات ومن خلالها يستطيع الإنسان الإحساس بأن هناك أصوات متوافقة ومنتظمة أو متنافرة غير منتظمة، حيث يتم السماع دون تفكير أو تقدير للموسيقى ومضمونها. ثانيا المستوى التعبيري وهو المستوى الذي يتم فيه التمييز بين المثيرات الموسيقية، مثل الإيقاع والصوت، سواء كان بشريا أو آليا ومن خلال هذا المستوى يشعر الإنسان بأن العمل الموسيقي يعبر عن حالة انفعالية ما. ثالثا المستوى الموسيقي وفيه يصل الإنسان إلى أعلى أعلى مستويات الاستماع، والذي يستطيع فيه تحليل العمل الموسيقي إلى مكونات "إيقاع ـ صوت ـ هارمونية" ثم إدراك العلاقة بين هذه المكونات ببعضها. وهذا المستوى هو الذي ينبثق منه النقد الموسيقي، وهو أرقى مراحل التذوق الموسيقي والذي من خلاله يتم التحكم على العمل الموسيقي بشكل موضوعي إلى حد كبير. 

وتتساءل فراج: كيف يمكننا تذوق الموسيقى؟ وتقول لكي يمكننا تذوق الموسيقى لا بد من التعرف على ثلاثة عناصر أساسية؛ العنصر الأول: الصوت "النغم" وهو كل جسم قادر على إحداث ذبذبات، ولكي يسمع الصوت يجب أن تتراوح ذبذباته ما بين 16 إلى 20 ألف ذبذبة في الثانية تقريبا. والصوت عبارة عن نغمات، ولكل نغمة عدد من الترددات المحددة، وعدد تلك الترددات هو ما يجعل هناك نغمة حادة وأخرى غليظة، والنغمات المنتظمة تحدث نوعا من الموسيقى، وغير المنتظمة تعد ضجيجا أو ضوضاء، ويتميز الصوت الموسيقي بثلاث صفات أولها: الدرجة التي تحدث نتيجة عدد الاهتزازات في وقت محدد، وكلما زادت الاهتزازات اتجه الصوت إلى الجدة. وثانيهما شدة الصوت وقوته، والتي تتوقف على قوة الاهتزازات وتتحكم في مدى ارتفاع أو انخفاض الأصوات، وثالثهما نوع الصوت وهو طابع الصوت وصفته الخاصة به، ومن خلاله يمكن تمييز أصوات الآلات أو البشر أو أي كائن حي عن الآخر، وأقل الآذان تدريبا على الاستماع يمكنها التمييز بين الطابع الصوتي للصوت. ومن خلال تسلسل الأصوات التي هي النغمات ـ بنسب حسابية محددة ـ تتشكل هوية المقام كما يطلق عليه في الموسيقى العربية، أو السلم الموسيقي كما يطلق عليه في الموسيقى الغربية، الذي يكون له لون سمعي محدد يحمل الشجن، البهجة، القوة، والحزن.
العنصر الثاني: الزمن ويحدده الايقاع الموسيقي ووظيفته تنظيم حركة الصوت، سواء كان آليا أو بشريا، ليخرج في شكل منتج موسيقي، والإيقاع في الموسيقى يعني تقسيم الأزمنة تقسيما منظما، يختلف من حيث الطول والقصر، ومن خلاله يتم تحديد سرعة اللحن أيضا. والايقاع هو أصل الموسيقى لأن الإنسان عرف الايقاع قبل أن يعرف الكلام، وهناك كم كبير من الايقاعات في العالم، وكل دولة بها عدد من الإيقاعات داخل مناطقها المختلفة التي تعبر عن البيئة الجغرافية والثقافية النابعة منها.
العنصر الثالث: الطابع الصوتي هو ذلك الصوت الصفة الخاصة الذي يصدر عن وسيط موسيقي إذ كما يستطيع أي إنسان التمييز بين اللون الأبيض واللون الأخضر، كذلك يعد التمييز بين الطوابع الصوتية المختلفة من الأحاسيس الفطرية التي تولد معنا وليس من المهم معرفة درجات الأصوات وأسماء الآلات، ولكن ما يعنينا هو معرفة الفرق في نوع الصوت عند الاستماع لأي منهم. فمثلا هناك آلات موسيقية يتسم صوتها بالقوة مثل آلات النفخ النحاسية، بينما أخرى يتسم صوتها بأجواء الطفولة والبراءة مثل الأكسيليفون وأنواع ثالثة يتسم طابعها الصوتي بالشجن النسبي مثل الكلارينيت والأبوا والفاجوت، ورابعة بالبهجة والفرح والتألق وأصوات العصافير مثل آلة الفوت الكبير والصغير، خاصة عند عزف النوتات السريعة ومتوسطة السرعة، وخامسة يتسم صوتها بالعمق والحزن مثل آلة الفيولينتشيللو وهذا ما يجعل التعرف على أصوات الآلات الموسيقي والبشرية والتمييز بينهم من أساسيات التذوق الموسيقي. 

music
ساكن في حي السيدة

جمعت فراج نوتات ثلاثين نوتة  موسيقية لأعمال غنائية شهيرة حيث حللت سرديا عناصر كل أغنية وعلاقة أجزائها ببعضها، وذلك باستخدام عدد من النظريات النقدية مثل النقد التفسيري أو التقديري والنقد السياقي والنقد التحليلي.
خصصت الفصل الأول لتحليل مجموعة من الأغنيات العاطفية وتضمن إحدى عشرة أغنية لأم كلثوم ومحمد عبدالوهاب وعبدالحليم حافظ ووردة ومحمد عبدالمطلب "رق الحبيب، الربيع، يا رايحين الغورية، مضناك جفاه، أمانة عليك يا ليل طول، صافيني مرة، غريب الدار، يا ريم وادي ثقيف، ليه خلتني أحبك، ساكن في حي السيدة، لعبة الأيام". 
وخصصت الفصل الثاني للأغنيات الوطنية وتضمن خمس عشرة أغنية لأم كلثوم وعبدالوهاب وشادية وفايدة كامل "يا شباب النيل، الكرنك، وقي الأرض شر مقاديره، أخي جاوز الظالمون المدى، مصر تتحدث عن نفسها، نشيد البعث الجديد، النهر الخالد، أغنيات حول قناة السويس "دع سمائي"، "أمانة عليك يا مسافر بورسعيد"، باسم مين، يا حبيبتي يا مصر، أقوي م الزمان، أحبها"، بينما حللت في مجموعة من أغنيات المناسبات التي نسمعها في المناسبات السنوية أو المرتبطة بأحداث تاريخية محددة مثل أغنيات "رمضان جانا، مرحب شهر الصوم، يا ليلة العيد آنستينا، عندي خطاب عاجل إليك". 
وفي الفصل الرابع "أغنيات ذات طابع خاص"، تناولت أغنيات لها جانب فلسفي مثل "رباعيات الخيام" لأم كلثوم، أو أخرى تتغنى بالطبيعة مثل "يا بدع الورد" لأسمهان حيث رأت أن هاتين الأغنيتين لهما طابع خاص بعيدا عن التصنيف الواضح للأغنيات السابقة.