الاسلحة الكيماوية الغارقة تهدد شواطئ اوروبا

موسكو - من فلاديمير زاغفوزكين
الطيور البحرية تتعرض للتسمم بسبب تسرب النفايات من الاسلحة الكيماوية

بدأت هذه القصة بين العامين 1946 و1974، ولكن نهايتها غير معروفة حتى اللحظة، وقد تؤدي لتحول ليس فقط بحر البلطيق وبحر الشمال إلى منطقة "تشرنوبل في البحر"، بل معهما ساحل أوروبا الوسطى والغربية المكتظ بالسكان. هذا ما يحذر منه مدير قسم الأطلسي في معهد علم المحيطات بأكاديمية العلوم الروسية فاديم باكا.
ونعود لبداية القصة بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية حين اتخذت بلدان التحالف المعادي لهتلر قرارا يقضي بإتلاف ما صنعه الفاشيون من احتياطي السلاح الكيميائي. ولكن هذه الخطة، كما اتضح بالأمس القريب، لم يتسن لها تنفيذها.
لقد ورثت الدول الغربية تركة من قرابة 270 ألف طن من الإيبريت واللويزيت والزارين والزومان وغيرها من المواد السامة التي منها ما هو مخزن، ومنها ما هو في شكل قنابل وقذائف ذات مكونات كيميائية. الخطة كانت تقضي بإغراق هذا كله في الأطلسي وإلى أعماق كبيرة طبعاً. فحمّل البريطانيون والأميركيون العبوات المليئة بالمواد السامة على متن السفن التي غنموها في الحرب، غير أنهم لم يذهبوا بها إلى المحيط الخضمّ. فقد كانت السفن تلك قديمة، وكان البحر هائجا خلال الأيام التي كانت العملية تجرى فيها.
ويقول شهود عيان أن بعض المخازن راحت ترشح منها المواد التي في داخلها، وهذا أدى إلى أن عددا غير قليل من الألمان الأسرى الذين كانوا يحمّلونها على متون السفن أصيبوا بالتسمم. وتشير كل الدلائل إلى ان مديري العملية دب فيهم الذعر ولم تتفتق عبقريتهم عن شيء أفضل من إغراق السفن المحملة بالسموم القاتلة في مضيقي سكاغيراك وكاتيغات اللذين يربطان بحري البلطيق والشمال أحدهما بالآخر.
لقد ذهب إلى القاع ما يقرب من 60 سفينة. وبدلا من فتح الصمامات لإغراق السفن راحوا يقوضون المتون والقيعان. فما كان من الماء إلا أن دخل دخولا غير منتظم وغرقت السفن بعضها من المقدمة والبعض الآخر من المؤخرة، والبعض الثالث انقلب رأسا على عقب.
وخلافا لما فعل الحلفاء قرر الاتحاد السوفييتي أن من الترف الفارغ إغراق السفن والبوارج التي لا يزال يمكنها ان تسدي خدمة ما. ولذا أعطيت الأوامر برمي الـ35 ألف طن من الذخائر الكيميائية "فلتاً" في البحر دون السفن على بعد 70 ميلاً من لييباي وفي منطقة جزيرة بورنهولم. وانتهت هذه العملية في كانون الأول العام 1947.
يقول الأكاديمي الروسي تنغيز بوريسوف: "لا يمكننا أن نلوم الآباء والأجداد على ما تركوه في بحر البلطيق من لغم موقوت. فهم انطلقوا من مستوى المعارف في تلك السنين وكانوا مقتنعين بان ماء البحر سيحلل ويذوّب دون أن يترك أثراً للمواد الكيميائية التي ترمى فيه. ولكن ما كان يحسن بهم أن يغرقوا الحمولة السامة في الماء الضحل وفي حوض شبه مغلق كبحر البلطيق. غير أن ما كان قد كان. وهذه "الهدية" الموروثة من الماضي لا تفتأ الآن تذكّر بنفسها أكثر فأكثر حين تسمم الماء والأسماك، والإنسان طبعا الذي يأكل من هذه الأشياء كلها ويسبح في هذه المياه.
وعدد المكبات الكيميائية في البلطيق يقرب من 60 مكباً. وعلى الرغم من أنها معينة على الخرائط البحرية فصيد السمك يجري هناك على قدم وساق". ويعتبر بوريسوف أن الخطر الأساسي يتأتى من السفن المغرقة. فالذخائر التي رميت "فلتاً" غير معلبة دون السفن غاصت في القاع لتنضم إلى حمأته ولتتراكب فوقها طبقات الحمأة العادية ولتغطيها قشرة من بيوت الحلازين الميتة. فهي لم تعد على اتصال مباشر بالعضويات البحرية. أما هياكل السفن كأجسام ضخمة فتصدأ ولو ببطء، ولكن حين تحين ساعتها فإن تسرب نفايات المواد السامة سيكون هائلا.
وإذا ما أخذنا في الحسبان أن المواد السامة شديدة التسبب بالسرطان وبفوضى نمو الخلايا، فإن الخطر على البيئة من حلول الكارثة خطر عظيم. وقد بينت عالمة الوراثة البريطانية شارلوتا أَوِرباخ أن الإيبريت، مثلا، هو من أكثر المواد تسببا بالنمو الفوضوي للخلايا وتاليا بالسرطان. وكمية ضئيلة منه كافية لو دخلت الجسم لإحداث فوضى شديدة في نمو الخلايا.
ولقد اضطرت خطورة الوضع روسيا إلى الانخراط في دراسة المشكلة. وفي عام 1997 وقع الرئيس الروسي أمراً يشير على المؤسسات الروسية المعنية بالمشاركة في الجهود الدولية المبذولة لإزالة آثار إغراق السلاح الكيميائي.
ويقول رئيس بعثة الأبحاث الروسية الخامسة فاديم باكا: "كان معتبرا حتى الآن أن المكبّ الكيميائي في منخفض بورنهولم هو الأقل تهديدا بين كل مقابر السلاح الكيميائي في قاع البلطيق. وكان متمسكا بهذا الرأي خاصة اختصاصيو لجنة هلسنكي لقضايا الأمن في أوروبا (هلكوم). غير أن رأيي تغير بعد البعثة الأخيرة وبتّ أرى الخطر كله في هذا المكبّ بالذات. لقد عملنا هنا مع موظفي معهد البحوث البحرية في غدانسك. استخدمت في البعثة سفينتان: الروسية "البروفسور شتوكمان" والبولندية "الدكتور لوبتسكي" المجهزة بجهاز "عين البحر" البريطاني المخصص للأعماق. فحين أنزلنا هذا الجهاز إلى عمق 92 مترا عثرنا على خمس بوارج صدئة وقد أودعت على ظهرها صناديق الذخائر الكيميائية. وتبين لنا أن لا حياة في طبقات ماء البحر القريبة من القاع، وكشفت لنا عينات التربة احتواءها على كميات كبيرة جدا من الزرنيخ واللويزيت.
وسجل شريط الفيديو أن السفن المحملة ذخائر غارقة إلى نصفها في حمأة القاع دون أن تندفن فيها وأن الذخائر صدئت والمواد السامة ومنتجات تحللها باتت تتسرب إلى الماء. وربما حصلت في أعوام 2002-2007 تسربات كبيرة منها.
ويرى هذا العالم أن إبعاد الخطر غير ممكن من دون اتخاذ إجراءات عاجلة. ولكن إذا حلت الكارثة فلن يكون ممكنا البتة أن تزال عواقبها.
والسؤال المنطقي الذي لابد ان يقفز للذهن هو ما هي الخطوات العملية الواجب اتخاذها؟
يقول باكا إنه يجب أن تتواصل عند شواطئ الدانمرك والسويد والنرويج ولاتفيا ومحافظة كالينينغراد الدراسة الشاملة لأمكنة طمر السلاح الكيميائي بغية تزويد الاختصاصيين بالمعطيات الأولية كي يصمموا طرائق تقنية لضمان سلامة المكبات. ونظرا لطابع المشكلة الدولي لا بد من مشاركة كل بلدان بحري البلطيق والشمال في معالجتها. ولا سيما منها من أنتج وأغرق في البلطيق ومضائقه الذخائر الكيميائية وبينها ألمانيا وفرنسا والولايات المتحدة وبريطانيا وروسيا.
والمسألة تستحق بحثا عاجلا في منظمة الأمم المتحدة وفي مجلس أوروبا والاتحاد الأوروبي وفي حلف الناتو. فهنا بالذات يمكن لبرنامج حلف الناتو "الشراكة باسم السلام" أن يتجسد فعلا. ونضيف أن ليست المحطات النووية والمصانع الكيميائية هي وحدها التي يمكن أن تصبح هدفا لارتكاب أعمال إرهابية، بل هناك أيضا مطامر المواد السامة القتالية في قاع بحري البلطيق والشمال، ولذا من الضروري أن تحظى بحراسة مشددة.