البحث المستحيل عن كائن الطهرانيّة الخرافيّ

تتبع تحولات أسطورة الحصان ذو القرن السحري ضمن النصوص الدينيّة والطبية منذ العصور الوسطى حتى الآن في معرض باريسي.
نشاهد في المعرض تأثير القطع الست على تاريخ الفن، وخصوصاً الفرنسي غوستاف مورو
تتداخل في لوحة غوستاف مورو كائنات العصور الوسطى مع موضوعات عصر النهضة

بقلم: عمار المأمون

في حال كان الماء مسموماً، يكفي أن يلمسه بقرنه الطويل، حتى يعود صافياً، ويمكن الشفاء من أي مرض بلمسة من هذا القرن، ولاصطياد صاحب هذا القرن، لا بد من غوايته بعذراء، يأتي إليها مفعماً بحبّه، وحينها يمكن الانقضاض عليه وأسره.
هذه الخصائص السحريّة يحملها الحصان ذو القرن أو unicorn، الذي تحول إلى كائن يحضر في قصص الأطفال، بوصفه رمز البراءة والطهرانيّة، بعد أن كان حيواناً برياً أسطورياً، محطّ الجهود الطبيّة والدينيّة التي ترى فيه خلاصاً للبشرية في بعض الأحيان.
يشهد متحف العصور الوسطى (متحف كلوني) في العاصمة الفرنسيّة باريس، معرضا مميزا باسم Magiques Licornes) ) أو الحصان ذو القرن السحري، ونتتبع فيه تحولات هذا الكائن الأسطوري ضمن النصوص الدينيّة والطبية، إلى جانب المنحوتات والرسومات والأشكال الثقافيّة المختلفة، التي حاولت أن تلتقط جوانب مختلفة من خصائص هذا الكائن الخرافيّ رمز العفة والبراءة أحياناً، والعنفوان والحرية في أحيان أخرى.
القطعة المركزيّة في المعرض هي "السيدة والحصان ذو القرن"، وتتألف من ست قطع قماشيّة مُخاطة من الصوف والحرير تعود إلى القرن السادس عشر، أعيد اكتشافها عام 1840 في فرنسا. تعتبر هذه القطع الست من الروائع الفنيّة، فهي مليئة بالتفاصيل الدقيقة والوحوش المتنوعة، إذ تحوي كل قطعة سيدة وحولها فرس ذو قرن ونمر وأحياناً قرد، وبقيت محط التأويل لفترة طويلة، لكن يُتفق أن كل قطعة قماشيّة تمثل واحدة من الحواس الخمس، أما السادسة التي تحمل اسم "إلى رغبتي الوحيدة"، فيقال إنها كناية عن اجتماع الحواس كلها في لحظة واحدة خالقة نشوة أبديّة.
نشاهد في المعرض تأثير هذه القطع الست على تاريخ الفن، وخصوصاً الفرنسي غوستاف مورو ولوحته الشهيرة unicorn، التي تتداخل فيها كائنات العصور الوسطى مع موضوعات عصر النهضة، ويتجلى ذلك في الأزياء وطريقة وقوف النساء، اللاتي تحيط بهن الكائنات الخرافيّة التي يمكن فقط للعذراوات لمسها، وكأنهن في جزيرة كل ما فيها طاهر، فلا قتل ولا عنف، إذ نرى سيفا تركته واحدة من النساء، وحملت عوضاً عنه ليلكة، الزهرة التي ترمز للعفّة والعذريّة. 

بقعة من ضوء
العمل الفنيّ يسائل الحدود

يحضر الكائن الخرافي أيضاً ضمن النصوص الدينيّة للعصور الوسطى، ففي وواحدة من المخطوطات التي تعود للقرن الخامس عشر بعنوان "العذراء مريم وصيد الحصان ذو القرن"، نرى امرأة تحمل الحصان الأسطوري دلالةً على عفة مريم العذراء، أما الحصان فبشارة بولادة السيد المسيح، كذلك تحضر هذه "الطهرانيّة" في تمثيلات القديس إسطفانوس أول شهيد في التراث المسيحي، إذ نرى الكائن الأسطوري بجانب جثته في القدس، في دلالة على طهرانية دعوته للمسيح، بعكس ما اتهم به من هرطقة أدت إلى قتله.
ما يلفت النظر في المعرض عمل للفرنسي نيكولا بوفيت، باسم "جلد الحصان ذو القرن" والمثير للاهتمام فيه، أنه ينزع الصفة الأسطورية عن هذا الكائن، ويجعله حاضراً بيننا، عبر تحويله إلى قطعة زينة فاخرة، محيلاً إلى الجهد البشري المرتبط بالصيد، وتحويل السحريّ واللاملموس، إلى نوع من الأثاث الحديث الفخم ذي الزخرفة المعاصرة التي تحاكي مخيلتنا، إذ يحيل كل موتيف زخرفي فيه إلى موضوعة نتداولها يومياً، كأليس في بلاد العجائب ولعبة باك مان.
نشاهد أيضاً منحوتة للفنانة سوفي لوكومت التي تعود لعام 2006، بعنوان "بيوض الحصان ذو القرن" والتي تطرح تساؤلات تشكّك بوهميّة هذا المخلوق، فالبيوض الموضوعة داخل الزجاج والصيغة الجديّة التي تقدم بها، كالوصف اللاتيني وسحب الهواء منها، يكسبها بعدا شعريا، وكأنها محفوظة للحظة المناسبة التي يولد فيها الكائن وتعم طهرانيته على الأرض، فزمن البشارة لم يحن بعد، ومازالت قيد التكون.
يتيح لنا في المعرض فرصة مشاهدة صور وتسجيلات بالية "السيدة والحصان ذو القرن" التي صمم أزياءها وديكوراتها جان كوكتو في منتصف الخمسينيات، كذلك نشاهد فيديو أرت مُنجز عام 2007 للفنانة مادير فورتونه، وفيه يقف حصان أبيض ذو قرن تحت بقعة من ضوء، ثم يهطل بعدها مطر أسود يلطخه، ويكشف لنا أن القرن مجرد قطعة بلاستيكية تم إلصاقها بمقدمة رأس الحصان، وكأن العمل الفنيّ يسائل الحدود بين المتخيّل المتماسك المثاليّ، والواقع وتغيراته التي تكشف الحقيقة، وتعري الفانتازمي من خصوصيته السحريّة، لنرى أنفسنا أمام حصان مُبتل، كوجه مرتبك سالت منه الزينة، مُلطخاً بالكحل كاشفاً عن خصائصه الطبيعيّة التي تختفي وراء المخيّلة والمعتقدات الغيبيّة.