البحث عن الحقيقة ونقد الواقع في 'خريف 2094'

رواية المصري أحمد حامد تبدو رواية من روايات الخيال العلمي المعنية بالسفر عبر الزمن، لكنها ليست قصة للتسلية يزجي بها القارئ وقت فراغه، بل رواية أفكار ورؤى تحتاج إلى إعمال فكر وثقافة قادرة على مسايرة آراء السارد ومناقشة أفكاره وافكار شخصياته.
د. أبو المعاطي الرمادي
الرياض

في رواية "خريف 2094.. النوستالجي" لـ أحمد حامد الصادرة عن دار لوتس للنشر الحر 2020م، تبرز تيمة البحث عن الحقيقة بوضوح، ومن خلالها يطل السارد العليم من طرف خفي على مشكلات الواقع المصري، ملمّحًا إلى أنها مشكلات أزلية توارثها الأبناء عن الأجداد، ويشير إلى حلول يراها المثلى لمشكلات حاضرنا، أهمها الاعتزاز بماضينا العريق، والبحث عن حلول لمشكلة تزييف التاريخ، والاهتمام بالمعلم والمثقف ورجل الدين، وبالمعرفة فهي الأمل في الانعتاق من أسر الجهل والتبعية.

تبدو الرواية من خلال التضاد الظاهر في عنوانها الجامع بين الاستشراف والعودة إلى الماضي رواية من روايات الخيال العلمي المعنية بالسفر عبر الزمن، ويقوي ذلك الإهداء الذي جاء إلى علمين من أعلام روايات الخيال العلمي وما وراء الطبيعة، هما مصطفى محمود، وأحمد خالد توفيق، والتقديم المختصر الذي قدم به السارد روايته "أحيانًا يسافر الإنسان عبر الزمن دون أن يدري".

وهي عتبات تحدد للقارئ المدخل الذي يجب أن يدخل منه إلى عوالم الرواية، وما يجب أن يتحلى به حتى يستطيع التفاعل مع أحداثها، فهي ليست رواية تسلية يزجي بها القارئ وقت فراغه، بل رواية أفكار ورؤى تحتاج إلى إعمال فكر وثقافة قادرة على مسايرة آراء السارد/ المؤلف، ومناقشة أفكاره، وأفكار شخصياته.

تبدأ الرواية بصراخ سعيد وسامر عام 2094، المراهقان المحبوسان في غرفة فولاذية، حبسهما بها رجل مشفق عليهما من الانتحار، سمياه الغراب، كل ما يربطهما بالعالم الخارجي الطعام الذي يدخله لهما الرجل الغراب من نافذة صغيرة ملحقة بباب الغرفة الخالية من كل شيء، غير سريرين، ودورة مياه، وصندوق مغلق يحتوي على أغراض غير معلومة، يستخدم أحيانًا كطاولة طعام.

بعد مرحلة البكاء والأسئلة التي ليس لها إجابات في بدايات حبسهما استسلما للسكون ورضيا بالأمر الواقع، وأصبح لهما فلسفتهما الخاصة الداعية إلى الاستكانة والتخلص من ألم إعمال العقل وعواقب التفكير "إذا توفر الطعام بجانب السرير فلن نعبأ إن كنا بشرًا أم حمير"، لكن دوام الحال من المحال، ففي إحدى جلسات الاستكانة وسعيد يتأمل شعاعًا من أشعة الشمس المتسللة إلى الغرفة من فتحات صغيرة موزعة على جدرانها من أجل التهوية، انتبه إلى وجود الصندوق، تحسسه ثم نزع قفله البالي وأخرج ما فيه من أوراق وكتب قديمة، راح يقرأ ما في الأوراق، لكن لم يجذبه مما قرأ فيها شيء، فسحب أحد الكتب القديمة، الذي كان مسودة رواية كتبت قبل ثمانين عامًا، أي في عام 2014م، تحكي عن أب يحكي لابنه قبل النوم قصة نبي الله موسى عليه السلام  وفرعون الذي أُغرق في اليم هو وجنوده، وسؤال الابن أباه عن موقف المصريين القدماء بعد موت الفرعون، هل آمنوا برب موسى، أم ظلوا على كفرهم به؟ " وهكذا غرق فرعون ومات أليس كذلك؟ فأجبت ببلى، فقال مستنتجًا: وبذلك آمن المصريون بإله موسى بعدما غرق فرعون اللعين". لم يجد الأب إجابة يروى بها ظمأ ابنه الرافض انتهاء القصة عند غرق الفرعون، كما ورد في القرآن الكريم، راجع قراءاته في تاريخ مصر القديمة فلم يجد أية إشارة إلى ما بعد هذه الحادثة، بل لم يجد أية إشارة لموت الفرعون غرقًا." قلت له: يا ولدي لا توجد في آثار المصريين القدماء ما يتحدث عن قصة نجاة موسى والمؤمنين وغرق فرعون".

استدعى سؤال الابن أسئلة كثيرة لم يجد لها الأب إجابة، سألها أبناؤه من قبل، أسئلة أكدت له احتمالية تزييف التاريخ " ترى كم وقائع لم تحكى لنا، لم يرصدها الراصدون، أو يكتشفها المكتشفون، ثم... ثم ماذا إذا كانت لم تكتب من الأساس! ماذا لو أن أصحاب القرار عزموا وتعمدوا إخفاءها".

هذا الشح المعرفي كان دافعه للرحيل إلى الماضي بحثًا عن الحقيقة، آملًا أن يقرأ أولاده  في يوم من الأيام في كتب المدرسة " التاريخ كما حدث، ويتذوقون طعم الحقيقة المجردة"، وأن يجدوا دائمًا ما يتوافق مع تفكيرهم المنطقي، أو على الأقل ما يجاريه.

رحل الأب المعروف بالنوستالجيإلى ثمانية أماكن في مصر القديمة، مصر الفرعونية، واليونانية، والرومانية باحثًا عن صحة ما وصل إلينا من معلومات وأخبار عن مصر ما قبل وبعد الميلاد. وقف فيها على حقيقة التوحيد عند المصريين القدماء، وتوصل إلى أن أخناتون هو رافع راية التوحيد، والداعي إلى الإله الواحد الخالق كل شيء، وبحث عن القوم الذين أرسل إليهم سيدنا إبراهيم عليه السلام، واكتشف أنه أرسل إلى الهكسوس المحتلين الذين سكنوا شمال مصر، حتى طردهم أحمس، ورد على الأكاذيب الدائرة حول شخصية أحمس، كتسخيره لأبناء النوبة، وفشله في تحقيق نهضة مصرية حقيقية، ووقف على السبب وراء إخفاء حقيقة موت رمسيس، الفرعون الذي تبع سيدنا موسى وقومه، غرقًا باليم، وادعاء الكهنة موته مريضًا، واكتشف أن السبب كان حرص الكهنة على المحافظة على سلطتهم، وبحث في الأقاويل الدائمة حول أصل المصريين هل هم فراعنة أم عرب؟ ووقف على القصة الحقيقية لإيزيسوأوزوريس، وأن أوزوريس هو نبي الله إدريس عليه السلام،ووقف على دور العرب المسلمين في مصر، وتابع رحلة الإسكندر إلى سيوة، وحقيقة موته بالملاريا، وتأليه كهنة آمون له، وكيف تولي بطليموس حكم مصر، وحقيقة زواجه بأخته، والقصة الحقيقية للملكة كليوباترا، واستعباد الإغريق للمصريين.

بعد رحلة طويلة عاد الأب إلى ابنه بنصف الحقيقة، فمن خلال حلم كان الأب وابنه فيه يسيران بصحراء شاسعة يكاد الظمأ يقتلهما، حفر الأب بئرًا لإنقاذ ابنه، لكن ماءها جاء مالحًا، استساغه الأب المعتاد على مثل هذا الماء، الرامز إلى نصف الحقيقة، ورفضه الابن، فنصح الاب ابنه بالبحث عن الماء العذب؛ فدائمًا بعد الماء المالح ماء عذب/ حقيقة كاملة. "لا ترضى بالماء المالح حتى لا يموت العذب الذي بداخلك، ابحث يا بني ربما كان عليك أن تزيد العمق وتبحث في طبقة أخرى".

نصيحة الأب دليل على أن الحقيقة المجردة نسبية، والوصول إليها يحتاج إلى عمل دؤوب، وأن الاعتماد على الذات هو أقصر طرق الوصول إليها.

لا ترضى بالماء المالح حتى لا يموت العذب الذي بداخلك

مع حكاية الأب سارت حكاية سامر وسعيد سجينا الغرفة الفولاذية، يخبرنا السارد أنهما فرا مع مجموعة إلى سفينة تعمل بنصف طاقتها، بعد إصابة الأرض بشحنة كهرومغناطيسية دمرت الحياة على سطح الأرض وعادت بالإنسان إلى العصور البدائية، لكن كل من كانوا على السفينة انتحروا بعد إدراكهم انقطاع السبل بهم داخل بحر بلا شطآن، وفقدانهم أمل العودة، ولحب الرجل الغراب (طبيب السفينة) لهما سجنهما في الغرفة الفولاذية وعزلهما عن العالم حتى لا يفكرا في الانتحار، وتولى أمر رعايتهما وتوفير الطعام لهما، كان يصطاد السمك بطريقة بدائية، ويعد الطعام على الطاقة المحدودة النابعة من مجموعة ألواح شمسية، ويعالجهما ببعض الأعشاب التي يحتفظ بها، ظلت حياتهما هادئة ساكنة حتى بدأ سعيد قراءة ما في الصندوق؛ فبعد القراءة أمسك بجزء من الحقيقة، وتغيرت حياته، ووجد للحياة فائدة، عرف أنه جزء من عالم كبير، ولهذا العالم إله، وكأنه حي بن يقظان، لكن التغيير الأكبر كان عندما عرف من خلال مجموعة أوراق كانت في قعر الصندوق أنه وصديقه سامر والرجل الغراب الباقون بعد التأثير الكهرومغناطيسي.

إن البحث عن الحقيقة هي التيمة الأساسية في الرواية التي أراها رواية للناشئة تخاطب عقلية الكبار، لكن أحمد حامد المتقنع بقناع الماضي أبى أن تقف الرواية عند هذا الحد؛ فجعل من أحداث الماضي مرآة عاكسة للواقع المصري وما به من سلبيات كثيرة، أشار إليها بطريقة لاذعة حينًا، وبطريقة كوميدية حينًا. انتقد أنظمة التعليم، ولمح لعلاقة الدين بالسياسة، وإلى الدور المنتظر من رجل الدين، ولمح إلى الدور المأمول من المثقف والمعلم، وأعاب على الشباب الاستسلام للآخر، والإيمان بفكرهدون مناقشة وإعمال عقل، وقارن بين حضارة القدماء وحضارة الحاضر، وإنسان الماضي وإنسان الحاضر، الذي يثرثر كثيرًا ويعمل قليلًا، محترف الكذب حتى على نفسه. وهي مقارنات كانت نتيجتها في صالح الماضي وإنسانه.

مع أن الرواية هي الرواية الأولى لـ أحمد حامد إلا أنه أثبت فيها امتلاكه لموهبة روائية مبشرة بالخير؛ فهو يكتب وهو مدرك لأساسيات الكتابة الروائية، وملم بتقنيات السرد الروائي، فقد استطاع التحكم في البناء الدائري للرواية التي انتهت من حيث بدأت، ونجح في استثمار معطيات الميتافيكشن، والتناص الديني، والأغنية، والقالب الرحلي، والحكاية الشعبية، والغرائبي، والعجائبي، والغريب، والعجيب في صناعة متخيل سردي متميز، وبرع في الإمساك بتلابيب خيوط التشويق من بداية الرواية حتى نهايتها،فأجبر القارئ على قراءة الرواية حتى آخر كلمة فيها، كما استطاع  تخليص الرواية من سطوة الراوي العليم المتحكم في حركة الأحداث والشخصيات، بمسرحته للأحداث عن طريق منح الشخصيات مساحة كبيرة للحوار.

حقيقة ترهلت الرواية منه في بعض الأماكن، فأطنب في مواقف الإيجاز فيها أفضل، وأصاب لغته الخلل النحوي والصرفي والإملائي في غير موضوع، إلا أن قدراته الفنية على صناعة متخيل حكائي محكم النسج تشفع له؛ فهي مشكلات البدايات الدائمة.

لن أبالغ إذا قلت إن الساحة الأدبية في مصر كسبت، في المنطقة المفضلة لـ أحمد حامد، كاتبًا متميزًا شريطة أن يعمل على تطوير نفسه، ويطلع على كل جديد في روايات الخيال العلمي، ويتابع كل ما يكتب عنها من نقد.