البعد النفسي والاجتماعي والسياسي في رواية «سوسنة المستنقع»

رواية مختار عيسى رواية واقعية متمردة؛ تكشف الكثير مما في واقعنا السياسي والاجتماعي من عوار.
التعبير عن التهميش والفقر والضياع والتمرد والانحراف الجنسي
الرواية زخرت بمجموعة من التيمات والمواضيع

هذه الإضاءة لرواية «سوسنة المستنقع» للكاتب المصري مختار عيسى تتمحور حول البعد النفسي والاجتماعي والسياسي الذي اكتنزت به الرواية؛ بهدف تعرية واقعنا العربي المرير؛ إذ لا بد لقارئها أن يكون غير متسرع في الحكم؛ وهو مطالب بالبحث فيما تطرحه من قضايا سياسية واجتماعية وتيمات معبِّرة عن دواخل الذات العربية المجروحة؛ فكاتبها يعرِّي الغطاء عن واقعنا القاسي وما يعتريه من ظلم وفساد وتناقضات مرتبطة بواقع فرضته محددات سياسية وسوسيولوجية وسيكولوجية، فتتحول فيه البطلة «ندى» إلى بطلة إشكالية تحلم بالتطهُّر من دنسها من داخل عالم مليء بالمتناقضات. فمع كل التردي الذي وقعت فيه، فإن لديها دائماً رغبة في التخلص من حياتها الملوثة والعودة إلى نقاء السريرة والطيبة الإنسانية، لذا نرى أنفسنا أمام شخصية مصابة بانفصام نفسي حاد، تصف نفسها بأنها قديسة وعاهرة. 
وقد نهج كاتبنا خيار الواقعية في روايته كَيْ يُعَرِّي الواقع البئيس، فالرواية الواقعية تحاول دون أدنى شك رسم كل متنوعات التجربة الإنسانية، وليس فقط تلك التي تتلاءم مع وجهة نظر أدبية خاصة؛ إذ لا تكمن واقعية الرواية في نمط الحياة التي تعرضها، بل تكمن في طريقة عرضها إياها. وهذا يعني أننا بصدد خطاب لا ينسخ الواقع كما هو، ولا يعكسه بشكل سطحي، بل إنه يمسك بالكلية الاجتماعية بغية الغوص فيما هو كامن خلف الظواهر الحسية وما يمثل حقيقة جوهرية. 
لقد زخرت الرواية بمجموعة من التيمات والمواضيع التي سنحاول تلمسها انطلاقاً مما يلي:

رواية «سوسنة المستنقع» تطرح ضرورة قراءة ما وراء الخطاب، فهاجس إنسانية الإنسان كان فوق كل اعتبار رغم معاناته من الفقر والتهميش والنبذ

•    التعبير عن التهميش والفقر والضياع والتمرد والانحراف الجنسي:
يظهر من بداية الرواية أننا أمام واقع اجتماعي متأزِّم تّمثَّل في أسرة عانت من الفقر والتهميش والضياع والانحراف الجنسي؛ وبغية الهروب من هذا الواقع؛ نراهم متمردين على التقاليد والأعراف؛ خاصة «ندى» العاهرة المحترفة، العدوانية التي أصبحت على استعداد تام للخيانة بكل أنواعها؛ خيانة الأهل والوطن والدين وكل مقدس، ولا يهمّها إن سقط في الطريق عشرات الضحايا، ولو كانوا أقرب الناس إليها. وكل هذا الشر الذي تحمله داخلها قد جعل منها شخصية سادية تهوى تعذيب ذاتها والآخرين؛ فتحيا حياة قاسية مليئة بالدوامات والأزمات والغدر؛ بين ناريْ العهر والتوبة؛ كأنها وُجِدت لتتعذب ولتنتقم؛ وكأن بينها وبين الحياة ثأراً لن ينتهي.
ولعل في الأزمات الاجتماعية وما عانه المواطنون العرب تحت وطأتها من تهميش وفقر وضياع ما دفع «ندى» وأسرتها في طريق الضياع والانحراف والتمرد على الأعراف والتقاليد، لتكتمل مأساتهم جميعاً بفقدانهم الروابط الأسرية؛ وحلول الحقد والكراهية بينهم بدلاً من الأمومة والأخوة. 
•    كشف الواقع المليء بالمتناقضات: 
يظهر الواقع العربي المليء بالمتناقضات منذ العتبة الرئيسية للنص؛ عنوانه «سوسنة المستنقع»؛ إذ السوسنة زهرة جميلة تزرع في الحدائق، ويمكنها التكيُّف مع ظروف البيئة المحيطة، لكن هل يمكنها العيش في المستنقع؟!
وفي المتن كنا أمام قصة بطلتها المرأة الجميلة الفاسدة الماجنة مشوهة الفخذ والنفسية؛ حيث استخدم المؤلف التناقض في بناء شخصية «ندى» الجميلة كزهرة السوسن، صاحبة التشوهيْن النفسي والجسدي اللذيْن تسبب فيهما واقع مأزوم؛ تماماً مثل زهور السوسن الذين يرزحون تحت وطأة الواقع العربي. ولعل هذا ما يؤكده العنوان الداخلي للرواية: «سوسنة المستنقع؛ الاحتراق البارد»؛ حيث كان التضاد في عبارة «الاحتراق البارد» يجسد معاناة المواطنين ما بين احتراقهم الداخلي المكبوت وبرودتهم الظاهرية؛ مما يكشف الغطاء عن واقعنا المليء بالمتناقضات. 
كما استطاع السارد أن يضعنا أمام عالم مليء بالمتناقضات عبر أحداث كثيرة منها ما تناول تناقضات المتطرفين والوعاظ الجدد والمنقبات الذين يدَّعون التقوى والورع، في حين أنهم إرهابيين ويبتغون جمع الأموال والوصول إلى النفوذ والسلطة؛ مما يحمل إشارة إلى الأزمة الاقتصادية التي عصرت المواطنين في تلك الفترة، فأجبرت الكثيرين منهم على الدهس على المبادئ والنفاق والتطرف والإرهاب؛ إذ الفقر والتفاوت الطبقي والبطالة وغيرها من علامات الظلم الاجتماعي؛ هم الأسباب التي دفعت بهؤلاء لأن يكونوا مجرد أدوات تستخدمها أجهزة استخبارات دول معادية تهدف إلى تخريب الوطن. 
ولم يقتصر أمر التناقض في «المجتمع الروائي» على أولئك فقط بل تجاوزهم إلى تناقضات عنيفة تصل إلى مستوى مسئولين كبار خانوا الأمانة وتعاونوا مع كوادر الجماعات المتطرفة الذين جلبوا الإرهاب من الخارج إلى المجتمع العربي، وساندوهم في بسط نفوذهم والسيطرة على فكر وسلوك الكثير من الشباب. وبذلك أماط الكاتب اللثام عن عدد من مظاهر التناقض في المجتمع العربي، وما يلاقيه المواطنين من تناقض ومعاناة في وطنهم.
•    الإسقاط على الواقع السياسي: 
لعل أول ما نجده من     إسقاط على واقعنا السياسي: الحكمة التي جاءت في بداية الرواية لتوحّد ما بين العاهرة والسياسي والتاجر!: (لا تصدق كلمة الحب من عاهر، ولا الوعد من سياسي، ولا اليمين من تاجر). 

novel
دوامات الحيرة

ثم في جرأة غير عادية يسقط كاتبنا تعهر «ندى» ومتاجرتها بمصير الوطن على الأحداث والوقائع القريبة زمنياً من القارئ المعاصر؛ لتكون حالة العاهر معادلاً موضوعياً للحالة السياسية في أوطاننا خلال الزمن الروائي. 
ولتأكيد ذلك امتلأت الرواية بإسقاطات على ما يعج به المجتمع من فساد سياسي وأخلاقي؛ مثل تجارة الجسد والرشوة الجنسية لتحقيق أغراض خاصة أو عامة، وأفعال المجون لبعض رجال السياسة والإعلام، وغيرها من وسائل الفساد الذي أبرزه الكاتب بهدف إبراز درجة الفساد في مجتمع الساسة، وما يتسبب فيه من سلبيات ونتائج على الوطن والمواطن. 
هذا إلى جانب تماس الرواية مع الكيان الصهيوني بطريقة مباشرة وغير مباشرة؛ حيث نلاحظ وجود المعبد اليهودي والنجمة السداسية والشمعدان، وأسماء معينة كانت موجودة في السلطة الإسرائيلية أثناء الزمن الروائي، وحديث عن علاقات مشبوهة لبعض الوزراء ورجال السياسة بإسرائيل. 
وهذه الإسقاطات السياسية التي أشارت إلى ما نعيشه من فساد وتخبط وإرهاب وجهالة وصراع على النفوذ والمكاسب، ومتاجرة بمصير وطن؛ كانت مضفرة مع السرد بطريقة جيدة ومتماسكة؛ فضاعفت من قيمة العمل فنياً؛ فمن خلالها استطاع كاتبنا أن يوضح كيف تُدار دفة الحكم والعلاقات والمصالح في أدق مفاصل الدولة خلال الزمن الروائي. 
•     سبر أغوار الذات المثخنة بالجروح والكدمات:
لعل أول ما يجده المتلقي من محاولة الكاتب سبر أغوار الذات العربية المثقلة بالجروح والكدمات اختياره غلاف الرواية؛ الذي يحمل لوحة فنية صريحة وواضحة؛ تجمع امرأة عارية برجل مشعث الشعر مغبر الملامح، وكأنه الشيطان يوسوس لها؛ وهو ما جاء في متن الرواية لدى رؤية «ندى» جسدها في المرآة وهي تشق قميصها الخشن من أعلاه إلى أسفله؛ كأنها تنتقم من امرأة مسرفة في خصومتها؛ وعلى يسارها الوجه الشيطاني الكئيب الذي يطاردها في كوابيسها الليلية. ولعل في هذا الوضوح إفصاح مبكر يهدف لسبر أغوار نفسية «ندى» المثقلة بجراح آثامها وكدمات المستنقع الذي تحيا فيه.
والرواية تأتي على لسان راوٍ عليم ومجموعة أصوات سردية من خلال الحوارات أو بعض المنولوجات الداخلية للشخصية الرئيسة؛ بما يوضح أنها شخصية عاشت الفقر والحرمان والفشل والنبذ، والهزيمة؛ على الرغم من ثرائها الفاحش وكل ما لديها من أتباع وإمكانيات ونفوذ وسلطات سياسية. 
وكثيراً ما أخضع السارد «ندى» للذكريات؛ لينبئنا بما تخبئه دواخل شخصيتها؛ فاستغور ذاتها، وبحث في لا شعورها؛ لنصل إلى حقيقة أن فصامها النفسي يرجع لسلوك الأم في التربية وخاصة أنها كانت لا ترد يد عابث يعابث ابنتها؛ فعانت من العدوان عليها؛ وبذلك حاول السارد أن يتلمس لها العذر لدى القارئ؛ لأن المعاناة التي عاشتها كادت تفرغها من إنسانيتها، وجعلتها تعيش في لاوعيها، وأكسبتها قسوة؛ خاصة في ظل وضعها المتأزم أصلاً. 
وأيضاً كثيراً ما استخدم السارد أحلام «ندى» وكوابيسها لاستغوار ذاتها، فبحث في لاشعورها؛ لسبر أغوار نفسيتها المثقلة بالجروح والآثام؛ وذلك ليوصلنا إلى حقيقة مفادها أنها شخصية غارقة في النجس، وفي نفس الوقت يشدها شيء ما للخلاص من هذا الرجس، لتعيدها قوى أكبر منها إلى قاعه، وتلفها دوامات الحيرة؛ حتى تخنقها؛ وذلك لكي يسبر أغوار الذات العربية المثخنة بالجروح والكدمات؛ ويكشف الغطاء عن مدى الظلم الاجتماعي والفساد السياسي اللذيْن أثخنا العرب بالجروح والكدمات. 
تطرح رواية «سوسنة المستنقع» ضرورة قراءة ما وراء الخطاب، فهاجس إنسانية الإنسان كان فوق كل اعتبار رغم معاناته من الفقر والتهميش والنبذ، ورغم انحرافه ونفاقه؛ فعبرت عما يعانيه المواطن العربي من ضياع، في واقع مليء بالمتناقضات، واستخدمت الكثير من الإسقاطات على الواقع السياسي العربي؛     وسبرت أغوار الذات العربية المثخنة بالجروح والكدمات؛ فكان أن حصلنا على رواية واقعية متمردة؛ تكشف الكثير مما في واقعنا السياسي والاجتماعي من عوار.