البغدادي.. وما قتلوه ولكن شُبِّه لهم

خلال الحرب الأفغانية رونالد ريغان استقبل في البيت الأبيض جماعة من قادة المقاتلين الأفغان وخاطبهم قائلا: إذا كان مكوك الفضاء كولومبيا يمثل أرفع تطلعات الإنسان للتكنولوجيا فإن المقاتلين الأفغان يمثلون أسمى تطلعات الإنسان للحرية!

بقلم: نضال منصور

"وما قتلوه ولكن شُبِّه لهم"، هكذا تراءى لي المشهد بعد التصريح والتلميح للمروجين لنظرية المؤامرة إثر إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب قتل زعيم تنظيم الدولة الإسلامية ("داعش") أبو بكر البغدادي.

بعيدا عن المقارنات التي عقدتها وسائل الإعلام بين طريقة إعلان الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما مقتل زعيم تنظيم "القاعدة" أسامة بن لادن في مايو 2011، وطريقة الرئيس ترامب في إعلان قتل البغدادي في أكتوبر 2019، فإن الكثير من الاستحضار والتشكيك للروايتين الأميركيتين ما تزال حاضرة، وتُلهم الخيال لسيناريوهات كثيرة عن "تصنيع الإرهابيين" في مختبرات وكالات الاستخبارات الأميركية والغربية عموما.

قصة التشكيك في الرواية الأميركية لا تبدأ ولا تنتهي عند كارهي الولايات المتحدة من العقائديين؛ بل تمتد وتنتشر حتى بين بعض المثقفين، ويتخوّف منها دبلوماسيين وهو ما عبر عنه سفير بريطانيا السابق في الولايات المتحدة السير كريستوفر ماير بعض مقتل بن لادن ورمي جثته في البحر.

وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف لا يبدو هو الآخر مهتما أو مقتنعا بحكاية "داعش" ومقتل الخليفة أبو بكر البغدادي الذي أرعب العالم، ويرى أنه صنيعة أميركية، ومن خلقوه ـ أي أميركا ـ قاموا بتصفيته.

نظرية المؤامرة لها سياق سياسي، وفي الظلال تقبع تداعيات دينية واجتماعية واقتصادية لا يمكن تجاهلها، ففي منتصف الثمانينيات من القرن الماضي وحين كانت الحرب مُستعرة بين الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفيتي؛ جندت واشنطن كل قوتها وحلفائها لدعم "المجاهدين العرب" في حربهم ضد الشيوعية في أفغانستان.

ومن القصص الطريفة التي تُروى أن الرئيس الأميركي رونالد ريغان استقبل في البيت الأبيض ثلة من المقاتلين الأفغان وخاطبهم قائلا "إذا كان مكوك الفضاء كولومبيا يمثل أرفع تطلعات الإنسان للتكنولوجيا، فإن المقاتلين الأفغان يمثلون أسمى تطلعات الإنسان للحرية".

إذا استبعدنا من حديث ترامب أن الخليفة البغدادي كان يبكي وخائف ومات مثل الكلب، وإذا ما غُض النظر عن "الجثة" التي ألقيت في البحر مثلما فعلوا مع جثة بن لادن، فإن الحقيقة التي يجب التعاطي معها أن البغدادي أصبح من الماضي، وهو الأمر الذي يفتح باب الأسئلة عن حقيقة نهاية وأفول عهد تنظيم "داعش".

وسائل التواصل الاجتماعي بانتشارها الرهيب، وما توفره من خصائص للوصول لكل الناس، كانت الوسيلة والحاضنة التي ساعدت في تكوين "الخلايا النائمة" و"الذئاب المنفردة" الذين أحدثا الهلع والاضطراب في كل بقعة في العالم، وكانا عتاد "داعش"، والقادرين على الضرب والوصول لأهدافهم دون أن يكونوا معروفين لدى أجهزة الأمن، ولا يخضعون للمراقبة الأمنية.

التقصي والتحليل يُشيران إلى أن "داعش" لن ينتهي بمقتل خليفته البغدادي، وهو قادر على تصنيع قيادات جديدة دون الصخب الذي أحدثه البغدادي حين وليَّ خليفة وزعيما، والأرجح أن "داعش" الذي تكشف تقديرات استخبارية أنه يملك ما يزيد عن 300 مليون دولار قادر على الحركة والاستمرار، ويُلخص رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون ما حدث بالقول "مقتل البغدادي لحظة مهمة في القتال ضد الإرهاب، لكن المعركة ضد "داعش" لم تنته بعد".

استطاع "داعش" خلال السنوات الماضية أن يتواجد ويكون قادرا على الاستهداف في "12 ولاية" ـ كما يحب أن يسميَ مناطق نفوذه ـ هي العراق، سوريا، ليبيا، مصر، اليمن، السعودية، الجزائر، خراسان (منطقة بين أفغانستان وباكستان)، شرق آسيا (الفلبين)، الصومال، وغرب أفريقيا وخاصة نيجيريا.

السؤال الآن، ماذا سيفعل التنظيم بعد مقتل زعيمه؟!

تتهيأ وكالات الاستخبارات للتصدي ومجابهة عمليات ثأرية وانتقامية وحتى دعائية تؤكد صمود التنظيم وبقائه، لكن أغلب الظن أن "داعش" أعاد التأقلم على أنه فكرة عابرة للحدود والجنسيات، وليس دولة، وأكثر ما سيفعله حروب استنزاف صغيرة هنا وهناك، ومعارك كر وفر، ويظل الأخطر هو العمليات الإرهابية المباغتة بعيدا عن ساحات القتال.

لست مهووسا بنظرية المؤامرة، ولا ممن يسلّمون بها، ولست من يسرح بخياله ليرى أن بن لادن ما زال حيا يعيش متنكرا في أميركا بعد أن قدم خدمات جليلة للغرب، ولكنني في الوقت نفسه أتفهم تماما نظرية "توظيف" الخصوم، وآليات زجهم في الخطوط الأمامية بمعارك الوكالة، وأدرك أن أجهزة الاستخبارات تضع الخطط لعشرات السنوات لتعظيم وحماية مصالحها.

واتفق مع مقولة قرأتها للكاتب الإعلامي ياسر زعاترة "التنظيمات الكبيرة ذات الأبعاد الأيدلوجية والامتدادات الاجتماعية لا يمكن صناعتها في أروقة الأجهزة الأمنية أيا كانت قوتها".

أتوقف كثيرا عند الضخ الإعلامي الذي يطرح أسئلة التشكيك في رواية مقتل البغدادي، ومازال البعض يردد سؤال هل يُعقل عجز الأقمار الصناعية الأميركية التي تصور كل شيء عن الوصول إلى البغدادي طوال هذه السنوات، وبعضهم يخلص إلى نتيجة أن مقتله توقيت متفق عليه، ومسرحية انتهت فصولها، وأن الرئيس ترامب أكثر المستفيدين ويستثمر بها في معركته الانتخابية المقبلة.

أكثر سهولة على العالم العربي القابع في اليأس أن يتهم إسرائيل بالمؤامرة، وبالطبع من خلفها أميركا وأحيانا "الغرب الكافر" بصناعة بن لادن، والزرقاوي، والبغدادي وينام مرتاح الضمير، وقرير العين، دون أن يُرهق نفسه، ويتكلف عناء التدقيق في الفكر والبيئات التي أنتجت هذا التطرف الظلامي؟

أكثر يسرا حتى لا نخاصم أرواحنا أن نلقي بالملامة على الآخرين، ونحملهم مسؤولية هذا الذبح والدم المراق من أن نعمل مراجعة فكرية ونجيب بجرأة على السؤال.. لماذا تجتاحنا أكثر من الآخرين الأفكار والممارسات الإرهابية المتطرفة؟

مقتل البغدادي رفع من وتيرة الأصوات التي ترسم سيناريوهات التآمر، والتي ترى في الظواهر العابرة لتاريخنا ليست أكثر من "وليد" استخباري غربي، و"نبتا شيطانيا" لا يمّتُ لفكرنا الطافح بالحروب والمذابح.

استخدم "داعش" كـحصان طروادة لإجهاض وضرب نهوض الشعوب العربية التي طال انتظارها لدروب الحرية والكرامة الإنسانية، ولكن موجات الربيع الصاعدة تُبشر أن "داعش" وأخواتها ظواهر عابرة لا تدوم، وما يبقى في الأرض ويُنبت ثمرا هم المدافعون عن الإنسان وحقوقه، والباحثين عن العدالة والكرامة، وليس المتعطشون لسفك الدماء.

نُشر في شبكة الشرق الأوسط للإرسال

ملخص المقال