التأسيس الديني لوضعية المرأة

للفكر الإسلامي الحديث عن الشريعة الإسلامية كشريعة تقدمية في قضية المرأة باستدعاء النصوص الكلية التي تعبر عن المعنى الأخلاقي المطلق ولكن هذا المعنى مشترك في جميع الديانات ومن ثم سيتعين عليه الدخول في مواجهة شائكة ليس فقط مع الفقه بل أيضًا مع النصوص التشريعية.

 

 بقلم: عبدالجواد يسن  
كانت الهيمنة الذكورية جزءًا من ثقافة البيئات السامية التي شهدت ميلاد الديانات التوحيدية جميعًا. وبقوة الاجتماع اخترقت هذه الثقافة جدار المبادئ الكلية للدين، وعبرت عن نفسها من داخله من خلال التشريع.
عكست التشريعات العبرية منذ البداية الوضعية الدونية للمرأة قياسًا إلى الرجل، عبر المراحل التي استغرقها تكوين النص في مجتمعات سامية متعددة. ومع انتقال المسيحية إلى المحيط الروماني، حملت معها الخطوط العامة للرؤية العبرية التي تربط خضوع المرأة للرجل بالخطيئة الأولى لحواء.
صرح بولس في القرن الأول بأن “على المرأة أن تتلقى التعاليم وهي صامتة بكل خضوع، ولا أجيز للمرأة أن تعلم، ولا أن تتسلط على الرجل، بل تحافظ على السكوت، فإن آدم هو الذي جبل أولًا وبعده حواء، ولم يُغوَ آدم، بل المرأة التي أغويت فوقعت في المعصية”
 رسالة طيموثاوت الأولى
وكتب ترتوليان “بالمشقة تلدين البنين أيتها المرأة، وإلى رجلك ستنقاد أشواقك وهو يسودك. أتجهلين أن حواء هي أنت؟ إن حكم الرب على جنسك ما زال يسري في هذا العالم، فلتعيشي إذن ولا مناص كمتهمة، فأنت باب إبليس، أنت التي فكت أختام الشجرة المحرمة، أنت أول من عصى الأوامر الإلهية. وأنت التي نجحت فيما فشل فيه إبليس عندما ضللت ذلك الذي لم يجرؤ الشيطان على التعرض له، أنت التي قضيت بسهولة على الرجل، صورة الرب، فتلقي الموت جزاء فعلتك يا من كنت السبب في موت ابن الله” (زينة النساء).
في مثل هذه النصوص يبدو التأصيل المسيحي لدونية المرأة لاهوتيًا خالصًا، فهو يستند مباشرة إلى “حكم الرب” على جنس النساء، جزاءً على فعل الخطيئة الأولى لحواء. وهو الفعل الذي أدى بابن الله إلى مقارفة الموت تكفيرًا عن خطيئة البشر، فالسيادة –إذن- للرجل الذي “لم يجرؤ الشيطان على التعرض له” والذي تمثل الرب على صورته (في المسيح الذكر) عندما نزل من السماوات.
إسلاميًا يظل التأصيل اللاهوتي حاضرًا، فدونية المرأة عن الرجل حكم مقرر من الله، لكنه لا يتكئ على فكرة الخطيئة كما في التأسيس المسيحي، بل على فكرة “النقص” الأصلي في طبيعة الخلق، فالأنوثة نقص بحد ذاتها، أي بطبيعة التركيب الجسدي والنفسي الذي خلقه الله. وهذا هو معنى التفضيل المنصوص عليه في الآية (34) من سورة النساء كسبب لقوامة الرجل على المرأة.
وهو معنى شائع في كتب التفسير والفقه على السواء. بحسب ابن كثير “الرجال قوامون على النساء” أي الرجل قيم على المرأة، وهو رئيسها، وكبيرها، والحاكم عليها، ومؤدبها إذا اعوجت. و”بما فضل الله بعضهم على بعض” أي لأن الرجال أفضل من النساء، والرجل خير من المرأة، ولهذا كانت النبوة مختصة بالرجال، وكذلك الملك الأعظم لقوله (ص): “لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة” رواه البخاري. (التفسير).
وعن القرطبي “يقال إن الرجال لهم فضيلة في زيادة العقل والتدبير فجعل لهم حق القيام عليهن لذلك. وقيل للرجال زيادة قوة في النفس والطبع ما ليس للنساء، لأن طبع الرجال غلب عليه الحرارة واليبوسة فيكون فيه قوة وشدة، وطبع النساء غلب عليه الرطوبة والبرودة فيكون فيه معنى اللين والضعف” (الجامع).
وفي الجامع عند ابن العربي قوله تعالى: “بما فضل الله بعضهم على بعض” المعنى: أني جعلت القوامة على المرأة للرجل لتفضيلي له عليها، وذلك لثلاثة أشياء؛ الأول: كمال العقل والتمييز… وهذا الذي بين النبي (ص) في الحديث الصحيح: “ما رأيت من ناقصات عقل ودين أسلب للب الرجل الحازم منكن”.
في كتاب الإشراف على نكت مسائل الخلاف” يعلل ابن علي البغدادي منع المرأة من تزويج نفسها بدون ولي ذكر بقوله: “لأنها ناقصة بالأنوثة كالأمة. ولأن من طباع النساء شهوة النكاح والميل إلى الرجال، والتسرع في ذلك، فلو جعلت العقود إليهن لتسرعن ولم يراعين كفاءة ولا حظًا في عاقبة، وفي ذلك ضرر بهن وبالأولياء فمنعن منه”.
لا يكاد العقل الحداثي يفهم فكرة الربط بين الوضعية الدونية للمرأة وفكرة التكفير عن الخطيئة كما يطرحها التأصيل المسيحي التقليدي، وهو لا يقبل فكرة النقص الطبيعي للمرأة كما يطرحها التأصيل الإسلامي التقليدي.
وأيًا كانت المبررات الأخلاقية، أو العقلية، أو حتى النفعية الاجتماعية التي يطرحها الفكر الحداثي لتصعيد وضعية المرأة، تظل المسألة مسألة ثقافة تعكس مخرجات التطور العام.
واقعيًا، كان التشريع الديني، كأي تشريع، يعكس الثقافة السائدة في لحظته الاجتماعية. وهي الثقافة التي ظلت حاضرة طوال المراحل السابقة على الحداثة. ولذلك لم يواجه الفكر الديني الكتابي مشكل “تبرير نظري” للشريعة بامتداد العصور الوسطى.
بدأ ظهور المشكل في السياق المسيحي الغربي مع تصاعد إيقاع التطور العام (الاقتصادي/ الاجتماعي/ العقلي) بعد القرن السادس عشر وتحوله إلى انقلاب جذري شامل عبر القرون الثلاثة التالية. وظل المشكل قائمًا في هذا السياق الغربي إلى أن تحولت نتائج التطور إلى ثقافة عامة، فرضت على الكنيسة الانسحاب كليًا من المجال العام.
في السياق الإسلامي، أخذ المشكل يفرض نفسه تدريجيًا تحت ضغط الإشعاع الحداثي المتفاقم. إيقاع التطور الاجتماعي البطيء نسبيًا لم يسفر عن ضغوط كافية لإحداث تغيير بنيوي داخل الفكر الإسلامي. الذي لا يزال محكومًا بمكوناته السلفية. لكن الإشعاع الحداثي يظل حاضرًا بالقدر الكافي لإثارة الوعي بالمشكل وتحريك الدوافع لحله بآليات التفكير الديني التقليدية، خصوصًا التأويل.
يُمَكَّن للفكر الإسلامي الحديث عن الشريعة الإسلامية كشريعة تقدمية في قضية المرأة باستدعاء “النصوص الكلية” التي تعبر عن المعنى الأخلاقي المطلق، ولكن هذا المعنى مشترك في جميع الديانات، ومن ثم سيتعين عليه الدخول في مواجهة شائكة ليس فقط مع “الفقه” بل أيضًا مع “النصوص التشريعية” التي كانت تنقل اجتماعًا زمنيًا وإقليميًا بعينه. وبدلًا من ترتيب النتيجة المنطقية لهذه الحقيقة، أي الاعتراف بالنطاق الزمني المحدد للنص “التشريعي”، تعمل آلية التأويل على قهر النصوص كي تتوافق مع ثقافة الاجتماع المعاصر.
عملية التأويل في حد ذاتها تكشف عن غرضها الاجتماعي، من حيث هي تظهر حاجة الاجتماع الجديد لمعانٍ جديدة.
عن مركز المسبار للدراسات والبحوث