التجديد الديني وأزمة الفقه التقليدي

الفقه التقليدي غير قادر على الثبات أمام بضعة تساؤلات عابرة تحفر في أصوله؛ فكيف لو تم إخضاعه لمساءلة نقدية موضوعية شاملة لكل عناصر بنائه، ولكل مراحل تشكله؟!

بقلم: محمد المحمود

يمكن اعتبار المنظومة الفقهية السائدة هي القانون السلوكي الذي يحتكم إليه الأفراد في المجتمعات الإسلامية؛ حتى وإن لم تكن "صِيَغه الوُجُوبية" في المدونة الفقهية ملزمة قانونيا في معظم الأحوال. هي ـ في معظم الأحوال ـ قانون ضمني، له قوة نفاذ؛ تتناسب مع درجة السلطة التي يتمتع بها الفقهاء في مجتمع ما.

والمقصود أن "التنظير الفقهي" قديما وحديثا ليس مسألة فكرية متعالية، ليس تنظيرا في مسائل ميتافيزيقية، وبالتالي ليس مسألة ترفية، بل هو مرتبط أشد ما يكون الارتباط بحياة الأفراد والمجتمعات في العالم الإسلامي، بل وبحياة الأفراد المسلمين في المهجر: خارج نطاق المجتمع الإسلامي.

من هنا تأتي أهمية التجديد الديني الجذري في سياق التحولات المجتمعية الحاسمة، حيث يرتبط الأمر هنا بتغيير منظومة قوانين السلوك العام الذي يحدد مسار عملية التغيير، بل ويحسم نتائجها النهائية في مستوياتها الكمية والنوعية. فلا يمكن في السياق المجتمعي التقليدي الذي تهيمن عليه توجهات فقهية تقليدية/جامدة أن يتشكل مجتمع حيوي جديد، بأنماط سلوكية جديدة، مُتطوّرة نوعيا، وعازمة على القطع من أزمنة عصور التخلف والانحطاط التي لا يزال منطقها الثقافي ـ السلوكي يُشكّل أنماط الوعي السائدة في مجتمعات عالم المسلمين.

لقد نشأ الفقه التقليدي ابن ظروفه تماما، أي أن البيئة التي تشكّل فيها هي التي صنعته، وحددت مساراته، وراكمت قدسيته عبر تاريخ طويل من التكرار والتأكيد؛ عودا وبدءا على الأصول والفروع، تعضيدا وتفسيرا وشرحا وتهميشا؛ حتى أصبحت أصوله/ أصول الفقه (تلك الأصول التي بدأت ظنية وخلافية وجدلية)، قطعية ويقينية، يُحتكم إليها ولا تُحاكم، ويُجدّد على ضوئها ولا يمسها التجديد. وبهذا تحول التجديد الديني في هذا العصر ـ وفرعه: التجديد الفقهي ـ إلى مجرد استعادة بليدة لفتاوى قديمة تمتعت بانفتاح نسبي يقوم على قاعدة التيسير، ورفع الحرج، والأخذ بأصل الإباحة؛ دونما فحص وتفكيك للأصول الحاكمة؛ ودونما حفر في الطبقات الغائرة التي تمتد فيه جذور هذه الأصول.

في المقال السابق أخذنا "الإجماع" عند الفقهاء الأصوليين كنموذج للفوضى التأصيلية التي رافقت تشكّل التراث الفقهي السائد والمهيمن في معظم أقطار العالم الإسلامي. وقد رأينا كيف بدا هذا الأصل/ الإجماع محل خلاف واسع وطويل، بحيث لم يتوفر له الإجماع حتى على أشد مفاصله وضوحا وأهمية. ولا شك أن الاضطراب الفقهي/ الأصولي الشديد المتضمن لكثير من الإشكاليات بدا واضحا من خلال ذلك العرض الموجز الذي اعتمدنا فيه على طرح الأسئلة على مسار الـتأصيل الفقهي لأصل الإجماع.

لم يكن ما عرضناه هو كل ما في هذا الأصل من إشكاليات، إذ ثمة إشكاليات أخرى في المسألة، إشكاليات تتعدى الأسئلة الإشكالية داخل التنظير الأصولي، والتي بدورها ستكشف عن طبيعة الممارسات الفقهية التقليدية التي بقيت إلى اليوم محصّنة ضد النقد والمراجعة الجذرية، وذلك لأسباب تتعلق بتجاذبات إرادة الهيمنة، وتقاطع المصالح بين الفقهاء ومنافسيهم في رموز الهيمنة الاجتماعية، إضافة إلى حالة الانحطاط والتخلف الجمود التي تعيشها الأمة الإسلامية منذ ألف عام؛ ولا تزال.

ليس من قبيل المصادفة المحضة أن يكون "الإمام الشافعي" هو المؤسس الحقيقي لعلم أصول الفقه، ذلك العلم الذي يؤسس لسلطة الفقيه؛ إذ هو/ الشافعي لا يخلو من طموح سياسي مضمر يمليه عليه كونه "هاشميا"، أي من الأصل الذي كان محل النزاع في الشرعية السياسية، فالدولة العباسية التي قامت قبل مولد الشافعي بعقدين تقريبا، كانت تؤسس شرعيتها على القرابة النبوية، وأهم الثورات التي قامت ضدها في هذين العقيدين وما تلاهما كانت ثورات تتوسل بالقرابة لتدعيم شرعيتها، بل إن الشافعي ذاته اعتقل زمن الرشيد بـ"تهمة سياسية" تتعلق بالطموح السلطوي. ولا يهم هنا ثبات التهمة من عدمها؛ بقدر ما يهم ثبات أنه اعتقل بسببها، وأن السلطة آنذاك كانت ترتاب به في هذا السياق السياسي.

وحتى تتضح الصورة أكثر؛ لا بد أن نتساءل: كيف قرر الشافعي "أصل الإجماع" في السياق الفقهي؟ هل النصوص الدينية التأسيسية قادته إلى التأكيد على هذا الأصل كمصدر ثالث للتشريع، أم أنه تصوّره فقهيا (وهو ـ في اللاشعور؛ على الأقل ـ تحدوه إرادة تمكين الفقهاء على حساب الأمراء)، ثم بحث له عن أدلة تمنحه الشرعية للازمة لتثبيته كأصل لا يقبل النزاع؟

يروي الفقهاء الأصوليون عند الحديث عن الإجماع قصة خطيرة وقعت للشافعي، وإن لم يدركوا خطورتها، وهي أن الشافعي جاءه شيخ، فقال له: أسأل؟ قال الشافعي: سل. قال ما الحجة في دين الله؟ فقال الشافعي: كتاب الله. قال: وماذا؟ قال: سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: وماذا؟ قال: اتفاق الأمة. قال: ومن أين قلت اتفاق الأمة من كتاب الله؟ فتدبر الشافعي ساعة. فقال الشيخ أجلتك ثلاثة أيام، فتغير لون الشافعي، ثم إنه ذهب، فلم يخرج أياما. قال: فخرج من البيت في اليوم الثالث، فلم يكن بأسرع أن جاء الشيخ فسلم، فجلس، فقال: حاجتي؟ فقال الشافعي: نعم، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: {ومن يُشاقِقِ الرسولَ مِن بَعد ما تَبَيّنَ له الهُدى ويتّبع غير سبيل المؤمنين نُوَلِّه ما تولّى ونصله جهنم وساءت مصيرا}. ثم قال الشافعي إنه استعرض القرآن من أوله إلى آخره ثلاث مرات؛ ليبحث عن دليل قرآني على حجية "اتفاق الأمة"/ الإجماع الذي ذكره للشيخ كمصدر ثالث للتشريع، حتى وجد هذه الآية التي رآها دليلا.

ليس المهم هنا كون هذه الآية ظنية الدلالة، إذ تدخل الاحتمالات في تأويلها/ تفسيرها (وما دخله الاحتمال بطل به الاستدلال)، وإنما المهم والخطير هو أن الشافعي قرر الحكم قبل معرفة الدليل، ثم بحث للحكم عن دليل. إذن، ليست الأدلة النصوصية هي التي أسست للحكم، بل هو "رأي الشافعي" الذي اعتقده أولا، ثم كان البحث عن أدلة تدعم "وجهة النظر الخاصة"، ولو بالاعتساف.

على هذا المنوال سار ويسير الفقهاء في الأغلبية الساحقة من أحكامهم التي هي نتاج تصوراتهم، تلك التصورات الخاصة والظرفية التي تتشكل بفعل عوامل كثيرة تسبق النص الديني، منها: الوسط الثقافي والاجتماعي، والطبيعة النفسية للفقيه، والمطامع والمطامح الخاصة، وتوجهات القوى الاجتماعية والسياسية النافذة...إلخ، ثم يكون الاحتشاد لدعمها بالأدلة الشرعية والحِجَاج العقلي، وفي حال امتلاكهم شيئا من سلطة مباشرة أو غير مباشرة، فهم لا يتورعون عن إسكات المخالفين لهم في "أحكامهم الاجتهادية"، تلك الأحكام التي يطرحونها وكأنها تمتلك قداسة النص الديني/ الإلهي مطلق الصواب.

إضافة إلى كل هذا، فالإجماع يحمل بمنطقه ـ كما قرره ويقرره الفقهاء ـ مضمونا خطيرا لا يقصدونه، وهو أن الدين ـ من حيث هو دين خالص ـ لم يكتمل بوفاة النبي ـ ص ـ؛ بدليل أن ثمة بشرا يستطيعون إضافة ما ليس منه أصالة إليه، وأن هذه الإضافة تصبح ـ وفق ما يقررونه ـ من أحكام الدين. فالتشريع الديني يستمر بواسطة الإجماع مع أن الزمن المقدس للتشريع قد انتهى.

ومن هنا تصبح إدانة "البدعة" التي يُدينها الفقهاء، وخاصة في المجال الديني الخالص، لا معنى لها حقيقة؛ حتى في المجال الديني الخالص؛ لأن الإجماع يُشرّعها ضرورة؛ ولكن بشرط توافق المجتهدين ـ في عصر ما ـ عليها.

بل وتصبح العصمة لـ"غير النبي"، وهي من أهم ما يُشَنّع به السنة على الشيعة، متحققة للفقهاء السنة المجتهدين بفعل أصل الإجماع. ولا فرق هنا سوى أنها عند الشيعة في مجموعة أفراد معدودين محددين، بينما هي عند السنة في مجموعات أكبر، يجمعها زمان أو مكان؛ حسب خلافهم في تحديد من ينعقد بهم الإجماع.

وإذا كان السنة يستدلون على هذه العصمة بحديث ظني (لا تجتمع أمتي على ضلالة)، فإن الشيعة يستدلون بأحاديث أخرى؛ فضلا عن آيات قرآنية يتأوّلونها. ولا شك أن في كل هذا ما يدل على أن طبيعة التصور عند هؤلاء وهؤلاء واحدة؛ حتى وإن اختلفوا حدّ العداء والاستعداء، فالمسألة تتعلق بتشريع العصمة، ومن ثم بتشريع الإضافة، بصرف النظر عن التدليل والتعليل.

إنهم لا يستدلون على أمر يريدون به تأطير حدود التفكير الديني إلا كان ما يستدلون به محتملا لما يناقض منطقهم، بل وأحيانا يناقض منطقهم بالتأكيد لا بالاحتمال، كما في حديث: "لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين...إلخ"، فهذا الحديث الذي يريدون به تعزيز حجية الإجماع ينطق برفض حجية الإجماع صراحة، إذ الحق ـ وفق هذا الحديث الظني ثبوتا ـ في "طائفة من الأمة"، وليس في عمومها الذي يتحقق به الإجماع، أي أن الحق يكون في مثل هذه الحال ـ مع أقلية من الأمة، بينما عموم الأمة قد وقعت في الضلال!

هكذا يتضح بجلاء أن الفقه التقليدي غير قادر على الثبات أمام بضعة تساؤلات عابرة تحفر في أصوله؛ فكيف لو تم إخضاعه لمساءلة نقدية موضوعية شاملة لكل عناصر بنائه، ولكل مراحل تشكله؟! وإذ يتأكد عجز الفقه التقليدي عن توفير الحد الأدنى من المعقولية لمنطقه الاستدلالي حتى في أصوله؛ فإنه يتأكد بالمقابل ضرورة الاحتشاد لتجديد المنظومات الفقهية السائدة في العالم الإسلامي وفق المقاصد العليا للتشريع، وعلى ضوء مستجدات العصر؛ وإلا فإن المسلمين سيبقون أسارى الرؤى القديمة التي تسببت لهم في كل ما يعانونه الآن من مآسي وتأزمات واختناقات حضارية، لا تزال تبعدهم أكثر فأكثر عن فضاء العصر الحديث.

عن الحرة