التخييل الكاشف في رواية "مدفن الدار"

لم يقتصر دور التخييل في رواية أدهم مسعود القاق على تفعيل تخيل السرد الواقعي وإنما شمل تخيل ما تحدثه وقائع الاستبداد والفساد، وتحول التراتب الاجتماعي.
المتن والمبنى الروائيان متخيلان لينطقا برؤية إليه كاشفة الواقع ومتخذة موقفاً منه
الأسئلة التي يطرحها القارئ تبقى من دون أجوبة في الرواية

نقرأ على غلاف رواية "مدفن الدار تخييل سردي، رواية"، وصيغة تخييل هي تفعيل من تخيل أي: تفعيل التخيّل وجعله فاعلًا، وإن كان مصطلح رواية يعني أن المؤلف الذي يصنف في بابها هو بنية سردية متخيلة، فإن السؤال الذي يطرح هو: ماذا أضاف تعبير "تخييل سردي"؟ 
في الإجابة عن هذا السؤال يبدو لي أن الرواية هي بنية سردية متخيلة تصدر عن مرجع متغاير، وإن أضيف التخيل يكن المرجع، فتمثله متخيلاً أيضاً، وليس النصّ، وقد يكون السبب في النصّ على أنّ هذه الرّواية هي "تخييل سرديّ" يريد القول: إنّها ليست سيرة ذاتية؛ إذ قد يرى فيها بعض من يعرف المؤلف أنّها تروي وقائع من سيرته الذاتية، فهو ينصّ على أنّ هذه الرواية هي تخييل سردي، يريد أن ينفي كونها سيرة ذاتية، ليس في البنية السردية فحسب، وهذا يعني أن المتن والمبنى الروائيين متخيلين - من منظوره إلى العالم - لينطقا برؤية إليه كاشفة الواقع ومتخذة موقفاً منه، ما يمثل دلالة الرواية. 
في محاولة لتبني هذه الدلالة، نتوقف عند العنوان: "مدفن الدار" لهذا المدفن موقع ودور في الرواية، فهو مدفن عدد كبار الأسرة، الأجداد وجد الأسرة وأبوها، الذين دفنوا في الدار، وكان على أبناء الأسرة حراستهم، وإذ يضيق الأبناء، لا سيما الإناث، بالروائح التي كانت تصدر عن المدفن، ويخشون من الجراثيم المنتشرة منه، يقررون نقل الرفات إلى المقبرة، وينفذون عندما أرادوا معرفة مصير ابنهم أحمد، الذي كان معتقلاً في سجون السلطة، وادعت هذه السلطة أنه مات، ودفنته في المقبرة من دون أن تسمح بفتح التابوت ورؤية أسرته له. 
وفي أثناء تنفيذ قرارهم يعرف "الذيب" وهو رجل السلطة المستبد الفاسد والمؤتمن على حماية المدفن، بعدما سلمه الجد "الخنجر المسموم" وطلب منه القيام بالحماية، تحدث معركة في العتمة، وتتأكد الأسرة أن أحمد مازال حياً. 
في الدلالة المباشرة للمدفن وأحداث حراسته ونقله، يتبنّى القارئ كشفاً لبؤس الواقع المتمثّل في التخلّف والفساد والاستبداد... وفيه كشف للدلالة غير المباشرة يمكن القول: إنّ مدفن الدار للكاتب أدهم مسعود القاق فضاء روائي دالّ خلاف للمعنى، يرمز إلى السلطة بمختلف أنواعها فهي القائمة في وسط الدار/ الوطن كالمدفن، وإذ تنقل إلى المقبرة تحدث المعركة التي لم تحسم، نجا الذيب ابن شطمة وقتل إبراهيم أخو أحمد، وعُلم أن أحمد مازال حياً، ما يعني أنه هرب من المعتقل وأن النهاية مفتوحة، أن المعركة ستتجدد ولكن كيف هرب أحمد؟ هل من قوى ساعدته؟ أي قوى فعلت ذلك؟ أين هو؟ ماذا يفعل؟ ماذا ينوي أن يفعل؟ 

على الروائي الذي يختار من منظور، وينشئ بناء؛ مما اختاره من منظوره أيضاً أن يكتب أدباً، وإن كان من خروج على المحظور على أي مستوى، فينبغي أن يوظَّف روائيًا

تبقى هذه الأسئلة التي يطرحها القارئ من دون أجوبة في الرواية، ويترك القارئ أن يجيب عنها؛ وإذ يفعل ذلك يكون مشاركاً في إنتاج الرواية، ومفعلاً تخيله السردي، فتكون هذه الرواية تخييلاً سردياً لمؤلفها، وطبيعي أن تتعدد الإجابات عن الأسئلة بتعدد فضاءات التخيل، وهكذا تترك البنية السردية المتخيلة المتلقي في إنتاجها.
وتلحظ آلية حثّ القارئ على المشاركة في عملية التخيل منذ البدء بقراءة الرواية فقد بدأت الرواية باستهلالين، أولهما يروي وقائع ما حدث في معركة المقبرة، والكشف عن أن أحمد مازال حياً، ما يثير أسئلة منها أي معركة؟ أي مقبرة؟ من الذيب؟ من أحمد؟... الخ.
وهذا الاستهلال مشوّق لمعرفة الإجابات عن هذه الأسئلة، وثانيهما يروي وقائع من المواجهة أو الصراع بين أحمد والذيب ابن شطمة إبان مجيء هذا الأخير للتعزية بفخري والد أحمد وطرد هذا له، لأنه أهان والده، ولعلّ تعبيره بأنه ابن المجنونة، ما يثير أسئلة منها إضافة إلى ما سبق من هي المجنونة؟ لم أهان الذيب والد أحمد؟ لم فعل ذلك؟ ومتى؟ وكيف يستطيع ذلك وفخري بيك؟ وهو ابن مجنونة ربي لقيطاً في قرية محافظةٍ على العادات، ويشوّق هذا الاستهلال أيضاً القارئ لمعرفة الإجابات فتتعزز رغبته في القراءة.
هذان الاستهلالان، يسهمان في تشكيل بنية الرواية، فأولهما: يجعل الرواية تبدأ من النهاية التي تبقى مفتوحة ومتروكة للقارئ، كي يهملها، وثانيهما: يجعل الرواية تبدأ من الأزمة/ الصراع بين شخصيتين أساسيتين من شخصيات الرواية، فإن يكن الاستهلال الأول يروي وقائع من أحداث المعركة المركزية في الرواية، فإن الاستهلال الثاني يروي وقائع من أحداث الشجار الذي سبق تلك المعركة بين الشخصيتين نفسهما: الذيب وأحمد، وأولهما: يمثل السلطة وثانيهما يمثل الناس العاديين المقاومين له ولها، ولكن كما يبدو واضحاً للقارئ، فإن شخصية أحمد لم نمتلك في حيزها/ فضائها المقاوم الفاعلية التي امتلكتها شخصية "الذيب" في حيّزه / فضائه، والقارئ إذ يتابع وقائع اعتقال أحمد وتعذيبه وإعلان موته يشعر بأنه كان على الراوي أن يجعل ذلك متنوعاً ومقنعاً.
تبدو شخصية أحمد واقعيّة متحوّلة، فأحمد لم يبدأ حياته مقاومًا للفساد، وإنما منقادًا بالغريزة، فهو يترك عزاء والده ليلتقي ثريّا، ويمارس وإياها لقاء جسديًّا، ثمّ وصفه بالتفصيل، وقد يشعر القارئ بالتقزّز، وإذ تحمل ثريا، ويجعلها تسقط الجنين ثمّ ينمو وعيه من إحساس بالظلم والسعي إلى مقاومته نحو وعي بجعله ينتمي إلى الفصيل الثوري إلى جانب ثريّا، لكنّ الراوي لا يقدّم معرفة بهذا الفصيل ولا بنشاطه، فيمرّ ذكره عّدة مرات مرورًا مرجعيًّا، أي يُذكر بالاسم فحسب، ثمّ وإذ يخرج إلى لبنان، يتواصل نمو وعيه، ويعود إلى سوريا، ويفكّر في أن تسقط زوجته ميسون جنينها، لكنّه وبفعل عامل من خارج العلاقات الروائية: رؤيا طيف يعدل عن قراره، ويريد أن يُعنى بابنه القادم ويربيه، لكنّ السلطة تعتقله لمدة طويلة، من دون أن يقدّم الرّاوي ما يسوّغ ذلك، وإذ يسمّى الابن بـ: يحيى، ويبقى هو حيًّا، وندرك أنّ النّهاية مفتوحة، وأن مسار الصراع مستمرّ.
ولعل هذا يعود إلى كثرة الوقائع والاضطرار إلى استخدام تقنية التلخيص في سياق خيطيّ – في الغالب - لتقديمها وهذا أكثر ما يتضح في الوقائع التي حدثت في لبنان إبان الحرب اللبنانية والاجتياج والاحتلال الإسرائيليين، فهذه الوقائع حدثت في مرحلة تاريخية مفصلية طويلة، لم يقتصر الفاعلون فيها على اللبنانيين بمختلف طوائفهم وأحزابهم، وإنما نشط فيها فاعلون إقليميون ودوليون، وتداخلت عوامل كثيرة ومتنوعة في تشكيل مسار الأحداث. ولا بدّ لمن يكتب عنها من أن يدرك هذا كله، وتتبع التفاصيل والتحولات، فعلى سبيل المثال فإن وليد جنبلاط الذي اتهم المخابرات السورية بقتل والده لجأ إلى سوريا، لتقدّم له من المساعدة ما جعله يهزم سمير جعجع المدعوم من إسرائيل في حرب الجبل، ثم بقي متعاوناً مع السوريين طوال بقائهم في لبنان، ولما تفكّك الاتفاق الأميركي السعودي السوري وصدر القرار 1559 انقلب وصار ألدّ أعداء سوريا، مثله مثل الكثيرين من أمراء الفساد والانقياد للسوريين، الذين صاروا دعاة السيادة والحرية والنزاهة، وهم الذين تطالب الانتفاضة الشعبية اليوم بمحاسبتهم واسترداد الأموال المنهوبة منهم. 

Literary criticism
سوف تخاض معارك كثيرة ليتم نقل المدفن إلى المقبرة

كتب الكثير عن هذه المرحلة: بحوث وقصص وروايات وتحقيقات من منظورات عديدة، تصل إلى حد التناقض، فشخصية واحدة عند فئة تعد من الأبطال وعند فئة أخرى من العملاء.
لم يقتصر دور التخييل على تفعيل تخيل السرد الواقعي وإنما شمل – أيضاً - تخيل ما تحدثه وقائع الاستبداد والفساد، وتحول التراتب الاجتماعي كما لدى شخصية الذيب ابن شطمة في حالات ما كان ممكناً تمثيلها سردياً؛ إلا باستخدام تقنيات سردية هي من الغرائبية والحلم ورؤيا الطيف، فالغرائبية التي نلحظها في هذه الرواية منشأها فظاعة الواقع التي لا تحتمل، والتي تجعل من يعيش هذه الحالات، يرى.. كأن من يرتكب هذه الفظاعات كائنا فظيعا غريبا تخرج من أنفه الديدان، وهذا تمثيل لواقع نفسيّ تحياه الشخصية المعنية، فتأتي هذه الغرائبية؛ لتؤدي وظيفة الكشف عن الفظاعة ومعاناتها والرؤية إليها وإلى مرتكبيها. إنها ليست "فانتازيا" وإنما هي غرائبية مأساوية وليدة لمأساوية التجربة المعيشة. 
هنا تُثار إشكالية الرواية / التاريخ، فحينما يؤدّي الراوي وقائع تاريخية حدثت فعلًا، وقامت بها شخصيات واقعية سياسية معروفة يخشى أن يتحول السرد إلى سرد تاريخيّ، يقدّم ما حدث في مسار تاريخيّ معروف في لبنان أو في سوريا، ما يجعل هذا السرد التاريخي عنصرًا من عناصر البنية الروائية المتخيّلة هو توظيفه في تشكيل هذه البنية، وعدّوه مكونًا من مكوناتها، ويبدو أن الراوي سعى إلى أن يفعل ذلك، ويلاحظ أنّ هذه الوقائع تّتابع في سياق تاريخي معروف، وتؤدّي من منظور الراوي، لتسهم في تشكيل النّص الروائي الناطق برؤيته إلى العالم، وخصوصًا ذلك التاريخ الذي قدّمت وقائع منه.     
ويلاحظ القارئ - في لغة هذه الرواية - وخصوصاً لغة الحوار استخدام الكاتب ألفاظ عاميّة وألفاظ شتائم، كما يلاحظ وجود مشاهد جنسية والتعبير عنها بألفاظ تصف العلاقة الجنسية وصفاً وقائعياً، وتثير هذه الملاحظات إشكاليتين أولاهما: تتمثل في استخدام ألفاظ عامّية محلية، وهذا يحول دون فهم جميع القراء العرب لهذه الألفاظ، وهذه المشكلة يمكن أن تحل بشرح معنى هذه الألفاظ في الهامش، إن كان من ضرورة فنية لاستخدامها وإن لم يكن ذلك، فيمكن استخدام ألفاظ مفهومة في جميع الأقطار العربية، وثانيهما يتمثّل في السؤال الآتي: هل ينقل الروائي الواقع كما هو، بما في ذلك خطا الشخصيات أو يعدل فيه كي لا يكون خروج على المحظورات؟ 
ليس من اتفاق على الإجابة عن هذا السؤال، فبعضهم يرى أنه ينبغي نقل الواقع وخطابه كما هما، وهذا يوهم بواقعية الرواية وصدقيتها، ويسهم في رسم الشخصية وكشف خصائصها، وخصوصاً في الحوار الذي تعد هذه الوظيفة أهم وظائفه. 
وبعض آخر يرى أن الأدب لا ينقل المرجع كما هو، وإن كان يصدر عنه وهو يصدر عنه ويغايره ويرى إليه، ولهذا فعلى الروائي الذي يختار من منظور، وينشئ بناء؛ مما اختاره من منظوره أيضاً أن يكتب أدباً، وإن كان من خروج على المحظور على أي مستوى، فينبغي أن يوظَّف روائيًا،ً أي أن يسهم في تشكيل فاعلية النص الروائي الجمالية الدلالية، ويبدو لي أن هذا هو الرأي السليم؛ فالتوظيف الجمالي الدلالي لأي عنصر من عناصر النص الروائي، هو المعيار في فنية هذا العنصر سواء أكان هذا العنصر جميلاً أو قبيحاً في حد ذاته، فالأدب عندما يجيد توظيف القبيح، ينتج ما يمكن تسميته بجمالية القبح.
وفي الختام يمكن القول: إنّ رواية "مدفن الدار" لأدهم مسعود القاق رواية كاشفة لأي مدفن معوق للتنمية والنهضة في الوطن العربي، وسوف تخاض معارك كثيرة ليتم نقل المدفن إلى المقبرة.
أستاذ النقد الحديث في الجامعة اللبنانية – بيروت