التراسل المحمّدي ثراء تاريخي وحراك ثقافي وتلوّن ديني

مراسلات رسول الله صلى الله عليه وسلم وُجّهت إلى مستويات مختلفة من البشر، عرب وغير عرب من ملوك وأمراء وحكّام وأتباع أديان ورؤساء قبائل.
الترسّل ممارسة ذهنية وحضارية، يُحيل على التعريف بجانب مهمّ يتمثّل في المرسل والدور الذي يضطلع به في النشاط العلائقي والعمل التراسلي
الباحث التونسي يقرأ الوثائق التراسّلية قراءة علمية باعتبارها مجموعة من الدوال التي تُحيل على نوعية التفكير وطرائقه، وهُوية منجزها وطبيعة المجتمع الذي أفرزها

وُجّهت مراسلات رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مستويات مختلفة من البشر، عرب وغير عرب من ملوك وأمراء وحكّام وأتباع أديان ورؤساء قبائل. لقد كتب صلى الله عليه وسلم رسائل إلى جلّ الكيانات السياسية والدينية في جزيرة العرب وخارجها في مصر والحبشة وبلاد الروم وفارس. وقد قام الباحث التونسي المتخصص في الدراسات المقارنة د. الساسي بن محمد الضيفاوي بدراسة هذه الوثائق النبوية في بعدها التاريخي والحضاري، انطلاقا من أن فهم الحالة السياسية والدينية والاقتصادية والاجتماعية والحضارية في عصر من العصور لا يكون إلّا بمراجعة الوثائق التي تتعلّق بذلك العصر، والإلمام بالسياق الحضاري ووقع اللحظة التاريخية التي ظهرت فيها تلك الأحداث.
قرأ الساسي في كتابه "التراسل بين النبي محمّد ومعاصريه" الصادر عن مؤسسة مؤمنون بلا حدود هذه الوثائق التراسّلية قراءة علمية باعتبارها مجموعة من الدوال التي تُحيل على نوعية التفكير وطرائقه، وهُوية منجزها وطبيعة المجتمع الذي أفرزها، ناشدا معرفة هذه الرسائل وربطها بالواقع السياسي والاجتماعي والديني والاقتصادي والحضاري، وإدراك مضامينها ونقدها والتعليق عليها، وذلك بتحديدها ووصفها وضبط أسبابها ونتائجها، ثمّ نظر في وضع الكتّاب والمرسل إليهم، وإنزالهم في سياقهم التاريخي والسياسي والديني والنفسي، فقد كان لهؤلاء دور في إغناء هذه الوثائق، وقد حاول التعريف بذلك الدور وفق سياق المبحث الذي تتبع فيه منهج التوصيف والتحليل والمقارنة والنقد.
وأوضح أنّ الترسّل ممارسة ذهنية وحضارية، يُحيل على التعريف بجانب مهمّ يتمثّل في المرسل والدور الذي يضطلع به في النشاط العلائقي والعمل التراسلي، والخطاب المنجز شفوياً أو كتابياً وما يحمله من مضامين تشي بالعديد من الخلفيات والرسائل الظاهرة والضامرة، والمتقبّل وما يصاحبه من ردود أفعال وسياقات نفسية واجتماعية وفكرية، هذا كلّه قد يشكّل جزءاً مهمّاً من مخيال الشعوب وحضارتها المختلفة، بصرف النظر عن دينها واعتقادها وطقوسها وعاداتها وتقاليدها، لذلك يبقى الترسّل مفصلياً في التراث الثقافي والفكري.
وأكد الساسي أنّ التراسل المحمّدي ذو قيمة مركزية لأنّه يُحيل على ثراء تاريخي وحراك ثقافي وتلوّن ديني، فهو يصوّر متغيّرات الزمان والمكان ومشاغل الإنسان، وتراكم الأحداث وتواترها وتباينها، مثلما يُمثّل سجلاً لغوياً وأسلوبياً بما يحمله من معجم في الأخلاق والأوامر والنواهي. وبناء على ذلك فإنّ هذه المراسلات هي مصدر ثقافي يعكس العديد من الأبعاد الحضارية، والحفاظ على هذه القيم يعني الحفاظ على الحضارة التي تنتمي إليها هذه المراسلات المحمّدية التي تعدّ سنداً للتوثيق، وأصلاً من أصول الحفاظ على الثقافة العربية والإسلامية، 
ونستطيع أن نقول: إنّ هذه المراسلات هي سجلّ حافل لا بالمعين العربي والإسلامي فحسب، بل هي تُحيل على التاريخ البشري قبل الإسلام وبُعيده بما تتضمنه من محمولات يهودية ونصرانية وغيرهما.
ورأى أن هذه المراسلات تعدّ بُعداً استراتيجياً مهمّاً باعتبارها موصولة بالتراث الثقافي، وفقدان هذا التراث يعني فقدان الذاكرة، ومن لا ذاكرة له يعيش أعرج غير قادر على أن يأخذ أيّ قرار في أيّ شأن، لذلك نعتقد أنّ الدور منوط بعهدة الباحثين والمفكّرين المختصين بُغية الحفاظ على هذه المرجعية التراثية التراسلية التي تُعدّ شاهداً من الشواهد الحضارية للشعوب والإنسانية، بصرف النظر عن مدى موثوقيتها.
وقال الساسي إنّ قراءته لهذه الرسائل المحمّدية هي عبارة عن محاورة لها، وفهم للخطاب والسياقات التي وردت فيها دون الوقوع في أسرها، وهي محاولة لمعرفة ماذا حدث زمن محمّد وقبله وبُعيده؟ وكيف يمكن أن نتعامل مع أخبار الأمم القديمة وخاصة اليهودية والنصرانية وأساطير الفرس وخطبهم وأخبارهم التي تُعدّ من الأصول في الترسّل المحمّدي؟ وإلى أيّ حدّ استفاد محمّد من الموضوعات الموصولة بأنساب العشائر وأخبار القبائل في الجزيرة العربية والتوّتر والمشاحنات التي عمّت العرب وغيرهم من الأجناس الأخرى قبل الإسلام؟ وإلى أيّ مدى أثرت هذه المقولات والأخبار والطبائع والسلوكات والذهنيات في شخصية محمّد ونفسيته ومساره الترسّلي؟ 
وأشار الساسي إلى أنّ محمّداً تحدّث عن قضايا دينية واقتصادية وسياسية، تعود مصادرها إلى حضارات أخرى وثقافات مغايرة وأمم مختلفة ومتباينة سبقته، فوقفنا على قيمة الوافد الدّيني في تشكيل التراسل المحمّدي، ويبدو أنّ هذا الاتجاه في الترسّل العربي تأتى من التقاليد التاريخية، فدعوة محمّد إلى هذا الدّين لم تكن جديدة باعتبار أنّ جذورها التوحيدية ضاربة بجذورها في القدم منذ إبراهيم الذي كسّر الأصنام خفية عن النّاس وفي غيبة أبيه، إلى محمّد الذي حطّمها يوم فتح مكّة أمام الملأ علناً، أو ما يمكن أن نخلص إليه من فكرة الجنّة والخلود التي وردت في أساطير العراق وفي الآثار الفرعونية، ولعلّ الأمر ذاته نقف عليه في بقيّة الشعائر والطقوس على غرار الصلاة والحجّ ونحوهما، التي كانت رائجة عند العرب قبل محمّد.
هذا من جهة الوافد الدّيني، ومن ناحية ثانية أضاف أنه "يمكن أن نفهم أنّ هذه المراسلات لم تخل من مصدر ثان يتمثّل في الوافد الاقتصادي، الذي توسّل به محمّد وفق ما صاغه من مفردات الحياة اليومية الريفية والصحراوية، وبعض الكلمات الموصولة بالأعراف التجارية المكّية التي عبّرت عن التجارة طوال قرون من الزمان، ولعلّ هذا انعكس على المضامين السياسية والدّينية والاجتماعية، ومن ذلك على سير الترسّل المحمّدي وتشكّل بنيته، مثلما وظّف محمّد بعض الكلمات الموصولة بالبيئة المحيطة به سواء من الجانب التاريخي أو الجغرافي أو الاقتصادي أو الدّيني، خاصة ما كان متداولاً في مكّة ويثرب وما بينهما من قبائل وبطون، وما كان سائداً قبل محمّد، كلّها عبارة عن إرهاصات وحوافز مكّنته أن يتبوّأ تلك المرتبة الدّينية والاجتماعية التي تجعله في منزلة الإنسان الأعلى أو الأرقى.

مراسلات محمّد تبقى نصّاً مفتوحاً قابلاً للعديد من المحمولات الرمزية، المتخيل منها والمقدّس، والقراءات المتباينة التي تتراوح بين الصرامة العلمية والجدّية المنهجية، والمنافحة الإيمانية والقراءة التمجيدية

ورأى الساسي أنه يمكن أن نفهم أنّ الكثير من المقاربات المالية التي يتوسّل بها محمّد طيّ مراسلاته على غرار الخَراج والجزية والخمس ونحو ذلك تعدّ قديمة شاعت بين الفرس والبيزنطيين والمصريين والرومان، وكانت نقوداً تُفرض بدل الخدمة العسكرية، وفي عهد محمّد فُرضت على غير المسلمين من أهل الذمّة وغيرهم من الرجال القادرين على حمل السلاح حصراً، والذي نتبيّنه أنّ تاريخية الضرائب تعود إلى تاريخ قدماء المصريين، فالخَراج مثلاً ليس من الضرائب التي استحدثها محمّد، فالمصريون كانوا يخرجون ضريبة على الأرض باعتبار أنّها ملك للملك أو للسلطان أو للإقطاعي.
أما البعد السياسي، باعتباره مفصلياً في تشكيل الترسّل، فقال عنه الساسي "نعتقد أنّ محمّداً استفاد من السياقات التاريخية والسياسية التي واكبها على الأقلّ، ومثال ذلك ما عرفته المنطقة العربية في بعض التجارب السياسية التي قد يكون اقتبس منها محمّد، على نحو ما كان في جنوب شبه الجزيرة العربية، إذ عرفت دولة سبأ نظاماً ملكياً، وفي الشام تعاقبت النظم الحُكمية مثل الأنباط ثمّ تدمر ثمّ الغساسنة، وكان ذلك هو شأن الأطراف التي يسكنها اللخميون على الحدود العراقية بين العرب والفرس. وفي مكّة قبل المرحلة المحمّدية، كان أثرياء قريش وأصحاب النفوذ الحربي والتجاري والدّيني فيها هم الذين يحكمون الرعية ويسوسونها، وهو مدّ نفوذي سلطوي يمثّل البطون القرشيّة، أمّا يثرب وأحوازها فقد خضعت للسيطرة العبرانية نظراً إلى زحف الرومان على اليهود، فاستعمروا تيماء وخيبر وفدك ويثرب.
وخلص الساسي أنّ هذه المضامين الموصولة بالترسّل المحمّدي إمّا أن تكون تمجيدية ماضوية، وإمّا أن تغيّب وقائع تاريخية لعدّة أسباب ذاتية أو دينية أو إيديولوجية، أو تطمس بعض الحقائق وتعدّها من المسكوت عنه، وقد يكون ذلك المسكوت عنه هو التاريخ الحقّ، وأنّ الذي كُتب ما هو إلّا دوران حول الحقائق أو على هامشها هذا من جهة، ومن ناحية ثانية يمكن أن نفهم أنّ هذه المضامين تقوم على عاطفة دينية لا تريد الإفهام أو الإخبار، وإنّما تصبو إلى أن تدفع المتلقّي إلى العمل بما فيها من مواعظ.
وقال "إنّ الترسّل المحمّدي لا يمكن أن يُنسب إلى جهة واحدة أو إلى مُبدع واحد ولا حتى إلى آخر من نقله إلينا، أي المؤلف الذي جمعه ودوّنه. وأوقفتنا دراستنا على أنّ الممارسة الإسلامية التراثية والتاريخية كانت تبدو كأنّها منسجمة للتدليل على أنّ هذه النصوص المحمّدية دُوّنت في حياة محمّد، وأنّ هذا الكمّ الهائل من الرسائل المختلف في عدده من مصدر إلى آخر لا يحيل على ظاهرة الانتحال والشكّ في صحّته. وما لفت انتباهنا في عملنا أنّه لم يكن للعرب الأوائل من مادّة الترسّل إلّا النزر القليل، وكلّ ما توارثوه كان بالرواية، ولم يدوّن في تاريخ الترسّل شيء إلّا في مرحلة متأخرة، مما يحيل على غلبة المشافهة وشحّ الكتابة في هذا المجال.
وانتهى الساسي إلى أنّ أغلب هذه المراسلات لا يمكن أن تُعزا إلى محمّد، وهي أقرب إلى الوضع والمنافحة الإيمانية، بناء على تتبّعنا لسؤال الأسانيد والمتون والأغراض وأطراف الترسّل، ومساءلة بعض المصادر التي أغفلت هذا الجنس الكتابي على غرار القرآن الذي لم ينصّ على هذه المراسلات، خاصة أنّ الوحي تحدّث عن الكثير من مواقف محمّد وسيرته وحواراته مع اليهود والنصارى وغيرهما. وكشفت لنا دراستنا في حدود ما اطلعنا عليه على الأقلّ، أنّ مراسلات محمّد تبقى نصّاً مفتوحاً قابلاً للعديد من المحمولات الرمزية، المتخيل منها والمقدّس، والقراءات المتباينة التي تتراوح بين الصرامة العلمية والجدّية المنهجية، والمنافحة الإيمانية والقراءة التمجيدية.