التشكيل بين الأعمال المنجزة والمحلوم بها

في تجربة الفنان التشكيلي نجيب بوقشة: اللون ممحاة لدرء النسيان والقول بالقيمة كجوهر وحقيقة.
اشتغال الفنان التونسي على مشاكل الهوية التي تضيع من الكائن ببساطة ليغدو معها رقما وحالة من الضياع
لعبة البحث عن اللمعان والتوهج بعيدا عن الإلغاء

اللون ممحاة لدرء النسيان والقول بالقيمة كجوهر وحقيقة. ما الذي يحدث حولنا وبيننا وبنا في هذا البرد الكوني وحيث  العولمة الموحشة تطبع الأجسام لتتركها شبيهة لا خصائص ولا ترجمان ولا ذكرى.
من هنا يقف الفنان يفعل بتعبيراته في سباق مع آلة السقوط والهدم والنسيان. يقف بوجه الخراب ينثر الأفكار لتصير ورودا. يقطف معاني الحلم النبيل ولا يلوي على غير القيمة والكيان في جهد تحديدي وتأصيلي. يمنح الكائن والمكان المكانة. يلقي بالحصى في النهر. يسخر من الآخر. هذا الآخر القاتل للمهجة والذات ومشتقات حسن الإقامة على هذه الأرض.
ماذا يقول الكائن أمام ظلاله المنثورة والمنذورة للنسيان. هي رحلته بعد غربة المرايا. ثمة إذن ما يفي بالنظر وبالمتعة. اليومي، القلق، الوجوه، المجموعة ببردها كما بحرارتها. الفرد بحرقته الوجد والكينونة، وغيرها. أسئلة مشروعة وصعبة وعناوين لأحلام عالية. غامضة في وضوحها وبسيطة في تعقيداتها. ولكن هل يكفي الكلام لشرح الحالات والأحوال.
والفن هنا هو عنوان وترجمان وحمال. عنوان إبداع وترجمان حضور قوي وحمال أفكار حتى لا تعم الفوضى والخديعة وتتخلص الذات من أدران الزمن وما علق بها من فجيعة وسقوط. وأيضا ما كساها من صديد.

فسحة من أعمال نجيب بوقشة وشيء من البوح، هو البوح بالفجيعة والصراخ انحيازا للحالة على حساب الآلة، والرحلة بالنهاية هي إقامة قلقة بين الوردة والسكين

إنها لعبة البحث عن اللمعان والتوهج بعيدا عن الإلغاء والتغييب فلكل العناصر وز التفاصيل والأشياء، أمكنتها لدى الكائن الذي لا يمكنه أن يذهب مع الأصوات التي لا تفعل غير اللهو بالقتل والتغييب والإلغاء.
أنت .. أيتها الذاهبة إلى النسيان
العائدة من النسيان
مزقني الخجل والحب
وصرت كشهقة اللون في سراب اللغات
حسنا ....
ولكنني
دافئ كليالي الشتاء ...
سوف أراوح بين المعنى والمعنى
حتى إذا قالت الفصول أشياءها...
كنت.. أنت القصيد..
الآن ألج عوالم الفنان، الذي التقيته من سنوات بعد إطلالة ساحلية على الوطن الجميل. كان طفلا مسكونا بالمعاني المذكورة. كان طفلا كبيرا لم تفعل فيه سنوات الغربة شيئا غير أن تمنحه القدرات العميقة على فهم الحالة الإنسانية السوسيولوجية والثقافية التونسية بحميمية الفن ونار السؤال وجحيم المغامرة. هو يتهجى الينابيع بحثا عن المفردة التشكيلية الملائمة.
لقد كان اشتغال نجيب ومنذ سنوات على مشاكل الهوية التي تضيع من الكائن ببساطة ليغدو معها رقما وحالة من الضياع وذلك في شتى الأحوال والتمظهرات الفردية والجماعية. هو انسجم مع جدية المسألة ولم يعد يعنيه سوى العنوان الخطير للاندثار والتشييء، لذلك كانت لوحاته مجالا للإمساك بالجوهر الغريب في الحكاية. وبالتالي جاءت شخوصه التشكيلية مبتورة ومتوترة وغائبة الملامح وطغت فقط ملامحها التجريدية في ضرب مما ينطبع على قماشة النفس، نفس الفنان من ألم تجاه هذه الأكوان التي تمضي بالإنسان من الحالة إلى الآلة وتلقي به في النهاية في متحف مهجور كرقم ضمن بقية الأرقام. 

fine arts
سوف أراوح بين المعنى والمعنى

نجيب بوقشة يتعاطى جماليا مع عمله ضمن هذه التجربة بتلك الفسحة من التعبيرية والانطباعية ضمن وعي تجريدي باذخ تبرز معه، ووفق تقنيته التشكيلية الكائنات والشخوص التي يتقصدها ويستهدفها إبداعيا بما يشير إليها من أشكال تامة بنقصانها حيث يترك للمتلقي إتمام وتخيل بقية عناصرها وجزئيات الفضاء وهي متممات لا تعني نجيب الفنان بل هو يقحم القارئ للوحات في جوهر اللعبة المدهشة  التي تدور حول السؤال؛ سؤال القلق والشقاء والتعب. شخصيات لوحاته (بما في اللوحة من حكايات) قلقة ومحبطة وهي أشبه "بالأطلال البشرية" وهنا يحملها بالمعالجة الفنية والجمالية إلى عوالمها النورانية من حيث نبلها وأحلامها وحتى خساراتها الجميلة التي هي عوالم الاعتبار، المواطنة بعبارة أخرى بعيدا عن أختام العولمة "الماتريكيل" أو الرقم الآلي.
هي الصرخة العارمة التي يطلقها نجيب، هي بمثابة الصدمة المدوية والقاتلة ولكن الخلاقة أيضا حيث يعود الفنان إلى دفء ألوانه ومفرداته التشكيلية بوعي مغامر.
حالة ثقافية بارزة تكشف شيئا من ألقها المعرفي والحضاري والوجداني وبالتالي الإبداعي تجاه التشيؤ لأجل استعادة الإنسان لجواهر فكره ووجوده ودوره بعيدا عن التنميط والتحنيط وهنا نلمس تلك الشحنة من الحيوية والحركة في اللوحات، وأعني الحرية بالنهاية كقيمة تمتد بين الحياة والقماشة، أي في الزمان والمكان وفي الحيز الجمالي والمساحة التشكيلية. هنا تحرك نجيب وعلى عبارة نيتشة هكذا تحدث بوقشة.
أعمال أخرى بالأكواريل تكشف عن طاقة تعبيرية جميلة ومحببة في تجربة نجيب بوقشة فيها إعادة كتابة المكان لونيا حيث المتعة في تخير المشهدية والضوء وفي مراوحة بين الأعمال المنجزة والمحلوم بها يبتكر الفنان بوقشة حيزا من عالمه المسكون بالإنسان، ولكن بكثير من الكد الجمالي بعيدا أيضا عن الكثير من الأعمال الملتزمة ولكنها خالية من القيمة الفنية والتشكيلية.
إنها رحلة الفن العميقة والفنان يترجمها بعد الاكتواء بتفاصيلها إلى جمال نوعي.
في هذه الفسحة من أعمال نجيب شيء من البوح، هو البوح بالفجيعة والصراخ انحيازا للحالة على حساب الآلة، والرحلة بالنهاية هي إقامة قلقة بين الوردة والسكين.