التصوف في إيران .. إيمان دون قبول بنظام الملالي

صحيح أنَّ المساجد في كلِّ مكان فارغة من المصلين إلى حدِّ ما لكن التقوى القوية للغاية لدى الكثيرين من الإيرانيين تتَّخذ مساراتها الخاصة بها كما أنَّ الصوفية تتيح للناس وسيلة ليعيشوا تقواهم ذات الطابع الإسلامي من دون قبولهم النظام الحاكم.

بقلم: إليزابيت كيدرلين

كتبت لي صديقةٌ من إيران: "من دون الصوفيين لن أتمكَّن من تحمُّل كلِّ ما يحدث هنا". أعصاب الناس متوتِّرة منذ أشهر إلى حدّ الانهيار: مقاطعة النفط الإيراني، وفصل إيران من النظام المالي العالمي والتبادل التجاري الدولي، بالإضافة إلى الفيضانات الكبرى التي غمرت ثلث إيران في شهر آذار/مارس (2019)، والتخفيض السريع من قيمة العملة الإيرانية، ووصول آلة الحرب الأمريكية إلى "الخليج الفارسي"، وتزايد خطر الحرب، والآن الهجمات الإلكترونية الأمريكية على أهداف داخل البلاد - كلّ هذا يزيد من معاناة المدنيين في إيران.

"إنَّها رائحة الحرب"، مثلما كتبت صديقتي نرجس: "يمكنني بفضل الصوفيين -على الأقل- نسيان خوفي لبعض الوقت والتفكير في شيء مهم ومريح حقًا، وليس التركيز فقط على معدَّل التضخُّم المالي والتحديق في الأخبار. ومع ذلك لم أعد أملك المال حتى لشراء البوظة لأطفالي".

يحظى الصوفيون بشعبية كبيرة في إيران. الجواب على السؤال: "ما هو التصوُّف؟"، الذي قدَّمه في الماضي الشاعرُ الكبير والصوفي جلال الدين الرومي (1207-1273)، يتم أخذه بشوق وحماس كنصيحة حتى في يومنا هذا وزمننا المعاصر. فقد قال الرومي: "عندما أكون قلقًا أكون في غاية السرور، وعندما أكون في غمٍّ شديد أكون في قمة السعادة". وقد أرسلت لي نرجس بعض الأبيات من قصيدة جلال الدين الرومي الأكثر شهرة كتعويذة ضدَّ الخطر المتزايد:

"مُتُّ من جماد وأصبحتُ نباتًا،

ومن حالة نبات، مُتُّ وأصبحتُ حيوانًا،

مُتُّ من حالة حيوان وأصبحتُ إنسانًا،

إذًا لِمَ الخوف من الزوال عبر الموت؟".

 

بحث المتصوِّفيين عن الطريق المباشر إلى الله

يرتبط التصوُّف والشعر ببعضهما ارتباطًا وثيقًا منذ قرون. لقد كانت اللغة الفارسية في عصور ما قبل الإسلام ولعدة قرون من الزمن لغة الأدب، بيد أنَّها خفتت بعدما غزا العرب بلاد فارس في القرن السابع الميلادي. وكان الشعر هو أوَّل صوت أدبي، نهض مرة أخرى بعد قرنين من الزمن، وقد ظلَّ الشعر حتى يومنا هذا هو "الصوت الأدبي الأكثر أهمية"، بحسب أستاذ التاريخ والمستشرق روي متحدة.

ما يزال الناس من جميع الطبقات والدوائر الاجتماعية يقرؤون حتى يومنا هذا في كلِّ فرصة مواتية وبكلِّ بهجة وسرور أبيات شعر من جلال الدين الرومي وعمر الخيام وحافظ والسعدي (جميعهم صوفيون)، ويرجعون في المسائل المهمة إلى نبوءة (الشاعر الصوفي) حافظ الشيرازي: يفتحون ديوان حافظ وأعينهم مغلقة ليختاروا بشكل عشوائي موضِعًا ما ويبحثون عن إجابات في القصيدة التي يعثورون عليها بالصدفة.

 لقد تطوَّر التصوُّف الإسلامي في فترة مبكِّرة، وتقريبًا بالتزامن مع تقنين الدين وصياغة القواعد والقوانين من قبل الفقهاء. وكان الصوفيون المسلمون يبحثون -مثل جميع الصوفيين، سواء المسيحيون أو اليهود- عن الطريق المباشر إلى الله، ويتوقون إلى التطلع إليه والتوحُّد معه حتى في هذه الحياة. وخير دليل على هذا التوق والحنين قصيدةٌ للشاعر الزاهد السهروردي حول النَّفْس كحمامة، يعود تاريخها إلى القرن الثاني عشر الميلادي:

"خَلَعَتْ هياكلها بجرعاء الحمى / وصبت لمغناها القديم تشوقا

وتلفَّتت نحو الديار فشاقها / ربع عفت إطلاله فتمزقا

وقفت تسائله فرد جوابها / رجع الصدى أن لا سبيل إلى اللقا

فكأنَّما برق تألق بالحمى / ثم انطوى كأنَّه ما أبرقا".

 تصف المسشرقة الألمانية والباحثة المختصة في العلوم الإسلامية آنه ماري شيمل على نحو جميل في كتابها "الأبعاد الصوفية في الإسلام" كيف وضعت كلمات القرآن في القرنين التاسع والعاشر الميلاديين حجر الأساس للتعاليم الصوفية: "لقد كان الصوفيون الأوائل يَحْيَوْنَ في ظلِّ رهبة يوم القيامة كما جاء وصفه في كثير من الآيات القرآنية التي تقشعرُّ لها الجلود والأبدان، حتى اكتشفوا أنَّ القرآن يَعِدُ أيضًا بالحبِّ المتبادل بين الله والإنسان". كان التصوُّف يتمحور حول الحبِّ ومن أجل هذا الحبِّ منذ قرون من الزمن وحتى يومنا هذا باستخدام صيغ وصور وأسئلة جديدة وأكثر دقة.

 

الصوفيون الإسلاميون في جميع شرائح المجتمع الإيراني

يمكن العثور على الصوفيين الإسلاميين في جميع شرائح المجتمع الإيراني: في الشرائح المتعلمة داخل المدن وفي الأسواق وبين الحرفيين وكذلك في القرى والأرياف. وهذا في جميع أشكال التصوُّف، بدءًا من الصوفية الشعبية البسيطة، التي يدعو فيها الصوفيون الله بأسمائه "الحسنى التسعة والتسعين" وينشدون الأناشيد لمدح الله، ووصولًا إلى فلسفة وحدة الوجود المتطوِّرة للغاية. كذلك توجد منذ زمن بعيد توتُّرات بين الأصولية الدينية وبين الصوفية، التي ترفض تعاليم الفقهاء الجافة.

يدَّعي الصوفيون أنَّهم متقدِّمون في المعرفة الحسِّية والمتوجِّهة نحو الخبرة. وفي المقابل يحتقر الملالي ورجال الدين الإيرانيون البحث الصوفي عن الله ورقصات الصوفيين الدراويش وأناشيدهم ومناهضتهم للفكر. ولكن مع ذلك فقد تبنَّى وعلى مدى التاريخ الفقهاءُ وعلماءُ الدين الأصوليون بعض استدلالات الفكر والتصوُّرات والأفكار الصوفية.

يمكن إبراز ذلك بوضوح لدى حافظ الشيرازي. فكثيرًا ما كان هذا الشاعر عرضةً للتهديد والأزمات بسبب استفزازاته السليطة وغموضه المتعدِّد المعاني الذي يصعب تحديده، ولكن مع ذلك فإنَّ "ديوانه" موجودٌ في داخل الكثير من البيوت الإيرانية وموضوع بجانب القرآن مباشرة - مثل كنز وطني مقدَّس. وخلال الثورة الإسلامية في إيران، أراد بعض رجال الدين والملالي المتعصِّبين فرض حظر على حافظ، غير أنَّهم لم يتمكَّنوا من فرض إرادتهم هذه سواء على الناس أو في داخل دوائرهم الخاصة.

ولكن التوتُّرات بين الصوفيين والأصوليين المتزمِّتين تصاعدت الآن إلى عداء ملموس. فقد تم مرارًا وتكرارًا في السنوات الأخيرة إغلاق أماكن الصلاة والالتقاء الصوفية -  مثلما حدث في مدينتي قُمّ وأصفهان، وأحيانًا تمَّت تسويتها بالأرض باستخدام الجرَّافات. تعرَّض الصوفيون للضرب وتم زجُّهم في السجون. إذ إنَّ شعبيَّتهم تثير الخوف من المنافسة لدى رجال الدين، وذلك لأنَّها تضر بالفقهاء وعلماء الدين على أرضهم. فوجود الصوفيين وحده يُقَوِّض العلاقة الوثيقة بين السياسة والدين.

يتعرَّض رجال الدين في إيران للضغط من ثلاثة مصادر: من خلال التحوُّل في السلطة السياسية ومن خلال العلمنة وكذلك من خلال المتصوفة. لقرون من الزمن، حدَّدت الأصولية المتزمِّتة الحياة اليومية في إيران من خلال تفسيراتها للقوانين والشرائع الإلهية المأخوذة من القرآن. ومع الثورة الإسلامية في عام 1979 وتشكيل الإسلام السياسي، استولى الفقهاء وعلماء الدين في إيران على الحكم بشكل ملموس.

ولكن في السنوات الأخيرة، تحوَّلت السلطة شيئًا فشيئًا بين الملالي والحرس الثوري، بين الدين والقومية لصالح الجيش، وهذا تطوُّرٌ يعزِّزه التهديد الأمريكي لإيران. وكذلك هناك خطرٌ آخر يهدِّد رجال الدين ويكمن في نمو العلمانية. ورمز هذا الخطر هو "شمال طهران".

إنَّ شمال العاصمة الإيرانية طهران المزدهر والمترابط بالشبكات العالمية والمتعلم والفصيح وذا التوجُّهات المادية جدًا والغربية، ليست لديه تقريبًا أية اهتمامات بكلِّ ما يتعلق بالجمهورية الإسلامية. حيث يتميَّز شمال طهران بموضة الشباب وعلاقته بالاستهلاك والتسامح والعقلانية والأخلاق وكذلك بالنكات على الملالي ورجال الدين.

ومع ذلك يجب علينا ألَّا نفترض أنَّ المواقف الحياتية المناهضة للدين في شمال طهران تنتشر في بقية البلاد. صحيح أنَّ المساجد في كلِّ مكان فارغة من المصلين إلى حدِّ ما، لكن التقوى القوية للغاية لدى الكثيرين من الإيرانيين تتَّخذ مساراتها الخاصة بها. كما أنَّ الصوفية تتيح للناس وسيلة ليعيشوا تقواهم ذات الطابع الإسلامي من دون قبولهم النظام الحاكم.

ترجمة: رائد الباش

نُشر في صفحة قنطرة الألمانية