التكنولوجيا وفعل القراءة: ماذا تغيّر؟

النقاد يتفقون على أن الوسائل التكنولوجية أدّت إلى إحداث تغييرات جذرية في عاداتنا القرائية وطرائق تفكيرنا وقدراتنا الذهنية ومهاراتنا أيضا؛ لكنّهم يختلفون في تقييمهم لهذه التغييرات.
نحن نحكم على الوسيلة الجديدة من خلال قيم الوسيلة القديمة
الإنترنت أصبحت بمثابة الذاكرة الخارجية للإنسان
ما حاجتنا إلى التذكر طالما نستطيع العودة إلى المعلومة في أيّ وقت وفي أيّ مكان!

د. إيمان يونس
جاء هذا المقال كرد على مقال فلسفيّ للناقدة والروائية المغربية زهور كرام تحت عنوان "التكنولوجيا وسؤال التركيز"، المنشور مؤخرا، ولست أسعى من خلال مقالي هذا إلى الإجابة عن تساؤلات كرام بقدر ما سأحاول أن أضعها مقابل طروحات فلسفية أخرى لنقّاد غربيين في ذات السياق بغية بناء تصوّر عميق حول علاقتنا بالتكنولوجيا يقوم على البحث والمقارنة.   
طرحت النقادة زهور في مقالها سؤالا في غاية الأهمّية حول تأثير الابتكار التكنولوجي على قدرتنا على التأمّل والتركيز وبالتالي على مصير الذاكرة وتشتتها! فهي تدعونا في مقالها إلى التفكير فيما تمنحنا إيّاه التكنولوجيا وما تأخذه منا! وكيف يمكن الاستفادة من التكنولوجيا بدون العبث في إنسانيتنا، فتقول: "ولعل من بين الأسئلة التي يطرحها الابتكار التكنولوجي فائق السرعة هو موضوع مصير "التركيز" مع السرعة الفائقة التي تنتقل من التكنولوجيا إلى الحياة اليومية". 
لا شكّ أنّ الانسان الذي يعيش حياة افتراضية من خلال انخراطه في عالم الشبكة، يجد نفسه يقوم بمهام عديدة في آن واحد. فبينما هو يقرأ مقالا ما يقوم بالتعليق على خبر عاجل، أو يردّ على إيميل وارد، وقد يضع "لايك" لتغريدة أعجبته، ثم يدخل رابطًا يحيله إلى آخر، وينتقل بسرعة إلى المشاهدة عبر صورة أو مقطع فيديو على يوتيوب حتى ليجد نفسه في نهاية المطاف وقد ابتعد عن غايته الأولى التي دخل الشبكة من أجلها أصلا! وينتج عن ذلك كلّه برأي كرام "أن يتأثّر سلوك الإنسان بمنطق السرعة الفائقة، وعندها يتراجع التأمّل، ويقلّ الصبر، ويضعف التركيز، ويحلّ التشتت والتجزؤ".    
وتضيف الكاتبة "أن جوهر الابتكار يتلاشى، ويتراجع معه دور التكنولوجيا في تأهيل الإنسان لحياة آمنة وسالمة وذات معنى وجودي. فالسرعة الفائقة للمنجز التكنولوجي أثناء السفر مثلا، تحدث شرخًا في التركيز الذي يعتبر أعلى درجات الانتباه. وينعكس ذلك على معنى الوجود، الذي قد يتحول بدوره إلى مجرد استهلاكٍ عابرٍ لما يتمّ استقباله، بعيدًا عن تأمله، وإعادة ترتيبه وفق منطق التركيز والانتباه". 
يذكرني طرح زهور كرام هذا لمسألة التركيز بمقالة هامّة لنيكولاس كار بعنوان: "هل يجعلنا غوغل حمقى؟، والتي يتبنّى فيها نفس وجهة النظر، فيدّعي أنّ القراءة عبر الإنترنت تشتّت التركيز وتضعف الذاكرة، بل ويصف فعل القراءة عبر الإنترنت بأنّه صار أشبه بالصراع، حيث يحاول القارئ أن يركّز فيما يقرأ لكنّه عبثًا يحاول فلا ينجح! 
وهكذا يعتقد كار بأنّ الإنترنت تشكّل لحظة مفصلية بالنسبة لـ"إدراك الإنسان"، لما ينتج عنها من أثر سلبي على الدماغ وجهاز الأعصاب. فالتشتّت الذي تسبّبه القراءة عبر الانترنت يعني أنّنا مع الوقت سنخزّن في دماغنا معلومات أقلّ، ممّا سيضعف الذاكرة. غير أنّ المشكلة برأي كار لا تكمن فقط في عدم قدرتنا على التذكر، بل ما يترتّب عن ذلك من ضعف في ربط تجاربنا ومعلوماتنا بعضها ببعض، وبالتالي عدم قدرتنا على نقد ما نراه ونسمعه بشكل فعّال! 

التأثير الأهم الذي طرأ نتيجة انتقال النص من الطور الورقي إلى الطور الرقمي يتعلق بمفهوم الديموقراطية، أي دمقرطة النص

ولتأكيد ادعاءات كار، قام فريق من العلماء بإجراء تجربة لفحص ما إذا كان توفر المعلومات "أون لاين" يضعف قدرتنا على تذكر هذه المعلومات. فوجدوا أنّ الإنترنت أصبحت بمثابة "الذاكرة الخارجية للإنسان" والتي يتّكل عليها في كل ما يتعلق بالذاكرة والتذكر، ممّا يدل على أنّ ذاكرتنا قد بدأت بالتراجع فعلا!  
في المقابل، وجد هؤلاء العلماء أنّ الأشخاص الذين أجريت عليهم التجربة اهتموا بتذكر المكان الذي تتواجد فيه المعلومة "اون لاين" بدلا من تذكر المعلومة نفسها! 
ويذهب كار إلى أبعد من ذلك فيما يتعلق بتأثير الفضاء الرقمي على فعل القراءة، فيقول إن القراءة عبر الانترنت لا تؤثر على الذاكرة فقط بل تلغي التجربة الفردية التي اعتدنا عليها مع الكتاب الورقي المطبوع. فعندما نقرأ نصّا ورقيّا نتفاعل ونتأمل ونركّز فيما نقرأه وحدنا، وبذلك نعيش تجربتنا الشعورية الفردية مع النص. ولكن هذه التجربة سرعان ما تتلاشى حين نقبل على قراءة نص رقمي، إذ نجد أنفسنا محاطين بتعليقات وتفاعلات قرّاء آخرين فتتحول تجربة القراءة من ممارسة فردية إلى ممارسة جماعية، نفقد معها موضوعيتنا تجاه النص! 
تعود فكرة الانتقال من التجربة الفردية إلى التجربة الجماعية في الأصل إلى المفكر الكندي الشهير مارشال ماك لوهان، الذي أحدثت نظرياته في وسائل الاتصال الجماهيري جدلاً كبيرًا، لا سيّما مقولته الشهيرة "الوسيلة هي الرسالة"!  
طرح ماك لوهان مقولته الشهيرة هذه في كتابه " فهم وسائل الاعلام" حيث ادعى أن الوسيلة نفسها -وليس المحتوى الذي تقدمه -يجب أن تكون محور الاهتمام. فالوسيلة تؤثّر في المجتمع ليس فقط بواسطة المحتوى الذي تقدمه، ولكن أيضا بخصائص الوسيلة نفسها. وبما أن قيم المجتمع وقواعده وسلوكياته قد اختلفت بسبب التكنولوجيا، فهذا دليل على قوة الآثار الاجتماعية للوسيلة.
يؤكد ماك لوهان أنّ الوسيلة الجديدة تخلق تصوّرا جديدًا لفهم العلاقات الإنسانية. فهي تغير طرائق تفكيرنا وسلوكنا، من هنا تصبح الوسيلة هي الرسالة بحد ذاتها. ويستشهد ماك لوهان بتأثير الكتاب المطبوع على تشكيل الوعي لدى الغرب. فالكتاب له شكل خطي ثابت، نتج عنه تشكيل الوعي الخطي. وبما أن الكتاب يقرأ من قبل شخص واحد في نفس الوقت، فقد عزّز أيضا مفهوم الفردانية. بحيث نقرأ وحدنا، نحلّل وحدنا، نتفاعل ذهنيّا وعاطفيّا وحدنا. أي أن فعل القراءة برمّته يقوم على التجربة الفردية في النص المطبوع. 

التكنولوجيا وفعل القراءة: ماذا تغيّر؟
هل نحن أغبياء أمام غوغل!

ويرى ماك لوهان أنّ التطورات الهائلة في الوسائل التكنولوجية تتطلّب مهارات مختلفة ووعيًا مغايرًا. فبما أنّ القراءة عبر الانترنت تتّسم بالتفرع والتشعب فإنّها تستوجب مهارة التفكير التشعبي لا الخطي، ومن ثمّ الانتقال من التجربة الفرديّة إلى التجربة الجماعيّة، ومن الوعي الفردي إلى الوعي الجماعي. 
وعليه، وبخلاف كار وزهور، فإنّ ماك لوهان لا يرى في مسألة ضعف الذاكرة أمرًا خطيرًا، وذلك لأنّ الوسيلة الجديدة تغنينا عنها، وينبغي علينا من الآن فصاعدًا أن نتكيّف ومتطلبات العصر الراهن. 
فقد لعبت الذاكرة دورًا هامّا في العصر الشفاهي، حيث كان على المعلم والفيلسوف والشاعر أن يحفظوا المعلومات باعتبارهم المصدر الوحيد لها. ثم جاءت ثورة الطباعة فعمّمت العلم والتعليم وأصبحت المعلومات في متون الكتب، فقلّ الاعتماد على الذاكرة إلى حدّ ما. وها نحن في عصر ثورة المعلومات، حيث غدت المعلومة مخزّنة في جهاز صغير يحمله الصغير قبل الكبير، فما حاجتنا إلى التذكر طالما نستطيع العودة إلى المعلومة في أيّ وقت وفي أيّ مكان! أليس من الأولى أن نوجّه اهتمامنا إلى تنمية مهارات أخرى تتوافق وطبيعة هذا الجهاز؟ 
وإذا كان النص الخطي يتطلب القدرة على التركيز، فإن النص التشعبي دون شك يتطلب مهارات ذهنية مختلفة وقدرات قرائية مغايرة. وهذا ما أكّدته الناقدة الأميركية كاثرين هيلز في كتابها "كيف نفكر".
 إذ ترى هيلز بأنّ القراءة التشعبيّة أصبحت مطلبًا أساسيّا من متطلبات التعليم في القرن الحالي، لأنّ أطفال هذا العصر محاطون بالنصوص التشعبية من كل حدب وصوب، وعليهم التعلّم كيف يتكيّفون معها. وتؤكد هيلز في الوقت نفسه على أهمّية القراءة الخطية التي تستوجب قدرة عالية على التركيز، ولكنّها لا توافق مع كار بأنّ القراءة التشعبية من شأنها أن تعرقل قدرتنا على التركيز، بل ترى أنّ القراءتين هامّتان وتثري إحداهما الأخرى. 

بما أن الكتاب يقرأ من قبل شخص واحد في نفس الوقت، فقد عزّز أيضا مفهوم الفردانية. بحيث نقرأ وحدنا، نحلّل وحدنا، نتفاعل ذهنيّا وعاطفيّا وحدنا. أي أن فعل القراءة برمّته يقوم على التجربة الفردية في النص المطبوع

 أما الناقدة كاثي دافدسون فلها وجهة نظر مختلفة، حيث أشارت في مقالتها "الآن أنت تراها" إلى أنّ ما يشتّت الذهن قد يلهم الذهن، لكنّ الأمر يتعلق بضرورة تعلّم مهارات أخرى تناسب طبيعة النص الجديد. 
وبالعودة إلى مسألة الانتقال من التجربة الفردية إلى التجربة الجماعية عند قراءة النص الرقمي، نجد أنّ  النقّاد تبنوا آراء متباينة حول الموضوع. فبينما يعتبر كار ذلك أمرًا سلبيًا ويوافقه على ذلك الناقد بيركرتس في كتابه "مرثية غوتنبيرغ" فإن ماك لوهان وأخرين يرونه ايجابيا. ومن النقّاد الذين دافعوا عن مبدأ "الجماعية" مثلا الناقد كلي شيركي. فهو يرى أنّ التأثير الأهم الذي طرأ نتيجة انتقال النص من الطور الورقي إلى الطور الرقمي يتعلق بمفهوم الديموقراطية، أي دمقرطة النص. ويصف شيركي الإنترنت بقوله إنها أدت إلى توسيع قدراتنا على إنتاج ومشاركة النص المكتوب بشكل جذري وهذا هو الأهمّ!  
بناء على ما تقدّم، نخلص إلى الاستنتاج بأنّه يوجد اتفاق عام بين النقّاد على أن الوسائل التكنولوجية أدّت إلى إحداث تغييرات جذرية في عاداتنا القرائية وطرائق تفكيرنا وقدراتنا الذهنية وفي مهاراتنا أيضا؛ ولكنّهم يختلفون في تقييمهم لهذه التغييرات، وهذا الاختلاف ناجم برأيي عن عدم القدرة على التحرر من أغلال القديم في الحكم على الجديد! بمعنى أننا نحكم على الوسيلة الجديدة من خلال قيم الوسيلة القديمة. فينتج عن ذلك أن نشكّك في الوسيلة الجديدة ونوجه إليها أصابع الاتهام، وهنا يكمن الفرق!
باحثة وأكاديمية فلسطينية