التهجم على وليد جنبلاط لا يحلّ أي مشكلة

لا يمكن وضع كل مسيحيي لبنان في سلّة واحدة، لكن الملفت ان أخطاء الماضي، ان في مجال استعداء الدروز او الاستعانة بقوة خارجية، يكررها بعضهم اليوم بطريقة او باخرى.

من المفيد بين الحين والآخر اعتماد الهدوء وضبط الاعصاب في لبنان والتفكير مليّا في تجارب الماضي القريب فضلا عن حاجة البلد الى تفادي أي مواجهة مع المنظمات الدولية، خصوصا تلك التابعة للأمم المتحدة.

تعني الاستفادة من تجارب الماضي القريب تفادي ايّ كلام كبير لا معنى له لا يأخذ في الاعتبار من يمثّل من ومن يمثّل ماذا في لبنان. دفع البلد، ولا يزال يدفع ثمنا كبيرا ثمن حرب الجبل التي في أساسها جهل من هم الدروز في لبنان ودورهم كطائفة مؤسسة للكيان. بغض النظر عن الأخطاء التي يمكن ان يرتكبها بين الحين والآخر الزعيم الدرزي وليد جنبلاط، وقبلها والده كمال جنبلاط، هناك ما لا يمكن تجاهله والمرور عليه مرور الكرام. ما لا يمكن تجاهله انّ وليد جنبلاط ليس سياسيا من طينة معظم السياسيين الآخرين ومن مستواهم. قلة قليلة من السياسيين اللبنانيين يمكن مقارنتها بوليد جنبلاط. الرجل يقرأ ويكتب ويتابع ويعرف العالم العربي والمنطقة، كما يعرف العالم. يعرف في التوازنات الداخلية والإقليمية وحتّى الدولية.

بعض التواضع يبدو ضروريا في هذه الايّام. يفرض التواضع عدم تجاهل انّه اعتُدي على الدروز في ارضهم وفي بيوتهم في الأعوام 1982 و1983 و1984 وان أخطاء ارتكبت في حقهم. أدت هذه الأخطاء الى ردود فعل مبالغ فيها شملت تهجير قرى عدّة من أهلها. استفاد من ذلك النظام السوري الذي كان يطمح الى العودة الى لبنان والسيطرة على البلد كلّه تدريجا. لا شكّ ان مسيحيين ظُلموا ايضا وهُجّروا من قراهم، لكن مصالحة الجبل بين البطريرك صفير ووليد جنبلاط في العام 2000، كانت بمثابة اعتراف من كبيرين بضرورة طي صفحة الماضي والسعي الى لملمة الوضع في مرحلة كان فيها الاقدام على مثل هذه الخطوة الشجاعة يمثل تحديا كبيرا للنظام السوري الذي استثمر طويلا في زرع الخلافات بين الطوائف اللبنانية. يبقى تدمير بلدة الدامور المسيحية وتهجير أهلها افضل دليل على مخططات النظام السوري في كل المراحل التي مرّ فيها لبنان بين العام 1975 والعام 2005 تاريخ الانسحاب السوري من لبنان. عمل النظام السوري منذ أواخر ستينات القرن الماضي على جرّ الفلسطينيين الى ان يكونوا طرفا في الحرب اللبنانية وان يتحولوا الى جيش المسلمين. هذا الجيش الذي أراد كمال جنبلاط عبره تحقيق تغيير في العمق في لبنان. لم يستفق جنبلاط الاب على ان تلك كانت سياسة خاطئة الّا متأخرا. لم يترك له النظام السوري مجالا للقيام بأي تصحيح لنهجه فاغتاله في العام 1977 زارعا بذور حرب الجبل وذلك عندما أراد اقناع الدروز بان المسيحيين وراء الاغتيال. اخذت حرب الجبل مداها بعد الاجتياح الإسرائيلي في 1982 وغياب الوعي المسيحي لخطورة المس بالعيش المشترك مع الدروز في مناطق مختلفة من الشوف وعاليه وغيرهما...

هل هناك من يريد ان يتعلّم من هذا الماضي القريب او من معنى الرهان، مثلا، على صدّام حسين في الأعوام 1988 و1989 و1990؟ توّجت تلك المرحلة بالاجتياح السوري لقصر بعبدا ووزارة الدفاع في اليرزة نتيجة عدم الادراك المسيحي للموازين الإقليمية وما سيترتب على امرين. أولهما اجتياح العراق للكويت في الثاني من آب – أغسطس 1990 وثانيهما مشاركة قوات سورية الى جانب الجيش الاميركي وقوات عربية ودولية أخرى في حرب تحرير الكويت في شباط – فبراير 1991.

لم يعرف لبنان كيف يحمي نفسه في تلك المرحلة التي شهدت اكبر موجة هجرة للمسيحيين منه. بدل الالتفاف حول رئيس الجمهورية المنتخب رينيه معوّض، اجبر الرجل على الاقامة في منطقة كان فيها مكشوفا للنظام السوري الذي سارع الى التخلّص منه كي يتمكن من تطبيق اتفاق الطائف على طريقته وبالشروط التي تناسبه.

لا يمكن بالطبع وضع كل مسيحيي لبنان في سلّة واحدة، لكن الملفت ان أخطاء الماضي، ان في مجال استعداء الدروز او الاستعانة بقوة خارجية، يكررها بعضهم اليوم بطريقة او باخرى. لا يريد هذا البعض ان يتعلّم شيئا من الماضي، لا من استعانة مسلمين بالفلسطينيين وبالنظام السوري ولا باستعانة مسيحيين بهذا النظام السوري او بايران كما هو حاصل الآن. هناك محاولة لا مبرر لها لاستفزاز وليد جنبلاط، أي الدروز. تترافق هذه المحاولة مع جهل واضح لكلّ ما له علاقة بالقوانين الدولية وكيفية التعاطي مع المفوضية العليا لشؤون اللاجئين التابعة للامم المتحدة. ليس ما يقوم به وزير الخارجية جبران باسيل سوى حملة سمجة لتبرير الفشل في استيعاب ما يدور في المنطقة وفي سوريا تحديدا. لا مبرّر للهجمة التي يشنها باسيل على احدى المنظمات التابعة للأمم المتحدة لانّ موظفي هذه المنظمة في لبنان يقومون بواجبهم ويعملون ما في استطاعتهم عمله من اجل حماية اللاجئين والنازحين السوريين الموجودين في لبنان. ليس مطلوبا في ايّ وقت ولأيّ سبب إعادة هؤلاء الى سوريا من اجل اجبارهم على الانضمام الى جيش يخوض حربا على شعبه ويعاني نقصا في القوى البشرية. وليس طبيعيا اجبار مدنيين على العودة الى قرى وبلدات في مناطق معيّنة، مثل القلمون، كي يلعبوا دور الدرع البشرية للقواعد التي اقامتها ايران في تلك المناطق.

باختصار شديد، ليس بمثل هذه التصرفات يمكن حماية لبنان ومسيحييه. لا يفيد التهجّم على وليد جنبلاط في شيء ولا يحلّ أي مشكلة في وقت يعرف القاصي والداني ان من بين الأسباب التي جعلت عدد السوريين في لبنان يتزايد الحرب التي يشارك فيها "حزب الله" في الداخل السوري على السوريين. هذه حرب ذات طابع مذهبي بحت تشمل عمليات تطهير تنفذ في مناطق معيّنة من اجل تغيير التركيبة السكّانية في سوريا لا اكثر.

يهرب بعض المسيحيين دائما الى المكان الخطأ. هربوا في أواخر ثمانينات القرن الماضي الى نصرة صدّام حسين بحجة انّهم لا يريدون اتفاق الطائف ويهربون حاليا الى ايران وأدوات ايران كي لا يواجهوا حقيقة مرّة اسمها سلاح "حزب الله". هذا السلاح غير الشرعي في أساس المصيبة التي يعاني منها لبنان والتي تمنع عمل المؤسسات، بما في ذلك اخذ كل طرف سياسي حجمه الحقيقي بعيدا عن الكلام الفارغ عن استعادة حقوق المسيحيين. لا يمرّ هذا الكلام عن حقوق المسيحيين وعن منع التوطين سوى على السذّج، وما اكثرهم للأسف الشديد، في بلد يعاني من مشاكل كثيرة. بين هذه المشاكل ازمة اقتصادية حقيقة وتهديدات بعقوبات يمكن ان يتعرّض لها نظامه المصرفي. انّه بلد يعاني، من بين ما يعاني منه، من ازمة نفايات وتلّوث وانقطاع للتيار الكهربائي وغياب الرصيف والطرقات الصالحة ومن بيروقراطية ثقيلة متخلفة ومن فساد لا حدود له ومن محاولة ايرانية لعزله عن محيطه العربي. هل يفيد التهجّم على وليد جنبلاط في حلّ أي من هذه المشاكل المطروحة ام انّه كلام يصلح لتغطية ازمة يمر فيها بعض مسيحيي لبنان من الذين يجهلون حجمهم الحقيقي وضحالة العقل السياسي الذي يوجههم وعقمه؟