الجرح مش حزن وبكا .. الجرح شيء تاني

وجيه عزيز أصدر عدة ألبومات أقل ما يقال عنها إنها مختلفة سواء من حيث اختيار الكلمات أو الأداء الموسيقي أو هرمونية وتناغم أغنيات كل ألبوم.
ألبوم "زعلان شوية" يحتوي على عشر أغنيات كتب كلمات ثمانية منها الشاعر علي سلامة
الأغنية الأولى "زعلان شوية" تبدأ بسؤال من المجموعة "مالك" فيرد المطرب بطريقة تجمع بين البساطة والتطريب "زعلان شوية"

في السنوات الأخيرة بدا لافتاً للنظر أن هناك مجموعة من المطربين المستقلين نوعاً ما، يحاولون أن يقدموا غناءً مختلفاً يرد الاعتبار ثانية للكلمة واللحن والأداء بعد أن صارت كلمة السر في عصر الخراب الملون المسمى بالفيديو كليب هي الصورة. 
من هؤلاء أحمد إسماعيل، عهدي شاكر، مصطفى رزق، كرم مراد، أحمد صالح، علي إسماعيل، ووجيه عزيز ... وآخرون، وليست مصادفة أنهم جميعاً يلحنون أغانيهم ويعزفونها على العود، وإن كان الأخير هو أكثرهم احترافاً وطرقاً لعدة مجالات منها الموسيقى التصويرية للأفلام والبرامج والتلحين لمطربين آخرين وعرض موسيقاه هنا وفي الخارج، بينما يكتفي البعض بمقار وسرادقات الثقافة الجماهيرية ومسرحيات الأقاليم، ولا عيب في المنهجيْن. 
أصدر وجيه عزيز عدة ألبومات أقل ما يقال عنها إنها مختلفة سواء من حيث اختيار الكلمات أو الأداء الموسيقي أو هرمونية وتناغم أغنيات كل ألبوم في بوتقة واحدة، وكأن كل تجربة حالة متكاملة متعددة الأوجه، وهذا نادر لحد كبير، فتكمل كل أغنية الأخرى سواء في الروح أو في الأثر أو في المعنى الواضح أو الكامن، خلف الكلمات.
يحتوي ألبوم "زعلان شوية" على عشر أغنيات كتب كلمات ثمانية منها شاعر يتميز بالخصوصية الشديدة، ويعود جزء كبير من تميز الألبوم إلى كلماته الشاعرة المبهرة هو علي سلامة، بعد الرائع أيضاً محمد ناصر علي في الألبومين السابقين لوجيه، وأغنية لفؤاد حداد، وكذلك أغنية لناصر محمود، وتقاسم التوزيع إيهاب حامد وهشام نياز وهشام نزيه، والألحان بالطبع لوجيه عزيز.

الألبوم ينتهي بأغنية قصيرة هي "كان نفسي" وهي لم تأت في النهاية صدفة، لكنها ترد على ما تم طرحه في الألبوم كله، في حواراته وأفكاره، إن الفنان يرد على نفسه ولا يترك جواره إلا العود

تبدأ الأغنية الأولى "زعلان شوية" بسؤال من المجموعة "مالك" فيرد المطرب بطريقة تجمع بين البساطة والتطريب "زعلان شوية" ثم يستمر الحوار: "من إيه"، "قلقان شوية": "على إيه"، "حيران شوية": "طب ليه"، بعدها يبدأ في الشكوى: "أنا أصلي زي بقيت الناس، ماشي كده عايش وخلاص، الضحك شكل البكا خالص، يا منجة ليه طارحة في مارس". إنه يستخدم التوليفة المصرية المكونة من الشكوى المضمخة بالسخرية والأمثال الشعبية التهكمية، ويضفي حوار المجموعة الإحساس بأن الهموم عامة، ويستمر: "أنا أصلي كنت زمان حبيّب، وشِعر إيه وغنا ومكاتيب، ليه كل ما امسك هي تسيب"، ثم ينهي الأغنية بتلخيص حالته الإنسانية العامة" "بتجنن واتحيّر  واتلخبط واتغير واقول يا ناس" فترد عليه المجموعة، أقصد الناس "مالك" ويعود هو لشكواه ويذكر أنه مازال "زعلان"، "قلقان"، "مبسوط"، "حيران"، "تعبان"، وسيظل متراوحاً بين كل هذا لأنه إنسان، ويغلف كل هذه المشاعر والأفكار ويساعد على صياغتها موسيقى يغلب عليها الشجن مع التساؤل مع الشقاوة المصرية اللاذعة. إن اختيار الأغنية تلك كمدخل معبر لهو دال موفق في بلاغته.
الأغنية الثانية أنشودة صعيدية حزينة يتشارك معه فيها المطربة جيهان مغاوري، وهي "لو تروح" فتدخل الموسيقى بانسيابية وبطء ثم تتصاعد مع إيقاعات الغربة الشجنية "لو تروح وتقول مسافر، مين يسأل علينا مين؟" ثم يبدآن في سرد أحداث الحالة بعد غربة الأحباب "المسا زي الصباح، واللي جاي زي اللي راح، خدنا إيه غير الجراح"،  "خدت حسّك من بيوتنا، مين يقول انك تفوتنا، قلنا لما انبح صوتنا، مين يسأل علينا مين"، وكأنها عدودة تنعي كل من تركونا بحثاً عن قيم سطحية متناسين أرواحنا التي سيصيبها العطب من أثر الوحدة واليتم. تفرد الأغنية مساحة كبيرة للعود الحزين ليعبر ببلاغته الموازية لبلاغة الكلمات عن وطأة الغربة على الجميع.
ثم تأتي الأغنية الثالثة بموسيقى شقية وحية تفرد مساحات للطبلة والأكورديون وحاملة معها رائحة الطزاجة والشباب والحياة، تقول أغنية "فساتين بناتنا": "فساتين بناتنا مشجرة، ناقله اللي فات بالمسطرة ومغيرة لون السكات" إنه لا يكتفي برصد حالة بدء تكون شمس الحياة مع البنات ولكنه يذكرنا بالليل الذي طال، إنهن بتفتحهن لسن صوراً رائعة فحسب وإنما أمل دائم كذلك. ويواصل: "ماشيه البنات مين قدها، راميه البسيط من قلبها، والتوب جميل لكن يشيط، لو شم ريحة حزنها" إن هذه الصورة تتجاوز كونها جملة تعبيرية في أغنية إلى أن تكون "جملة شعرية"، بمجازها الموفق واللاذع، إنها دعوة للحياة وانتصار على كل ما يحاصرنا من قبح أو "سكات". 

music
"شجر المشمش

الأغنية الرابعة واحدة من عدة أغنيات في الألبوم تقوم بمساءلة الواقع الحالي، ولكن دون مباشرة فجة، تبدأ أغنية "قول معايا" بمارش عسكري يتبعه نداء: "قول معايا قول بجد، هي عيشه ولا موته ولا فوته في حارة سد؟ قول لحد، أي حد" بعدها تنقلب الموسيقى شعبية وكأنها تتراقص في قلب حارة مصرية "حد رايح، حد غايب، حد جاي، حد لسه فينا فايق، حد حي؟!" وتعود الموسيقى متجهمة ويائسة "قول يا عم قول يا هَم، قول لحد فينا لسه عنده دم!!" وتنتهي بالزغاريد، أقصد بالأمل في غد "قول معايا صوتي لسه منتهاش، ليه بنرخص، ليه بنرضى نبيع بلاش؟" ويكررها وهو يرشق تساؤله الموجع في القلوب كلها. 
"هيلا هيلا" هي أغنية العم فؤاد حداد، ويبدأ الناي ليتسحب بنا إلى المشهد الذي ترتفع فيه أصوات الفواعلية وهم يزومون من التعب لكنهم يغنون دائماً "يا ولاد بلد يا ولاد اعمام، البرج بحري في الغرام، والقلب من جوا الصعيد، والنيل وطن. النيل وطن". بعدها يسيح اللحن وكأنه ماء النيل فيرقق قلوبنا "والشط لوّح من بعيد، قال كل أيد تحتاج لأيد" ثم "والحلو شايل قلتين، والشمس تحت النخلتين، طول النهار تاه عقلي فين؟" وهنا نحس أن اللحن تناثر ليتوزع على ضوء النهار قبل أن يبتعد، وكأن الصوت ينادي من على مركب بعيد عن الشط: "الدفة يا عبدالسلام، والقلع يا عبد الحميد". إنها الأغنية/الرسالة التي تبحث فينا عن وطن مازال حياً تحت الجلد وسيظل، حتى ولو على صورة ضمير.
ويعود الألبوم للغربة مرة أخرى في عدودة حديثة يبكي فيها العاشق عشقه وروحه التي سافرت مع فراق الهوى في أغنية "سلم يا عاشق" وهي التي تبدأ بكل الرقة الممكنة قبل أن يتلبس الصوت الشفافية وهو يقول "سلم يا عاشق عالهوا ولاّ هتنساني، هو اللي ضيعنا سوا رجعله ليه تاني؟ أنا عمري كان ضحك وغنا هوّ اللي قساني، أنا جرحي مش حزن وبكا أنا جرحي شئ تاني". إنه ينعي زمن الإيمان بالهوى وبراءته وجماله، وكلما كرر جملة "سلم يا عاشق" نحس أنه نداء من يشير بيديه لمن يسافر سفرة نعلم أنه لن يعود منها، ويسأل "ليه بتلوموني هو انا اخترت الغياب؟ أنا اللي صابر عالضنا وهوّ اللي غاب" ويقترب صوته من البكاء وهو يؤكد "اللي فِرح هوّ واللي جَرح هوّ"، لكن الصوت يكتسب قوته ومقاومته "الحب للي يصون والهجر للي يخون والذكرى خليها، لما الجراح تبتسم، يمكن أغنيها".
يعود الألبوم للصعيد بأغنية "شجر المشمش" التي تبدأ بالربابة: "انسى زماني وحكايتي معاك، وانك ترجع واستناك، أنا ايه جابني وايه وداك، إبعد أحسن عن أحزاني". وتتباعد الموسيقى لتعطي الإحساس بتراخي الزمن "كل ما يطرح شجر المشمش روح وانساني، وان مقدرتش يوم ما يهمش حاول تاني". 

music
سلم يا عاشق

مرة أخرى يسترعي ترتيب الأغنيات الانتباه، فحينما تنتهي الأغنية السابقة بالقدرة على مقاومة آثار وأحزان غياب من تركنا وغاب، تجئ الأغنية التالية لتكمل، ولكن مع تصعيد تلك القوة، مع اللحن الصعيدي، يقول "فاكر لما نسيت ورسمتك، نظرة عينك كانت مغرورة، ضاعت كل معاني غلاوتك، قبل الحلم ما يصبح صورة". إن صوت القانون مع الزمارة الصعيدية يشيعان فينا تمثل النخيل القوي، النخيل الواقف دوماً.
الأغنية الثامنة تطرق ما يجري معنا وبنا من انعدام المعيارية وضبابية الرؤية، تبدأ أغنية "هو حصل ايه" بمدخل متأورب ثم تدخل الطبلة والإيقاع العنيف مع سؤال المجموعة "هو حصل ايه؟ طب يعني جرى ايه" فيرد هو "مش برضه فيه طريقة، نعرف ايه الحقيقة، صاحبني ولو دقيقة وقولّي جرى ايه". وتعود المجموعة للسؤال ويشاركها هو "الجو مش مساعد، خايف ماقدرش اساعد"، "مش برضه لسه صاحي وفاكر فين جراحي، خد عمري وهات صباحي وقولي جرى ايه؟" وتنتهي بعلامة استفهام كبرى، أقصد بموسيقى تتخبط لتعطي إيحاءً باشتداد الحيرة بين الجميع، السائل والمسئول، لأن السؤال أكبر وأكثر تعقيداً. 
عندما تقترب الرحلة / الألبوم من النهاية يصل اليأس المطبق، فتأتي ترنيمة "لو موصوفلك" لترد على كل إمكانيات المقاومة السابقة، تبدأ بمدخل غامض يوحي بأمر مخفي ثم يظهر الناي ليسبغ المشهد بالشجن "لو موصوفلك ترجع، روح ويا ريت ما تجيش"، "لو تختار في زمانك، أحسن ما تنقيش" إنه يسأل بصوت خافض ويرد بصوت عالٍ وكأنه مونولوج داخلي ملئ بالسخرية المرة السوداء: "لو موصوفلك وصفة، اسأل ناس مش عارفة"، "لو موصوفلك تحلم، قضي الليل بردان، واعمل روحك ناسي انك إنسان"، ويعلو الصراخ "لو موصوف ترتاح، نادي وقول يا جراح، مايغركش براح، ساكت مايبكيش" ثم تأتي النهاية بوقفة مفاجئة وكأنها سحبة روح. 
ينتهي الألبوم بأغنية قصيرة هي "كان نفسي" وهي لم تأت في النهاية صدفة، لكنها ترد على ما تم طرحه في الألبوم كله، في حواراته وأفكاره، إن الفنان يرد على نفسه ولا يترك جواره إلا العود، "كان نفسي اقول غنوتي ناعمة رومانسية، طلع الكلام ناشف، كاشف هموم فيّ"، "لا القلب نفس القلب ولا الحياة هيّ" وبعد فترة يخترق صوته العود وهو يكرر "طلع الكلام ناشف" ثم يصمت الاثنان ونصمت نحن ولكن بعد امتلأنا.
* للاستماع وتحميل ألبوم "زعلان شوية" لوجيه عزيز: