الجزائر والهرب من الواقع

هناك في الجزائر من يريد العودة بالبلد الى لغة اكثر خشبية من تلك التي أدت الى العشرية السوداء.

من حقّ كلّ دولة البحث عن طريقة لمواجهة مشاكلها. هذا ما تفعله الجزائر التي يشكل النفط والغاز نسبة تسعين في المئة من صادراتها. لا شكّ ان الجزائر تعاني من هبوط سعر برميل النفط وسعر الغاز. بدل ان يكون هناك من يفكّر في كيفية تجاوز الازمة، هناك من يفكّر في كيفية الهرب منها. لا يدري الرئيس الجديد عبدالمجيد تبون ان الهرب من مواجهة الواقع هو هرب بحد ذاته. ثمّة حاجة الى نوع من الشجاعة لا اكثر ولا اقل. انّها شجاعة التعاطي مع الواقع ومع مشكلة اسمها الشعارات الفارغة من نوع ان الجزائر تطالب بـ"حرية تقرير المصير للشعوب" في حين انّها تقمع شعبها.

ما يزيد الوضع الداخلي الجزائري تعقيدا والازمة عمقا العجز الواضح عن التعاطي الفعال مع انتشار وباء كورونا. يترافق انتشار كورونا مع وجود نقمة شعبية عارمة في كل انحاء البلد. حالت هذه النقمة دون التمديد للرئيس عبدالعزيز بوتفليقة الذي كان افراد الحلقة الضيّقة المحيطة به يريدون بقاءه رئيسا لولاية خامسة.

سعى افراد هذه الحلقة الى ذلك على الرغم من انّ بوتفليقة كان رجلا مقعدا لا يستطيع الكلام منذ صيف العام 2013. دفع المواطنون الجزائريون الذين نزلوا الى الشارع الجيش الى التدخل واجبار بوتفليقة على الاستقالة. وضع الجيش حدّا لمهزلة طالت اكثر مما يجب من جهة واستغلّ من جهة اخرى الحراك الشعبي من اجل اثبات انّه المرجعية السياسية الاولى والأخيرة لبلد يرفع شعار "ثورة المليون شهيد".

كان الهدف من تدخل الجيش منع قيام نظام جديد مختلف من رحم الحراك الشعبي الذي لم يوقفه سوى انتشار وباء كورونا. لا يمكن بالطبع تفادي الاعتراف بانّ هذا الحراك الذي استمر نحو سنة لم يستطع الخروج بقيادة تستطيع التحدّث باسمه وان تطرح في الوقت ذاته بديلا من سلطة العسكر، أي للنظام الذي اسّسه هواري بومدين في العام 1965.

يمتلك الرئيس الجزائري الحالي منطقا متكاملا جاء به من عصر مختلف لا يمت بصلة الى عصرنا الحالي والى التطورات التي شهدتها العلاقات بين الدول والمؤسسات العالمية التي تعنى بالسياسات المالية وكلّ ما له علاقة بالاقتصاد في القرن الواحد والعشرين. يبدو عبدالمجيد تبّون وكأنه جاء من عالم خمسينات وستينات وسبعينات القرن الماضي. كان هناك نظام يطبّق في الماضي في الدول الأعضاء في حلف وارسو (المانيا الشرقية، رومانيا، بولندا، بلغاريا تشيكوسلوفاكيا، هنغاريا). انهار حلف وارسو قبل انهيار الاتحاد السوفياتي ومع انهيار جدار برلين في 1989. يقول الرئيس الجزائري، الذي يبدو انّه لم يأخذ علما بانهيار جدار برلين، ان الاستدانة من صندوق النقد الدولي او البنك الدولي او أي مصرف عالمي "يمسّ السيادة الوطنية".

يندرج هذا الكلام للرئيس الجزائري في سياق طبيعي أوصل البلد الغنيّ الذي اسمه الجزائر الى ما هو عليه الآن. ففي العام 2014، كان لدى الجزائر احتياط يصل الى 170  مليار دولار. في العام 2019، هبط الاحتياط الى 60 مليار دولار... وهو الان في مرحلة انهيار سريع يتماشى مع الهبوط المفاجئ والمريع لأسعار النفط والغاز في الأسابيع القليلة الماضية.

ثمّة لغة خشبية يستخدمها تبّون في ما يتعلّق بالاستدانة من المؤسسات المالية الدولية او من المصارف الأجنبية او التعاطي معها. يبقى مثل هذا الخيار منطقيا لو استطاعت الجزائر تنويع الاقتصاد تفاديا لان يكون البلد رهينة سعر النفط والغاز. يظلّ خيار استبعاد المصارف الاجنبية اكثر من منطقي عندما يوجد في الجزائر من يسأل لماذا وصلت الامور الى ما وصلت اليه في خريف العام 1988. كان ذلك في عهد الشاذلي بن جديد. وكان ذلك بسبب هبوط أسعار النفط. نزل الجزائريون الى الشارع في ثورة شعبية. ما لبث الإسلاميون من جماعة "جبهة الانقاذ" ان ركبوا الموجة واخذوا الجزائر الى العشرية السوداء، الى حرب أهلية استمرّت عشر سنوات.

هناك في المرحلة الراهنة في الجزائر من يريد العودة بالبلد الى لغة اكثر خشبية من تلك التي أدت الى العشرية السوداء التي تسمّى أيضا "سنوات الجمر". من يصدّق انّ الرئيس الجزائري يستطيع التفوّه بكلام من نوع انّه "عندما نستدين من مصارف اجنبية، لا يعود في استطاعتنا الكلام لا عن فلسطين ولا عن الصحراء الغربية". مثل هذا الكلام ليس اعتداء على فلسطين التي يقارنها بقضية مفتعلة، هي قضيّة الصحراء المغربية. انّه دليل على الازمة العميقة التي تمرّ فيها الجزائر والتي تعتقد انّ الهروب الى الخارج يمكن ان يساعد في الخروج منها. ان الطفل يعرف انّ قضية فلسطين شيء وانّه يوجد مشكل جزائري مفتعل مع المغرب اسمه الصحراء المغربية. اذا كان هناك قضية صحراوية، فهذه القضيّة وجدت لها حلا. انّها قضيّة أناس ممنوعين من العودة الى الأقاليم الصحراوية في المغرب للعيش فيها معززين مكرمين يتمتعون بحقوق المواطنة كاملة في ظلّ حكم ذاتي في اطار لامركزية موسّعة. مشكلة الجزائر، كنظام، انها ترفض ذلك كونها ترفض عيش الصحراوي في ظروف يحافظ فيها على كرامته.

اذا كان من ظلم، فهذا الظلم يطال الصحراويين الذين يعيشون في مخيمات تندوف الجزائرية والذين تتاجر بهم الجزائر وتسعى عبرهم الى ابتزاز المغرب لا اكثر ولا اقلّ. تفعل ذلك بدل الاهتمام بشؤونها الداخلية بعيدا عن عقدة الجار القريب الذي استطاع ان يتطور على كلّ صعيد من دون امتلاك ثورة نفطية. اعتمد المغرب على الانسان اوّلا وعلى قدراته الذاتية ثانيا وأخيرا. انتمى الى العالم الحضاري من دون أي عقدة من ايّ نوع كان. يرفض ابتزاز احد ولا يقبل ان يبتزه احد. لم يتاجر لا بالفلسطينيين ولا بفلسطين كما فعل غيره.