الحاكميّة الإلهيّة: تطوّر المفهوم في القرنين الأخيرين

بعد الحرب العالميّة الثانية زادت حدّةُ النقاشاتُ حول الحاكميّة وأخذتْ شكلًا جديدًا مع ولادة الدولة الوطنيّة ونشوء حالة تنظيميّة ممثّلة في الإخوان المسلمين فقد عمل حسن البنّا على بناء منظومة اعتقاديّة سياسيّة تقوم على نظام عالميّ شامل.

بقلم: أحمد ماجد

يُعتبرُ مفهوُم الحاكميّة[1] مفهومًا مركزيًّا في الخطاب الإسلاميّ منذ عصر النهضة "الإسلاميّة -العربيّة" الأولى.[2] وقد شهد تحوّلًا كبيرًا في القرنين الأخيرين إلى حدّ استخدامِه في القرن الأخير مرادفًا للديمقراطيّة.

والواقع أنّ هذا المفهوم كان ضمن مفاهيمَ أخرى حاول الإسلاميّون أن يوائموا فيها بين الوافد من الماضي والوافد من "الآخر،" وذلك استجابةً لتحدّيات الواقع الحضاريّة؛ ما عرّضه للتغيير وإعادة التعريف. فلقد طرح هذا الأمر على العقل الإسلاميّ جملةً من الأسئلة مثل: هل الحاكميّة تعني حاكميّةَ البشر؟ هل يمكن التعاطي معها بشكلّ جزئيّ من دون النظر إليها بمتعلّقاتها؟ هل هي منظومة متكاملة أو آليّة يمكن تطبيقُها على كلّ نظام إنسانيّ؟ وغيرها من الأسئلة التي أشرعتْ أبوابَ النقاش السياسيّ والكلاميّ والمعرفيّ في الحقل الإسلاميّ العامّ.

من هنا، سنتدرّج في استعراض المفهوم انطلاقًا من الآراء الإسلاميّة المختلفة التي عرضتْ إشكاليّةَ الحاكميّة والعقيدة، والحاكميّة والسياسة، كي نستخلص بنيتَه العامّة، معتمدين على نصوص روّاد التيّارات الإسلاميّة الكبرى في حقبتي الإحيائيّة الإسلاميّة (1850 - 1930) والحركيّة الإسلاميّة (1930 - ...).

أولًا: في المفهوم

شغلتْ قضيّةُ "الحاكميّة" المفكّرين السياسيّين في العالم العربيّ منذ فجر النهضة العربيّة الأولى منتصفَ القرن التاسع عشر. ويُعتبر الشيخ رافع رفاعة الطهطاوي الرائدَ الأوّلَ في هذا المجال. كان الطهطاوي ينظر إلى الحداثة الأوروبيّة نظرةَ إعجاب، واعتبر نُظُمَ أوروبا ومؤسّساتها غيرَ متناقضة مع الرؤية الإسلاميّة: "أغلب النواميس الطبيعيّة لا تخرج عن الأحكام الشرعيّة؛ فهي فطريّة بطبيعتها وقد خلقها الله."[3] ولإثبات ذلك عمل على إيجاد مسوِّغات لهذه الحضارة من داخل السياق الإسلاميّ؛ فالحضارتان تتشابهان في رأيه في كيفيّة الوصول إلى الأحكام، ومن ثمّ يمكن أن يستلهمَ المفكّرُ الإسلاميّ ما هو موجود في الحضارة الأوروبية ويستفيدَ منه في سياقه الخاصّ.

من المفاهيم الأولى التي عمل الطهطاوي على تبيئتها، ولم تكن متداولةً في السياق الإسلاميّ بشكل تقليديّ: الوطن والمواطنيّة (بالمعنى الأوروبيّ). فقد حاول المزجَ بين الفكر الأوروبيّ ومعطيات "الذات الشرقيّة،" مُعطيًا الإسلامَ أبعادًا ليبراليّة:[4]

"[إنّ] حقوقَ جميع أهالي المملكة المتمدّنة ترجع إلى الحريّة. فتتّصف المملكةُ بالنسبة للهيئة الاجتماعيّة بأنّها مملكة حاصلة على حريّتها، ويتّصف كلُّ فرد من أفراد الهيئة الاجتماعيّة بأنّه حرٌّ يُباح له أن يتنقّل من دار إلى دار، ومن جهة إلى جهة، وأن يتصرّف في وقته ونفسه كما يشاء، فلا يمنعه من ذلك إلّا المانعُ المُحدَّدُ بالشرع أو السياسة، ممّا تستدعيه أصولُ مملكته العادلة."[5]

الطهطاوي، هنا، عاد إلى حاكميّة الشرع، وأكّدها، وبنى منظومتَه على أساسها. أي إنّه لم يغادر الخطاب التقليديّ إلّا بشكل سطحيّ، وبقي مشدودًا إلى "المستبدّ العادل." بل هو انتقد النظم الديمقراطيّة الانتخابيّة لصالح السائد والمَعيش في الدولة المصريّة والسلطنة العثمانيّة. هو، إذًا، قدّم أطروحاتٍ هامشيّة، حوّرت السائدَ، وأعادت تعريفَ بعضه على ضوء معاينة التجربة الغربيّة، ولكنّه بقي أشعريًّا، يتّكأ على سيادة الشريعة، في ظلِّ حاكمٍ يرعى هذا التطبيق. وهذا ما يجعل خطابه أقربَ ما يكون إلى الآداب السلطانيّة.

 

لم يغادر الطهطاوي الخطاب التقليديّ إلّا بشكل سطحيّ

لم يتفرّد الطهطاوي بهذه النزعة. فقبله وضع خير الدين التونسيّ خطّةً شاملةً للإصلاح، وجّه من خلالها رسالةً إلى سياسيّي عصره وعلمائه، حاثًّا إيّاهم على انتهاج كلّ السُّبل الممكنة من أجل تحسين أوضاع الأمّة، محذّرًا من مغبّة رفض تجارب الأمم الأخرى انطلاقًا من الظنّ الخاطئ بأنّه ينبغي نبذُ كلّ ما يأتي من غير المسلمين.[6]

كما أنّ المواءمة بين الحداثة والأصالة لم تنحصر آنذاك في العالم العربيّ، بل امتدّت إلى مسارح العالم الإسلاميّ كلّه، وأثار التركيّ نامق كمال موضوعَ الحاكميّة بمعناها المعاصر وبشكلٍ موازٍ للطرح الذي قدّمه الطهطاوي. وعلى الرغم من ذلك لم تتقبّل الأوساطُ الدينيّة مفهومَ "الحاكميّة الشعبيّة." فذهب المفكّر العثمانيّ الأمير سعيد حليم باشا (1863 - 1921) إلى حصر مفهوم الحاكميّة بالشريعة: "طبّق الإسلامُ بنجاحٍ مبدأَ أنْ ليست للإنسان حاجةٌ لأنْ يَخضعَ لقانونٍ يضعه بشرٌ مثله، لأنّ ذلك القانون لا بدّ أن يكون مستبدًّا وجائرًا في بعض نواحيه، وإنْ كان قد صدر بالإرادة العامّة للأغلبيّة؛ ولكن إنّما عليه أنْ يخضع لإرادة الخالق المتمثّلة في قوانينه الطبيعيّة الاجتماعيّة والمادّيّة."[7]

الخلاصة أنّ المجتمعات الإسلاميّة لم تطمئنَّ إلى مفهوم "الحاكميّة الشعبيّة،" واعتبرته مُعاديًا للدين، ولكنّ هذا لم يمنع من تداول المصطلح وتحويله مادّةً نقاشيّةً بين المسلمين.

 

الحاكميّة في خطاب الإحيائيّة الإسلاميّة

أسّس النهضويّون الإحيائيّون – معرفيًّا - لآليّة التخلّص من الحكم الاستبداديّ الذي أصاب الشرق، فحاولوا أنْ يجدوا الحلولَ من خلال النهضة الأوروبيّة. ومن هنا طرحوا مفهومَ "الحاكميّة الشعبيّة." ومع ذلك لم تظهر معالمُ بحث المفهوم عند الإحيائيّين واضحةً، إذ لم يُتناولْ في معزل عن مجموعة من المفاهيم المرفقة معه، كالعدل والشورى. وهذا ما يتجلّى عند جمال الدين الأفغانيّ، الذي توصّل إلى أنّ مرجع التأخّر في المجتمعات الإسلاميّة يعود إلى غياب العدل والشورى، وعدم تقيُّد الحكومة بالدستور.

كان الأفغاني على يقينٍ من ضرورة إعطاء الشعب حقَّه في التعبير عن نفسه: "وحكمُ مصر بأهلها إنَّما أعني به: الاشتراكَ الأهليَّ بالحُكم الدستوريّ الصحيح."[8] ويتابع: "إنّ القوّة النيابيّة، لأيّ أمّةٍ كانت، لا يمكن أنْ تحوزَ المعنى الحقيقيَّ إلّا إذا كانت من نفس الأمّة."[9] لقد عمل الأفغاني على الوصول إلى إطارٍ فكريّ يحفظ خصوصيّاتِ الشعوب الإسلاميّة، من دون التخلّي عن وحدة الأمّة الإسلاميّة في جامعة إسلاميّة.

هذه الرؤية إلى الحاكميّة عدّلها محمد عبدُه، تلميذُ الأفغاني. ففي محاولته التوفيقَ بين المبادئ الإسلاميّة والأفكار الغربيّة، اقترح أنّ مصطلح "المصلحة" عند المسلمين يقابل "المنفعة" عند الغربيين، وأنّ "الشورى" تقابل "الديمقراطيّة،" وأنّ "الإجماع" يقابل "رأيَ الأغلبيّة." وهو رأى أنْ ليس ثمة حكم دينيّ/ ثيوقراطيّ في الإسلام؛[10] فمناصبُ الحاكم أو القاضي أو المفتي أو شيخ الإسلام مناصبُ مدنيّة وليست دينيّة:

"إنّ الإسلام لم يجعل لهؤلاء أدنى سلطة على العقائد وتقرير الأحكام. وكلُّ سلطة تناولها واحدٌ من هؤلاء هي سلطة مدنيّة، قدّرَها الشرعُ الإسلاميّ. ولا يسوّغ لواحدٍ منهم أن يدّعي حقَّ السيطرة على إيمان أحد، أو عبادته لربّه، أو ينازعه في طريقة نظره."[11]

كما لا بدّ من التنويه إلى أنّ عبدُه أعطى الحريّة بعدًا كلاميًّا جديدًا عبر استعادة الاعتزال العقائدي، وما يحمله في طياته من حريّة إنسانيّة تقوم على التكليف الإنسانيّ.

 

رأى الشيخ محمد عبده أنّ "الشورى" تقابل "الديمقراطيّة"

على هذا الأساس بدأ بنيانُ النهضة الإسلاميّة يتبلور في سياق جديد. فأخذ المفكّرون يخْطون خطواتٍ إضافيّة في كلّ مرحلة من مراحل التطوّر نحو تحديث المقولات الدينيّة. وفي هذا المجال ذهب عبد الرحمن الكواكبي (1849-1903) مذهبًا عميقًا، حين ألّف كتابين عالجا قضايا الحريّة والديمقراطيّة: طبائع الاستبداد وأمّ القرى. في الثاني قال: "يخيَّل إليَّ أنَّ سببَ الفتور هو تحوّلُ نوع السياسة الإسلاميّة؛ حيث كانت نيابيّةً اشتراكيّة (أيْ ديمقراطيّة تمامًا)، فصارت بعد الراشدين - بسبب تمادي المحاربات الداخليّة - ملَكيّةً مقيّدةً بقواعد الشرع الأساسية؛ ثم صارت أشبه بالمطلقة." ويخلص الكواكبي إلى أنّ التقدّم مرتبط بالمحاسبة، بينما التخلّف مرتبط بالاستبداد.[12]

 

تطوّر مفهوم الحاكميّة مع الحركيّة الإسلاميّة

لم تنقضِ الحربُ العالميّة الثانية حتى خرج أبو الأعلى المودوديّ بنظريّته عن "الحاكميّة الإلهيّة" التي جعلها أساسَ نظام الإسلام السياسيّ، رافضًا الحاكميّة الشعبيّة. فقد رأى أنّ كلّ محاولة لتنظيم أمور البشر على أسس بشريّة محضة ستؤدّي إلى قيام نظام يراعي مصلحةَ فئةٍ على حساب الفئات الأخرى. الإسلام، بالنسبة إليه، قدّم نموذجًا متكاملًا. لكنّ المشكلة أنّ الحقل المعرفيّ الإسلاميّ ظلّ يحمل مسائلَ متداخلةً، لا سيّما على صعيدي الدستور والقانون. ومن هنا عمل المودودي على تحديد مسائل هذا الدستور:

  • لمن الحكم؟ الله، الملك، الطبقة، الأمّة؟
  • ما حدود تصرّف الدولة؟ متى تكون طاعتُها واجبة؟
  • ما حدود سلطات الدول التنفيذيّة والقضائيّة والتشريعيّة؟
  • ما غاية الدولة؟ وما مبادئها الأساسيّة؟
  • كيف تؤلَّف الحكومة لتسيير نظام الدولة؟
  • ما الصفات التي ينبغي أن يتحلّى بها القائمون بأمر الحكومة؟
  • ما هي أسس المواطنيّة، وبأيّ طريق ينالها الفرد في كيان الدولة؟
  • ما هي حقوق الدولة على الأهالي؟[13]

ثمّ بدأ بالإجابة عن الأسئلة على التوالي. فاعتبر إنّ الحاكميّة لا تنطبق إلّا على الله لأنّه الغالب المطلق الذي لا يُسأل عن أعماله، وهو الذي يبيّن للناس حقوقَهم من دون ظلم أو فساد نابعيْن من الطبيعة الإنسانيّة. وإذا كان الأنبياءُ والرسل هم ممثّلي الحاكميّة في المجال الإنسانيّ، فالحقّ من بعدهم يصبح في النيابة عامًّا، يشمل كلَّ أفراد المجتمع الإسلاميّ شرط أن يسلِّموا بحاكميّة الله. وهذا ما يجعل النظام الإسلاميّ نظامًا ديموقراطيًّا، لا ثيوقراطيًّا كالأنظمة البابويّة أو القيصريّة.

ويفرّق أبو الأعلى بين الديمقراطيّة الإسلاميّة والأوروبيّة: "[فـ] نظامُنا الديمقراطيّ الذي نعبّر عنه بالخلافة لا يكون الجمهورُ فيه إلّا حاملًا للخلافة، لا الحاكميّة نفسها. فكما أنّه تتألّف الحكومة في جمهوريّتهم لتدبير شؤون البلاد وتتغيّر بالرأي العامّ، كذلك تقتضي ديمقراطيّتنا أن لا تتألف الحكومة ولا تتغيّر إلا بالرأي العامّ. ولكنّ الفرق بيننا وبينهم أنهم يحسبون ديمقراطيّتَهم حرّةً مطلقة، ونحن نعتقد الخلافة الديمقراطيّة متقيّدةً بقانون الله عزّ وجلّ."[14] وهنا تصبح الدولة خاضعة بشكل كلّيّ للأحكام، ولا يجوز أن تكون قوانينُها مناقضةً لها.

لكنْ، هل يعني ذلك غيابَ المؤسّسات التي تنظّم الدولة؟ هنا يشدّد المودودي على وجود المؤسّسات النابعة من إرادة الشعب، ويحدّد لها أدوارَها التنفيذيّة والتشريعيّة والقضائية: "انتخاب الرئيس في الدولة الإسلاميّة متوقّف على رضاء عامّة المسلمين، ولا يحقّ لأحد أن يسلّط نفسه على رؤوسهم بالقسر والإكراه. ولا اختصاص بهذا المنصب لأسرة أو طبقة خاصّة. وينبغي أن يجري الانتخاب برضا المسلمين من غير عنف ولا تدليس."[15]

يلاحظ ممّا سبق أنّ المودودي في تحليله للحاكميّة، وإنْ عاد إلى أصولها الإسلاميّة، بقي مشبعًا بالأدبيات السياسيّة غير الدينيّة، فرادف بين الله والقانون. وهذا ما يدفعنا إلى الاستنتاج أنّ خلفيّة فكرة الحاكميّة عند المودودي هي التجربة السياسيّة الهنديّة. فحين تهيّأت الظروفُ الموضوعيّة لاستقلال الهند، خاف المودودي من أثر هذا الاستقلال في الأقلّيّة المسلمة التي لا تتجاوز 30% من التعداد العامّ للسكان، وخاف من أنّ اعتماد الديمقراطيّة سيؤدّي إلى عدم نيل الأقليّة المسلمة حقوقها. وهذا ما دفعه إلى البحث عن عنصر تميّزٍ عن الأكثريّة الهندوسية، فلم يجد هذا العنصرَ إلّا في "الحاكميّة."

 

الحاكميّة بعد مرحلة الدولة الوطنيّة

بعد الحرب العالميّة الثانية، زادت حدّةُ النقاشاتُ حول الحاكميّة، وأخذتْ شكلًا جديدًا مع ولادة الدولة الوطنيّة ونشوء حالة تنظيميّة ممثّلة في الإخوان المسلمين. فقد عمل حسن البنّا على بناء منظومة اعتقاديّة سياسيّة تقوم على نظام عالميّ شامل، خلافًا للأنظمة الوضعيّة المقيّدة بالجغرافيا والقوميّة؛[16] فالإسلام، كالأنظمة الديمقراطيّة، يقيم نظامَه على الحريّة الشخصيّة، وعلى الشورى، وعلى استمداد السلطة من الأمّة، وعلى مسؤوليّة الحكام أمام الشعب، وبيان حدود كلّ سلطة من السلطات.[17]

لكنْ على الرغم من حرص البنّا على الجانب الانتخابيّ والبرلمانيّ والدستوريّ، واعتباره منسجمًا مع نظام الحكم الإسلاميّ، فقد كان يعارض التعدديّةً الحزبيّة، ويرى أنَّ الأحزاب السياسيّة تهدّد الوحدة الإسلاميّة، التي اعتبرها أساسيّة لاستعادة نظام الخلافة.

وعليه، فقد كان البنّا يدعو إلى "حاكميّة شعبيّة دينيّة،" تلتزم بما ورد في الشرع. ولا مشاحة من أن توصف بالديمقراطيّة أو بغيرها من الألفاظ، شرط أن تؤدّي إلى نتائج تتوافق مع بنية الشريعة.

 

كان البنّا يدعو إلى "حاكميّة شعبيّة دينيّة"

ولم يختلف سيّد قطب عن أستاذه البنّا في الدعوة إلى الشورى، ولكنّه اعتبرها من المبادئ العامّة التي تتغيّر بتغيّر الظروف التي تمرّ بها الأمّة،[18] مع التأكيد على إلزاميّتها. وشدّد قطب على محوريّة الشعب في اختيار الحاكم؛ فالإسلام يعتبر الوراثة من الأمور الجاهليّة التي قضى الإسلام عليها.[19] ومصدر المشروعية هو حاكميّة الله، وعلى هذا الأساس يفسّر قطب معنى: إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُون.[20]

هكذا يؤسّس سيّد قطب لحاكميّة دينيّة شاملة، لا تلغي دورَ الناس، لكنّها تفرّق بين مصدر السلطة الذي هو الله، وبين مزاولة السلطة التي هي في يد البشر: "الأمّة في النظام الإسلاميّ هي التي تختار الحاكمَ فتعطيه شرعيّةَ مزاولة الحكم بشريعة الله؛ ولكنّها ليست هي مصدر الحاكميّة التي تعطي القانونَ شرعيّتَه. إنَّما مصدر الحاكميّة هو الله".[21]

لعلّ هذا ما جعله يقوم بتقسيم حادّ بين مجموعتين: الإسلام والجاهليّة. فالأخيرة فاسدة سادت في جزيرة العرب قبل الإسلام، وخضع الناسُ بموجبها للطواغيت، حتى جاء الإسلام. ومن ثمّ فإنّ الإنسان أمام خياريْن: الالتزام بحاكميّة الله، أو اتّباع الطاغوت.

أثار قطب في ما تكلّم به عاصفةً من الردود حاول الإخوانُ الردّ عليها والتخفيفَ من حدّتها. فانبرى حسن الترابي بالدعوة إلى تجديد الفكر الدينيّ، إذ لم يعد بالإمكان الاحتفاظ بالمقولات التقليديّة، وذلك بسبب تغيّر الظروف وانتهاء زمن الوحي والفترة الراشدة، وبداية دور العلماء والفقهاء.[22]

من هنا عمل الترابي على تقريب المفاهيم الإسلاميّة إلى الغربيّة، فقال بترادف الحاكميّة والديمقراطيّة، إذ يمكن أهلَ الحلّ والعقد أنْ يعملوا على مأسسة العمل السياسيّ في الإسلام بطريقة مشابهة للنظام البرلمانيّ الغربيّ عبر تكييف المؤسّسات السياسيّة الإسلاميّة مع ظروف المسلمين السياسيّة والاقتصاديّة.[23]

أما راشد الغنوشي فتقدّم خطوةً على الترابي، حين وازى بين الشورى الإسلاميّة والديمقراطيّة الغربيّة، من خلال اعتناقه مفهومَ الحريّة والتحرّر الفكريّ في سياقات إسلاميّة معاصرة. فالشعب هو الذي يؤسّس المجتمع، ومن حقّه أن يختارَ من يشاء، ويؤسّس ما يريد من أحزاب، ولو لم تلتزم الإسلام؛[24] فالمجتمع الإسلاميّ، "وإن يكن مجتمعًا عقائديًّا،... مفتوحٌ لكلّ العقائد والأجناس، يتمتّع فيه الجميعُ بحقوق المواطنة أو بعقد الذمّة، أي المواطنة والجنسيّة."[25]

نلاحظ هنا الترادفَ لدى الغنوشي بين الشورى والديمقراطيّة، لكون هذه الأخيرة نظامًا سياسيًّا يجعل السلطةَ للشعب ويمنح المحكومين الحقّ في اختيار حكّامهم وفي تغييرهم. وهذا النظام يحقّق التداولَ على السلطة عبر صناديق الاقتراع، ويضمن للناس حريّاتٍ عامّة، كالتعبير وتكوين الأحزاب، كما يضمن استقلال القضاء. وعليه، فإنّ الديمقراطيّة آليّة تضمن للشعب سيادتَه على النظام السياسيّ، وتحقّق جملةً من المضامين والقيم التي تصون الحقوق وتحمي الحريّات وتحصّن الناس ضدّ الجور والاستبداد.[26]

وحتى يبرر الإسلاميّون القريبون من الرؤية الإخوانيّة هذا التقاربَ بين الإسلام والديمقراطيّة، ذهب يوسف القرضاوي إلى حدِّ الإفتاء بمشروعيّة الديمقراطيّة:

"الغريب أنّ بعض الناس يحكم على الديمقراطيّة بأنّها منكَرٌ صراح، أو كفرٌ بواح، وهو لم يعرفْها معرفة جيّدة... فهل الديمقراطيّة التي تُنادي بها شعوبُ العالم... والتي وصلتْ إليها بعضُ الشعوب بعد صراع مرير مع الطغاة، ويرى فيها كثير من الإسلاميّين الوسيلة المقبولة لكبح جماح الحكم الفرديّ وتقليم أظافر التسلط السياسيّ الذي ابتليت به شعوبُنا المسلمة، هل هذه الديمقراطيّة منكر أو كفر...؟!"[27]

إنّ مجمل النقاش الدائر حول حاكميّة الله والإنسان في القرنين الأخيرين يعطي القارئ تصوّرًا أوّليًّا عن أثر الصدع الذي تركه الغربُ في بنية العقل الدينيّ الإسلاميّ. كما يُفيدنا بنماء الفكر السياسيّ في البيئة الإسلاميّة المحافظة. وهذا ما يجعل مفردةَ "الحاكميّة" غايةً في الأهميّة في نقاشنا "العقلَ الإسلاميّ" أو بنيةَ فكر الإسلاميين عند تصدّيهم للمسألة السياسيّة.

الهوامش

[1]  استمدّ خطابُ الحاكميّة الإلهيّة تسويغاتِه ممّا ورد في القرآن الكريم، بقوله تعالى: وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُون (سورة القصص، الآية 70)؛ إِنّ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ (سورة يوسف، الآية 40)؛ وغير ذلك من الآيات القرآنيّة البالغة الدلالة والأهميّة.

 [2]  المرحلة التي رافقت النهوضَ الحضاريّ، من رافع رفاعة الطهطاوي وصولًا إلى رشيد رضا.

 [3]  رافع رفاعة الطهطاوي، المرشد الأمين في تعليم البنات والبنين (القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة 2002)، ص 131.

 [4]  يتجلّى هذا الأمر في المقارنة التي قام بها بين القانون الفرنسيّ والشريعة الإسلاميّة، إذ توقَّف أمام المادّة الأولى منه، وحاول إيجاد مسوِّغاتٍ نصّيّةً تعطيها الشرعيّة، فقال: "فانظرْ إلى هذه المادّة الأولى، فإنّ لها تسلّطًا عظيمًا على إقامة العدل وإسعاف المظلوم، وإرضاء خاطر الفقير بأنّه كالعظيم نظرًا إلى إجراء الأحكام." رافع رفاعة الطهطاوي، تخليص الإبريز في تلخيص باريز (القاهرة: الهيئة المصريّة العامّة للكتاب، 1993)، ص 181.

 [5]  المرشد الأمين، ص 128.

 [6]  خير الدين التونسي، أقوم المسالك في تقويم الممالك، تحقيق معن زيادة ( بيروت: دار الطليعة، 1978)، ص 206 - 211. 

 [7]  Islamic Culture pp. 111-135.

 [8]  المصدر نفسه، ص 477.

 [9]  المصدر نفسه، ص 473.

 [10]  الثيوقراطي (Théocratie): مذهب يقوم على تعليل السلطة لدى الجماعة على أساس الاعتقاد الدينيّ. والنظام الثيوقراطيّ هو النظام الذي يستند إلى فكرة دينيّة، ومنها "نظريّة الحقّ الإلهيّ،" التي تعتبر الله مصدرًا للسلطة. عبد الوهاب الكياّلي وآخرون، موسوعة السياسة (بيروت: المؤسّسة العربيّة للدراسات والنشر، ج 1)، ص 928.

 [11]  محمد عبده، الأعمال الكاملة (بيروت: المؤسّسة العربيّة للدراسات والنشر، 1972)، ج 3، ص 289.

 [12]  عبد الرحمن الكواكبي، أمّ القرى (بيروت: دار الشروق العربيّ، 1991.(

 [13]  أبو الأعلى المودودي، نظريّة الإسلام وهديه في السياسة والقانون والدستور (بيروت: مؤسّسة الرسالة، 1969)، ص 16 - 18.

 [14]  المصدر نفسه، ص 25.

 [15]  المصدر نفسه، ص 43.

 [16]  أنظر: حسن البنّا، مجموعة رسائل الشهيد حسن البنّا) الإسكندريّة: دار الدعوة، (1990، ص 238.

 [17]  المصدر نفسه، ص 138.

 [18]   سيّد قطب،  العدالة الاجتماعيّة في الإسلام، (القاهرة: دار الشروق، ط 8، (1982، ص 83.

 [19]   المصدر نفسه، الصفحة 154.

 [20]  سورة يوسف، الآية 40.

 [21]  في ظلال القرآن، الجزء 7، ص 725.

 [22]  الترابي 2000،  ص25 -27.

 [23]  الترابي 2000،  ص 25 -27.

 [24]  الغنوشي 1993، ص 47 - 48.

 [25]  الغنوشي 1993، ص 55 - 56.

 [26]  الغنوشي، الشريعة والحياة.

 [27]  يوسف القرضاوي، من فقه الدولة في الإسلام (القاهرة: دار الشروق، 1997)، اص 130.

نُشر في مجلة الآداب اللبنانية