الحب والمغامرة 'في ليلة مظلمة'

رواية النمساوي بيتر هاندكه تكاد يشكل المونولوغ مسارها الدرامي حيث تقف أمام أبعاد وملامح الحياة اللامرئية لتستكشف أعماق الذات وما يتراءى لها في الواقع، ما انعكس في شاعرية اللغة والرغبة الدفينة للانتماء لشيء ما في الطبيعة وهي أيضًا استكشاف لتشرد الفرد في الحياة.

تشكل رواية "في ليلة مظلمة تركت منزلي الصامت" نسيجا متميزا في سياق تجربة الروائي النمساوي الحاصل على جائزة نوبل العام 2019 بيتر هاندكه، حيث يتجلى فيها احتفاءه بالتفاصيل والوصف الدقيق للأماكن وكائنات ومفردات الطبيعة، في مقابل قلة أحداثها وشخصياتها حواراتها، مثلا يتوقف أمام تلك المدينة "تاكسهام" التي تنطلق منها الأحداث، هذه المدينة النائية الواقعة على أطراف مدينة "سالزبورغ"، والتي يصفها الراوي بأنها تكاد تكون منسية ومنعزلة أو على الأقل يمكن الوصول إليها بصعوبة من الأماكن المحيطة بها، ومن الأماكن المجاورة فقط عن طريق خطوط المواصلات المتاحة. بالنسبة للأماكن البعيدة، يصعب الوصول إليها سيرًا على الأقدام أو بالدراجة، وثم يتجاهلها الزوار، لنتعرف نشأتها وأثر هذه النشأة على تركيبتها المكانية والسكانية.

الرواية التي ترجمها للعربية د.معتز المغاوري وصدرت عن دار العربي تحكي عن قصة حب ومغامرة مختلفة. بطل الرواية صيدلي عجوز يعيش في مدينة "تاكسهام"، كانت حياته مع زوجته رتيبة يسودها الملل، حتى التقى شاعرًا مشهورًا، وبطلًا رياضيًا معروفًا في مطعم تحت الأرض، لينطلق معهما في رحلة عبر أوروبا. يمرون من خلال رحلتهم بمغامرات عديدة نتعرف من خلالها على كل شخصية منهم عن قرب. كما نتعرف على تفاصيل الطبيعة حيث يتوقف عند عالم النحل ليتوغل في وصف الخلية وتكوينها أدوار النحل حول الملكة.

إننا أمام رواية تكاد يشكل المونولوغ مسارها الدرامي، حيث تقف أمام أبعاد وملامح الحياة اللامرئية لتستكشف أعماق الذات وما يتراءى لها في الواقع، وقد انعكس ذلك وتجلى في شاعرية اللغة، والرغبة الدفينة للانتماء لشيء ما في الطبيعة، وهي أيضًا استكشاف لتشرد الفرد في الحياة.

يذكر أن بيتر هاندكه الأديب النمساوي الحائز على جائزة نوبل عام 2019 يتميز في أعماله الأدبية بلغة قوية، مبتكرة، معقدة، دقيقة، مليئة بالاستعارات والتشبيهات غير التقليدية. وصفه للأحداث والأماكن ممتع وسينمائي ينقل للقارئ المشهد بدقة فائقة ليشعر أنه مشارك في الأحداث.

مقتطف من الرواية

كان الصيدلي يستيقظ مبكرًا كالمعتاد مع أولى صيحات الغربان، وزوجته ما زالت نائمة في النصف الآخر من المنزل. كانا يعيشان معًا في المنزل نفسه، ولكنهما منفصلان منذ ما يزيد عن عشر سنوات، كل منهما في جزء خاص به. كل منهما يطرق الباب على الآخر. حتى في الحجرات المشتركة؛ مدخل المنزل، القبو والحديقة كانت توجد حوائط فصل مرئية وخفية. وفي الأماكن التي يصعب أن توجد فيها حوائط فصل مثل المطبخ كانا يراعيان فرق التوقيت في وجودهما، وهذا ما يفعلانه منذ أن انفصلا عن بعضهما وتباعدا، حيث يعيشان حياتهما اليومية مع مراعاة فرق التوقيت. حتى وإذا استيقظت الزوجة بشكل تلقائي في موعد استيقاظه نفسه، فإنها ربما تضطر الآن إلى أن تظل مستلقية في السرير. كما أنها تضطر للبقاء داخل المنزل، حين يذهب هو إلى الحديقة. وتضطر للذهاب إلى الحديقة، طالما بقي هو داخل المنزل. وتضطر إلى الذهاب في إجازة بمفردها كما خططت غدًا، لأنه يرغب كما اعتاد كل سنة منذ فترة طويلة أن يقضي يومًا بمفرده في المنزل والحديقة في الصيف.

- لا.

قال الصيدلي:

- لا مشاكل بيننا. حياتنا سلمية تمامًا. هذا النظام نشأ دون تدخل من كلينا، ولا نلاحظه أيضًا على أقصى تقدير حين نستطيع أن نتشارك معًا في نوع من الانسجام لم نعرفه مسبقًا، ونعيش للحظات أشياء مشتركة بشكل مؤقت.

قالت زوجته:

- نعم، بشكل مؤقت. بين الباب ومفصلته، بين النافذة وكرسي الحديقة، بين الشجرة وفتحة القبو.

سألت:

- على سبيل المثال؟

الإجابة من جانبه ومن جانبها:

- دائمًا الصمت.

الإنصات المشترك لحديث الجيران، أو للناس الذين يسيرون خلف السور فوق جسر النهر؛ خاصة حين يبكي طفل في مكان ما، عندما تدوي صافرة عربة الإسعاف، عندما يرى أحدهم من حجرته إشارة الطوارئ تضيء الجبال هناك على الجانب الآخر من الحدود. عندما جَرَف الفيضان بقرة نافقة في الربيع الماضي، عند تساقط الجليد لأول مرة.

- نعم؟ حسنًا. لا أعرف.

أشرقت الشمس.. لا أثر في الحديقة لقطرات الندى بعد الليلة الجافة الدافئة. انعكست أشعتها عن شجرة التفاح؛ درنة صمغية نبتت من جذر هناك وتبدو وكأنها تضيء الآن بفعل شعاع الشمس؛ لتشبه المصباح الصغير. وترتفع طيور السنونو في السماء المعتمة كما يحدث عند الغروب. وحين يفرد أحد الطيور أجنحته عموديًّا فوق الجبال، فإنها ترسل ضوءًا من الأعلى بفعل أشعة الشمس وانعكاسها على ريشها، وكأن الطائر يلعب بضوء الصباح.

 اصطدمت رأسه بلطف بواحدة من التفاح كبير الحجم التي تدلت في مستوى جبهته وكأنه اصطدم بكرة، خرج متوجهًا إلى السد فوق النهر وترك رياح الصباح ورياح الجبل تجرفه. لا أحد غيره في الشارع. والمقاعد الخشبية تحتل - كما هو معتاد في الصيف - مكانًا أكبر من الشاطئ ومجرى النهر، وتمتد بعيدًا على مرمى البصر بين الجبال الجيرية.

فكر الصيدلي في موتاه. وجاء على باله ابنه، لكنه لم يمت. لا، لقد "لفظه". أليست تلك الكلمة قاسية للغاية؟ لماذا لم يهجره فقط، يتجاهله وينساه؟

- لا، لقد لفظته.

قال:

- لقد لفظت ابني.

سبح في النهر البارد وسرت البرودة في عظامه؛ في البداية ضد التيار القوي، ثم ترك نفسه للتيار تحديدًا عند حدود النهر، حيث الحدود مع ألمانيا. شجيرات النهر مرت بسرعة كبيرة كأنها تعدو. غطس الصيدلي برأسه عميقًا تحت الماء، لدرجة أن الحصى الصغير الموجود في قاع النهر دخل في أذنه حيث اصطدم ببعضه وأصدر صوت احتكاك وقعقعة. بدا له أنه يستطيع أن يبقى تحت الماء دائمًا من دون تنفس، وأن الحياة تحت الماء صارت حياته من الآن.

ثم أجبر الصيدلي نفسه على الاتجاه إلى ضفة النهر، قبل الحافة المنحدرة بقليل. شاهد طائرة تهبط من فوق قمم الأشجار ولاحظ خلف نافذة من نوافذ الطائرة وجه طفل. دائمًا ما يرى بهذه الحدة وليس فقط بعد السباحة في النهر الجليدي. هكذا، ربما يبدو الاسم الذي أطلقه أخاه على صيدلية "تاكسهام" مبررًا.

في المنزل، غسل جسده من ماء النهر الرمادي بسبب الجير وشرب القهوة التي أعدت في أثناء السباحة، قهوة "جامايكا بلو ماونتن" وهي أفضل قهوة يستطيع الحصول عليها في تلك الناحية. لا صوت يأتي من الجناح الخاص بزوجته. حقيبة سفرها بالأسفل في مدخل المنزل وفوقها تذكرة طائرة، لكنه لم يلق نظرة عليها. قال:

- كالعادة، وقبل كل رحلة من رحلاتها تخطر ببالي فجأة صورة حقل الفراولة الذي حكت لي عنه ذات مرة، وكان المكان الذي تقضي فيه الصيف وهي طفلة.

هو نفسه كان يسافر كثيرًا في الماضي، تقريبًا في جميع أنحاء العالم، لكنه لم يعد يسافر إلى أي مكان. فهو يشعر هنا كل صباح وكأنه يسافر، أو أنه سافر قبل فترة طويلة، والرحلة تنتقل اليوم إلى محطة جديدة. يقول:

- أردت البقاء هنا، لفترة أطول.

فوق السد المطل على النهر، ترى الآن عبر شجيرات الحديقة أول المارة، وتلاحظهم من ملابسهم الملونة فقط يسيرون اثنين.. اثنين على الطريق الضيق خلف بعضهم (على الناحية الأخرى من الحقول في "تاكسهام" لا يوجد أحد تقريبًا في الطريق، ولا يتجه أحد إلى الحافلة) ويتحدثون بصوت مرتفع، كأنهم يعتقدون أن أصواتهم غير مسموعة.

ومن أحد الأراضي المجاورة، سمع صوت صراخ ثم بكاء طفل، وسمع الأصوات نفسها من منزل على الناحية الأخرى. أنصت واسترق السمع وكان متأكدًا من أن زوجته تقف هناك خلف الباب. أنصتا معًا حتى هدأ البكاء والنحيب على الجانبين، وتحولا إلى حديث ونداء متبادل بأصوات واضحة تتأرجح بسبب الصراخ. كما سمعا أيضًا القطار يمر على الجانب الآخر من ضفة النهر في ألمانيا. نعم، في اتجاه "باد ريشنهال".

في هذا الصباح، أخذ الصيدلي دراجة زوجته، فهي لن تحتاج إليها في الأسابيع القادمة. قاد الدراجة في طريق النهر، طريق يمر عبر السهل الفيضي، ثم انعطف عبر الحقول إلى قرية "زيتسنهايم". على مقبرة هناك، نقش على صخرة لشخص مصلوب لكن من دون صليب - يمكنك إدراك هذا فقط من وضعية الجسد - رأس كبيرة للغاية على جسد قزم وذراعيه منبسطين بعيدًا عن بعضهما، فيما عدا ذلك كان من الصعب رؤية أي شيء آخر، حيث تآكل المكان بفعل عوامل التعرية. أما الأخاديد الموجودة بكتلة الصخور المتجهة إلى الشرق فقد أصبحت الآن في ضوء الصباح أكثر عمقًا ووضوحًا.

كان الصيدلي محقًّا في مواصلة السفر ناحية الشرق في اتجاه الشمس، وهكذا يتجنب أن يكون ظله أمامه؛ فهذا المشهد يزعجه منذ فترة طويلة. انبعثت من الحشائش رائحة جفاف الأسابيع الماضية، كما كانت تنبعث الرائحة نفسها قبل ذلك من النهر ومن النقش الحجري. (ما حكاه عن سالزبورج والأمطار بها كان غير صحيح.) مرت حافلة محلية على الثكنات ذات اللون المموه بمدينة "زيتسنهايم". كانت الحافلة ملونة ومزخرفة من أجل المهرجانات لتبدو وكأنها جزء من واجهات المباني المموهة. وظل طائرة على الأرض يبدو مثل رموش ترجف.

عند انعطافه إلى القرية المحاطة بسياج، أو كما يطلق عليها سرًّا "الجزيرة المفقودة"، ألقيت عليه التحية بضع مرات متتالية وهذا نادرًا ما يحدث هناك، من ممشى "ليندبرج" إلى شارع "ليلينتال" ذي الأشجار. إلقاء التحية كان بمنزلة مفاجأة للمارة. حتى اتضح للصيدلي أن إلقاء التحية موجه إلى الدراجة الثقيلة المعروفة محليًّا، والتي يعود إنتاجها إلى فترة ما قبل الحرب. كانت الدراجة مرتبطة في الحياة اليومية بزوجته الصيدلانية (كانت صيدلانية مثل جميع أفراد العائلة باستثناء الابن).

يعمل في الصيدلية سيدة عجوز ورجل شاب، يكاد يكون طفلًا - كانت السيدة والدته، وكان العمل في الصيدلة تقليدًا في عائلتهما أيضًا - انتظرا في البراري وسط القرية، ثم اتجها كالعادة في الوقت المحدد إلى الصيدلية وجلسا أمام مدخلها المغلق بالقضبان.. الطقس معتدل. كانا قد جاءا قبل سنوات كثيرة بصفتهما لاجئين فارين من الحرب الأهلية في الجنوب. أحضرا معهما من هناك لعنة العدو، لدرجة أن الصيدلية صارت ملجأهما الوحيد.

للصيدلي ابنة تعمل معه منذ فترة قصيرة؛ منذ نهاية دراستها، لكي تقضي فترة الصيف مع صديقها الذي كان صيدليًّا أيضًا، بالإضافة إلى كونه عالم فيزياء، حيث إنه غادر الجزيرة المفقودة وانتقل إلى جزيرة أخرى.

بدا له عند مغادرتها أنها ذاهبة على مضض ولأول مرة تقلق بشأنه بشكل ملحوظ. في حين كان غيابها أو غياب الأشخاص القريبين منه - كما يعتقد - يحميه ويلزمه كذلك بأن يفعل كل شيء، أو أن يعيش بهدوء ومن دون قلق ويستمتع بالتنقل وبالجزيرة وبسعادته، كأن الطرف الآخر يمكن أن يظل غائبًا لفترة طويلة.

قال إن غياب المقربين منه - الصيدلي ليس لديه أصدقاء، أو لا يمكنني تخيلهم على الأقل - كان يسبب له صدمة إضافية. أضاف:

- إذا كان بيدي أن أضع قانونًا للحياة أو للتقاليد كأن أهلك الغائبين - أهلك بالمفهوم الأشمل - تحدث لهم أشياء طيبة من دونك، ويمكن أن يبقوا بعيدين عنك للأبد.

- وحين لا يكون أحد من أهلك غائبًا؟

- دائمًا ما يكون أحدهم غائبًا.