الاحتجاجات في إيران تتحول إلى تمرد على النظام الديني
باريس - يقول محللون إن الاحتجاجات التي تشهدها إيران حاليا تطرح تحديا للنظام الديني بقيادة آية الله علي خامنئي (83 عاما) الذي يحكم قبضته على السلطة منذ وفاة الخميني قائد الثورة الإسلامية التي أطاحت بنظام الشاه في 1979.
وكانت إيران شهدت "الحركة الخضراء" في عام 2009 بعد انتخابات مثيرة للجدل، ثم تظاهرات في 2018 وأخرى في نوفمبر/تشرين الثاني 2019 بعد ارتفاع أسعار البنزين والتضخم العام.
وفي علامة فارقة في تاريخ الاحتجاجات التي شهدتها إيران، أشعلت النساء النار بحجابهن والمتظاهرون بصور رجال الدين بينها صور لخامنئي ولقائد فيلق القدس السابق الجنرال قاسم سليماني الذي قتل في غارة أميركية مطلع العام 2020 في بغداد.
ويبدو أن التظاهرات التي اتسعت رقعتها في إيران تكسر المحرمات وتضع النظام الإسلامي القائم في طهران أمام تحد غير مسبوق.
وأثارت وفاة مهسا أميني البالغة من العمر 22 عاما والمتحدرة من إقليم كردستان (شمال غرب البلاد) بعد اعتقالها من قبل شرطة الأخلاق، موجة احتجاج جديدة في بلد تخضع فيه المعارضة لضغوط كبرى.
وقال علي فتح الله نجاد الخبير في الشأن الإيراني في جامعة بيروت "هذه أكبر احتجاجات منذ نوفمبر 2019. التحركات الوطنية السابقة كانت تقودها الطبقات العاملة وأثارها تدهور الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية، لكن الشرارة هذه المرة كانت اجتماعية-ثقافية وسياسية"، مضيفا "لم يتوقع النظام أن يؤدي اعتقال مواطنة ووفاتها إلى إثارة انتفاضة وطنية".
والأكثر دهشة هو أن التمرد يأتي من النساء. وقال الكسندر غرينبرغ المحلل في معهد أمن وإستراتيجية القدس "إنهن الضحايا ومن الطبيعي أن يقمن بالاحتجاج. والأهم من ذلك هو أن الرجال يدعموهن"، مشيرا إلى تزايد "علمنة" المجتمع.
وتابع "كما أن ذلك يقلق المتدينين الإصلاحيين. إنهم يدركون أن النتيجة ستكون أن الشعب سينتهي به الأمر إلى كره الإسلام والدين".
وكانت مهسا أميني في طهران مع أسرتها الأسبوع الماضي عندما اعتقلتها شرطة الأخلاق لانتهاكها قواعد اللباس المطبق منذ الثورة الإسلامية عام 1979.
ودخلت في غيبوبة بعد وقت قصير من اعتقالها وتوفيت متأثرة بجروحها الجمعة. ويؤكد النشطاء أنها تعرضت لسوء معاملة أثناء الاحتجاز وربما أصيبت في رأسها. وأثار هذا السيناريو الذي لم تؤكده السلطات ضجة كبيرة وأدى إلى احتجاجات عنيفة.
وبالنسبة لعلي فتح الله نجاد تمثل الحركة الحالية قطيعة مزدوجة مقارنة بحركة عام 2009 التي تميزت بمطالب سياسية للطبقة الوسطى وبمطالب عام 2019 التي أثارها غضب الفئات الشعبية. وقال إن "الظروف الحالية في إيران تشير إلى اتجاه لتوحيد المجموعتين".
المرة الأخيرة التي قطع فيها النظام الإيراني الانترنت تم قتل أكثر من 1500 شخص
وتأتي التظاهرات أيضا في وقت حساس للغاية بالنسبة للنظام الذي أضعفته العقوبات الاقتصادية الدولية المرتبطة ببرنامجه النووي. والمفاوضات للعودة إلى اتفاقية فيينا لعام 2015 والمعروفة باسم "خطة العمل المشتركة الشاملة" الشرط الأساسي لرفع العقوبات، في طريق مسدود منذ عدة أشهر.
وبين الشعارات التي رددها المتظاهرون "الموت للدكتاتور" والعديد من التصريحات المناهضة للنظام، فيما برزت صرخة التجمع "امرأة، حياة، حرية".
وأظهرت لقطات غير مسبوقة متظاهرين يضرمون النار في صورة القائد السابق لفيلق القدس في الحرس الثوري قاسم سليماني، أحد رموز النظام الذي تحول إلى شخصية أسطورية منذ اغتياله في العراق في يناير/كانون الثاني 2020.
كما قاوم النشطاء قوات الأمن بحيث رفضت النساء ارتداء الحجاب بينما أحرقت سيارات الشرطة.
وقُتل ما لا يقل عن 31 شخصا، وفقا لحصيلة نشرتها الخميس منظمة حقوق الإنسان الإيرانية غير الحكومية ومقرها أوسلو، مما أثار مخاوف من حملة قمع شرسة مماثلة لتلك التي حدثت في عام 2019 والتي خلفت 321 قتيلا خلال أسبوع بحسب منظمة العفو الدولية.
وقال دبلوماسي أوروبي "أعتقد أنه سيكون هناك تشدد في النظام، سيدفعهم ذلك أيضا إلى عدم إظهار أي مرونة بشأن خطة العمل الشاملة المشتركة"، مضيفا "هذه التظاهرات ستعرض استمرارية النظام للخطر، ففي نوفمبر/تشرين الثاني 2019 لم يترددوا في إطلاق النار على المحتجين ولا أرى ما سيردعهم هذا العام".
وكالعادة حجبت السلطات الوصول إلى الإنترنت لمنع نشر الصور والدعوات إلى التظاهر. ويقول موقع 'نتبلوكس' ومقره لندن الذي يراقب عمليات حجب الإنترنت في جميع أنحاء العالم، إن قيودا فرضت للوصول إلى تطبيق انستغرام موقع التواصل الاجتماعي الرئيسي الوحيد المتاح في إيران.
وحذرت الممثلة السينمائية والتلفزيونية الإيرانية، فلاماك جنيدي، من قطع السلطات للانترنت وكتبت على إنستغرام "شعب إيران بحاجة إلى المساعدة"، مضيفة "المرة الأخيرة التي فعلوها (النظام الإيراني) تم قتل أكثر من 1500 شخص".
وقالت مديرة منظمة المادة 18 مكتب شمال إفريقيا والشرق الأوسط للدفاع عن حرية التعبير سلوى الغزواني إن رد فعل النظام "هو نفسه في كل مرة.عدد لا يحصى من حالات الوفاة أثناء الاحتجاز وقتل المتظاهرين وغيرها من الانتهاكات والجرائم الصارخة".
وأضافت أن "هذا الأمر يعكس تفاقم الإفلات من العقاب في البلاد واللجوء إلى مستويات أعلى من العنف لقمع الانتقادات والاحتجاجات".
وانتقدت دول غربية قمع إيران للاحتجاجات وعبرت عن دعمها وتضامنها مع المتظاهرين.
ونددت وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك الخميس بـ"الهجوم الوحشي على النساء الشجاعات" اللواتي يتظاهرن منذ أيام عدة في إيران، معتبرة أن قمع التظاهرات يشكل "تعرضا للإنسانية".
وقالت الوزيرة على هامش الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك إن "الهجوم الوحشي على النساء الشجاعات هو تعرض للإنسانية"، مضيفة أن ألمانيا تعتزم رفع "هذا الانتهاك لحقوق النساء وتاليا لحقوق الإنسان أمام مجلس حقوق الإنسان في الأمم المتحدة".
خلع إيرانيات حجابهن وإحراقه.. السبب هو أن الحجاب أصبح رمزا للجمهورية الإسلامية... ليس لأن لديهنّ مشكلة مع قطعة القماش بل لأنها ترمز إلى القمع الذي يتعرّضن له منذ 43 عاما
وأعلنت وزارة الخزانة الأميركية الخميس في بيان على موقعها على الإنترنت أن الولايات المتحدة فرضت عقوبات جديدة تتعلق بإيران وتستهدف بالتحديد شرطة الأخلاق ومسؤولين أمنيين في طهران.
وتأتي العقوبات بعد يوم من انتقادات شديدة اللهجة وجهتها واشنطن للسلطات الإيرانية عقب وفاة مهسا أميني وعقب حملة القمع التي خلفت عشرات القتلى في صفوف المحتجين.
وكان الرئيس الأميركي جو بايدن قد عبر أمس الأربعاء عن تضامن الشعب الأميركي مع نساء إيران في احتجاجاتهن ضد انتهاك حقوقهن.
وقد تشكّل الاحتجاجات التي تشهدها إيران على خلفية مقتل مهسا أميني مؤشرا يدل على "تغيير كبير"، وفق محمود أميري مقدّم، مدير منظمة "حقوق الإنسان في إيران" غير الحكومية ومقرها أوسلو.
وقال أميري مقدّم إنه لم يشهد خلال 15 عاما من تتبّع الاحتجاجات وأوضاع حقوق الإنسان في إيران، غضبا كالسائد حاليا.
وقال في تصريح لوكالة فرانس برس بالإنكليزية "يبدو أنهم باتوا لا يخافون. أعتقد أن جريمة قتل مهسا كانت القطرة التي جعلت الإناء يفيض، لذا قد يكون الأمر بداية تغيير كبير".
وتابع "ما لم يعرب المجتمع الدولي عن دعمه الصريح لمطالب الشعب الإيراني الذي يطالب بحياة طبيعية، أخشى أن كثرا سيُقتلون".
بحسب أميري مقدّم "ما نعرفه على وجه اليقين، وما أقرّت السلطات به، هو أن شرطة الأخلاق أوقفت مهسا" التي بحسب عائلتها كانت بصحة جيّدة عندما تم توقيفها، مضيفا "بعد ساعات، تم نقلها إلى المستشفى وهي بحالة غيبوبة. لذا بغض النظر عمّا جرى، المسؤولية ملقاة على عاتق السلطات الإيرانية وشرطة الأخلاق".
وتعتقد منظمة "حقوق الإنسان في إيران" أن "الأدلة تبيّن أنها تعرّضت لعنف شديد وذلك فقط لأن السلطات تقول إنها لم تكن تغطي نفسها".
أظهرت تسجيلات فيديو تم تداولها على شبكات التواصل الاجتماعي أن بعضا من المتظاهرات خلعن حجابهن وعمدن إلى حرقه.
وعلق أميري مقدّم على قيام إيرانيات بخلع حجابهن وإحراقه بالقول "السبب هو أن الحجاب أصبح رمزا للجمهورية الإسلامية... شاهدنا صورا كثيرة لفتيات يخلعن حجابهن ويعمدن إلى حرقه"، مضيفا "ليس لأن لديهنّ مشكلة مع قطعة القماش بل لأنها ترمز إلى القمع الذي يتعرّضن له منذ 43 عاما".
وقال أميري مقدّم "التاريخ يبيّن أن ما من دكتاتور يمكنه أن يبقي نظامه قائما إلى الأبد"، موضحا أن "السؤال المطروح ليس هل سينتهي زمن هذه السلطات بل متى ينتهي زمنها".
وشدّد على وجوب أن يدعم المجتمع الدولي المحتجين. وقال "إنهم يستخدمون وسائل سلمية". وأضاف "على الرغم من غضبهن ما يفعلنه هو حرق حجابهن والهتاف +يسقط الدكتاتور+".
لكن أميري محمدّ أشار إلى صعوبة التكهن بكيفية تطوّر الأوضاع. وقال "لا نعلم ماذا سيحصل خلال بضعة أشهر أو عام. إذا تمكّنت السلطات من قمع هذه الاحتجاجات بعنف، لا أعلم ما الذي قد تفعله السلطات إذا اندلعت احتجاجات جديدة"، مضيفا "أعتقد أنه ليس من الصائب فقط بل من الحكمة أيضا الدفع باتّجاه تغيير جذري وتظهير الدعم للشعب الإيراني والدفع باتجّاه عملية انتقالية سلمية".