الخلايلي: "حرب الكلب الثانية" تندرج تحت أدب الدّيستوبيا

الباحثة اللبنانية منى محمود الخلايلي قدمت دراسة عميقة وكاشفة في رواية الروائي والشاعر الفلسطيني إبراهيم نصر الله "حرب الكلب الثانية"،
شّخصيّة "راشد"، كانت مهيّأة للتحوّل بسبب نشأتها وتربيتها الحزبيّة الصّارمة
الباحثة اعتمدت المنهج السّيميائي

قدمت الباحثة اللبنانية منى محمود الخلايلي دراسة عميقة وكاشفة في رواية الروائي والشاعر الفلسطيني إبراهيم نصر الله "حرب الكلب الثانية"، وهي الرواية التي فازت بالجائزة العالمية للرواية العربية "البوكر" عام 2018، والتي كشف فيها نزعة التوحّش التي تسود المجتمعات والنماذج البشرية واستشراء النزعة المادية بعيدًا عن القيم الخلقية والإنسانية، فيغدو كل شٓيْءٓ مباحًا حتى المتاجرة بمصير الناس وأرواحهم. وتدخل ضمن مشروعه الرّوائي "الشّرفات". حيث يحاول نصر الله في هذه الرّواية أن يقرأ المستقبل من خلال الماضي، فحروب الماضي كانت تُشنّ بسبب الاختلاف، أمّا هذه الحرب فكانت للقضاء على الأشباه.
عنونت خلايلي دراستها التي نالت بها أخيرا درجة الماستر في اللغة العربية وآدابها من الجمعة اللبنانية بـ "الدّيستوبيا وتحوّلات الشّخصيّة الرّئيسة في رواية حرب الكلب الثّانية لإبراهيم نصر الله". لافتة إلى أن أدب "الدّيستوبيا" هو أدب المدينة الفاسدة، ويعَدّ أحد الأنواع الأدبيّة المندرجة تحت أدب الخيال العلمي. والمجتمع في أدب المدينة الفاسدة.
 تدور أحداث رواية إبراهيم نصر الله "حرب الكلب الثّانية"، موضوع الدراسة، في عالم المستقبل، وهي بقدر ما تتأمّل حالاً عربيًّا، تتأمّل أحوال البشر في كلّ مكان، في زمنٍ لم يعد فيه الإنسان قادرًا على التّمييز ما إذا كان الإنسان الذي يقف مقابله هو شبيهه أم قاتله.

الكاتب استطاع عبر الرواية أن يوصل للقارئ عدّة أفكار تخصّ القضايا الوجوديّة، وقد استخدم في سبيل ذلك عدّة أدوات منها المرآة التي وضعها أمام القارئ وجهًا لوجه

وأكدت الخلايلي أن الرّواية تظهر تحوّلات المجتمع وتشوّهاته من خلال التّركيز على الشّخصيّة الرّئيسة وتحوّلاتها بين قطبين متقابلين، من مُعارِض إلى متطرّف فاسد، ومن مُلتزم بقضايا البشر إلى مدير التّجارة بالبشر. وتكشف الرّواية نزعة التّوحّش التي تسود المجتمعات والنّماذج البشريّة واستشراء النّزعة المادّية بعيدًا عن القيم الخُلُقيّة والإنسانيّة. ومن هنا تظهر أهميّة الموضوع كونه يتناول مسائل وجوديّة تحاول الرّواية إيصالها من خلال الشّخصيّة الرّئيسة وشدّ الانتباه إليها وإلى تحوّلاتها، وذلك باستخدام خصائص الدّيستوبيا التي تُعدّ جديدة في العالم العربي إلى حدٍّ ما. 
وحول دوافع اختيارها للرواية، قالت إن هناك "دوافع ذاتيّة ودوافع علميّة، فالذّاتيّة تتجلّى في الرّغبة في التّحليل وسبر أغوار الرّواية والشّخصيّة الرّئيسة فيها، خاصّةً بعد مناقشة الرّواية مع الكاتب إبراهيم نصر الله في إحدى المؤسسات الثّقافيّة. أمّا الدّوافع العلميّة فقد تمثّلت في كون الرّواية تحتوي خصائص أدبيّة مميّزة، كما أنّ الشّخصيّة الرّئيسة فيها لافتة وتستحقّ الدّراسة. أضف إلى ذلك أنّ الدّراسات النّقديّة حول موضوع "الّديستوبيا" ما زالت قليلة وخجولة في العالم العربي. 
طرحت الخلايلي في دراستها سؤالاً محوريًّا هو: كيف تحوّلت الشّخصيّة الرّئيسة في رواية "حرب الكلب الثّانية"؟ ومنه تتفرّع عدّة أسئلة: إلى أيّ مدى ظهرت خصائص الدّيستوبيا في رواية "حرب الكلب الثّانية"؟ ما التّحوّلات المحوريّة التي بدت على الشّخصيّة الرّئيسة؟ ما العوامل التي ساهمت في التّحوّل؟ كيف وظّف إبراهيم نصر الله اللغّة في إظهار خصائص الدّيستوبيا؟ 
اعتمدت المنهج السّيميائي. والسّيميائيّةُ مؤكدة إنها اختارته نظرًا للأهميّة التي يعطيها لفهم الدّلالات وتأويلها، ولأنه يتيح تحليل الشّخصيّة الرّوائيّة ودرس علاقاتها بعناصر السّرد للولوج إلى عمقها وفهم تحوّلاتها ضمن إطار الرّواية الدّيستوبيّة. 

novel
السّؤال الوجودي 

الدّراسة جاءت في مقدّمة وفصلين وخاتمة. شملت المقدّمة عرض موضوع الدّراسة وأهميّته، ودوافع اختياره، ثمّ عرض الإشكاليّة والفرضيّات والمنهج المعتمد في البحث، أضف إلى ذلك تقييم المدوّنة ونقد بعض المصادر والمراجع، وأخيرًا عرض خطّة الدّراسة. الفصل الأوّل "الديستوبيا والبناء الفنّي في رواية "حرب الكلب الثّانية"، بدأته بتمهيد ثمّ قسّمت هذا الفصل إلى ثلاثة مباحث: الأوّل "العتبات النّصيّة" وفيه درست الغلاف الخارجي والصّورة والعنوان والتّصدير والمقدّمة بالإضافة إلى كلمة النّاشر والعناوين الدّاخلية. 
أمّا المبحث الثّاني "الدّيستوبيا وخصائصها" فبدأت فيه بتعريف أدب الدّيستوبيا والخيال العلمي وأنواعه، ثمّ عدّدت خصائص الدّيستوبيا وأبرز الرّوايات الغربيّة والعربيّة حولها، ثمّ درست الخصائص الدّيستوبيّة البارزة في رواية "حرب الكلب الثّانية". 
والمبحث الثّالث "عناصر السّرد الرّوائي" درست فيه الزّمان والمكان والشّخصيّات والأحداث البارزة في الرّواية، إضافةً إلى الرّاوي ونوعه. ثمّ وضعت استنتاجًا في نهاية الفصل، يلخّص أبرز النّتائج التي توصّلت اليها، ويربط الفصل الأوّل بالفصل الثّاني.
الفصل الثّاني "الشّخصيّة الرّئيسة: أبعادها وتحوّلاتها وطرق تقديمها لغةً وأسلوبًا" بدأته بتمهيد ثمّ قسّمته إلى مبحثين: الأوّل وقد قسّمته إلى جزئين، الأوّل "أبعاد الشّخصيّة الرّئيسة في رواية حرب الكلب الثّانية"، وفيه درست البُعد الجسمي، ثمّ البُعد الاجتماعي، فالبُعد الفكري، ثم التّكوين النّفسي، وأخيرًا الجانب الانفعالي الوجداني، 
وفي هذا الجزء تعمّقت بأبعاد الشّخصيّة والأسباب الخاصّة التي قد تكون ساهمت ودفعت الشّخصيّة نحو التّحوّل. أمّا الجزء الثّاني "طرق تحوّل الشّخصيّة الرّئيسة في رواية حرب الكلب الثّانية" ففيه درست بدايةً خطّة التّحوّل وفصّلتها بـ "الغاية – الدّوافع - الوسائل"، ثمّ درست علاقة الشّخصيّة الرّئيسة بشخصيّات الرّواية، كما رصدت الصّفات التي لازمت الشّخصيّة الرّئيسة ولم يطلها التّحول. المبحث الثّاني "طرق تقديم الشّخصيّة الرّئيسة لغةً وأسلوبًا" ودرست فيه أوّلاً النّسيج اللغّوي ثم درست فيه ثانيًا أسلوب السّخرية في الرّواية والتناص، وأسلوب عرض القضايا الوجوديّة.
وانتهت الخلايلي بعد دراسة الرّواية والغوص في أعماقها، وسبر أغوار الشّخصيّة الرّئيسة وتحوّلاتها، إلى عدد من النّتائج، من أبرزها:
ـ استخدم نصر الله العتبات النّصيّة من عنوانٍ وغلاف وصورة ومقدّمة وتصدير، كما استخدم عناصر الرّواية من زمان ومكان وشخصيّات وأحداث، ووظّف كل ذلك لخدمة الشّخصيّة الرّئيسة "راشد"، التي بدت المحورَ الرّئيس، وكأنّ كلَّ ما في الرّواية يدور في فلك هذه الشّخصيّة ومصنوعٌ من أجل خدمتها. 
ـ تندرج الدّيستوبيا تحت مظلّة أدب الخيال العلمي، وقد وظّف نصر الله الخيال العلميّ السّياسي في الرّواية، وقد تجلّى ذلك من خلال استخدام عدّة ثيمات، كانتقاد السياسات المستبدّة والظّالمة، والتّقلّبات الاجتماعيّة والعنف وغيرها. وقد هدف نصر الله من خلال استخدام الخيال العلمي والدّيستوبيا إلى الإنذار والتّحذير من خطر السّياسات القمعيّة التي تمارسها السّلطات الحاكمة، والخطر من استخدام بعض الاكتشافات العلميّة التي قد تتسبّب بكوارث اجتماعيّة، فضلاً عن التّطرّف والعِداء الذي يكنّه الانسان لأخيه الإنسان بسبب الاختلاف أو حتّى التّشابه. 
ـ ظهرت العديد من خصائص أدب الدّيستوبيا في الرّواية، وقد استخدمها نصر الله لرسم ملامح العالَم واستشراف المستقبل القريب القاتم، في ظلّ وجود شخصيّات كراشد في المجتمع. وقد ساهمت خصائص الدّيستوبيا في تحوّل الشّخصية الرّئيسة، ثمّ انعكست تحوّلات الشّخصيّة على المدينة، فزاد فسادها وزادت قتامتها إلى أن تفجّرت الأوضاع وبدأت الحرب التي كان راشد هو من أشعل شرارتَها الأولى.
ـ من أبرز خصائص الدّيستوبيا في الرّواية نجد: المرض- السّلطة القمعيّة التي تمثّلت في القلاع - الكوارث البيئيّة كاختلاط الفصول وشحّ المواد الأساسيّة - الفوضى والخراب وقد تطوّرت إلى القتل - الطّفرة العلميّة والتّكنولوجيّة ـ التّجرّد من الإنسانيّة والتي تمثّلت بالإتجار بالبشر عبر مشاريع أسرى الأمل (1-2). ما يوصل إلى رسمٍ متكاملٍ لمدينةٍ فاسدة.
ـ عبّر نصر الله من خلال اللغة عن عمق الرؤّية في هذه الرّواية، فاستطاعت اللّغة الرّبط بين الذّات المبدعة والذات المتلقّية، فاتحةً آفاقًا واسعةً للقراءة وتحليل الدّلالات. أمّا أسلوب السّخرية فقد وظّفه إبراهيم نصر الله لتعرية حقيقة الإنسان المتوحّشة، والمجتمعات الهشّة، والسّلطات القمعيّة الحاكمة. كما كسر من خلال هذا الأسلوب سوداويّة الرّواية وقتامةَ زواياها. 
ـ بالنّسبة إلى الشّخصيّة الرّئيسة "راشد"، فقد كانت مهيّأة للتحوّل بسبب نشأتها وتربيتها الحزبيّة الصّارمة التي التقت مع سياسة القمع والسّجن والتّعذيب، أضف إلى ذلك التّحوّلات في العالم والانقلاب في المعتقدات، فضلاً عن خضوعها لتأثير بعض الشّخصيّات في الرّواية، كل تلك المكوّنات دفعت راشد للاتّجاه نحو التّحوّل. فراشد لم يجد طريقةً لتفريغ القمع والضّعف والذّل إلا من خلال "التّماهي بالمتسلِّط" كحالة نفسيّة لجأ إليها من دون وعيٍ بذلك، فرمى بنفسه في أحضان السّلطة وأخذ يمارس دورَها بتسلُّطِه على من هو أضعف منه.
ـ تحوُّلُ راشد جاء على شكلٍ هرمي، فقد تحوّل من مُعارِض للسّلطة القمعيّة - سجين - مُلتزم بقضايا البشر، إلى مدير تجارة البشر- سجّان – موالٍ للسّلطة القمعيّة.

ـ حافظ راشد على بعض الصّفات التي لازمته قبل فترة تحوّله وبعدها، وهي تتمثّل في الخط الأفقي الذي يشكّل قاعدة الهرم الثّابتة. 
ـ ما أن وصل راشد لقمّة الهرم، القمّة التي قامت على أمراض البشر وأرواحهم، حتّى بدأ بالانهيار الذي بات ككرة ثلجٍ كبرت في انحدارها نحو الهاوية، حتى ارتطمت بأوّل جدار، فجرف معه المدينة بأسرها وأطلق أوّل شرارة لحرب الكلب الثّانية. 
أيضا كشفت الخلايلي عن تعمد نصر الله إلى تضمين الشّخصيّة الرّئيسة عددًا من الرّسائل للمتلقّي، سواءً من خلال أبعاده، أو تحوّلاته، أو آرائه:
ـ راشد يمثّل الإنسان المتطرّف بمعتقداته، ومن هنا يعمد نصر الله إلى إيصال رسالة مفادها أنّ الإنسان المتطرّف هو أقرب للانقلاب من المعتدل، فهو سرعان ما يتحوّل إلى نقيضه، وهذا ما حصل مع راشد. وبذلك يكون قد حقّق نبوءة الضّابط الكبير الذي أدرك طبيعة تحوّله في بداية الرّواية.
ـ راشد يمثّل الإنسان المقموع المقهور، ومن خلال هذه الفكرة يوصل نصر الله رسالةً للدّول والسّلطات بشكلٍ عام والعربيّة منها بشكلٍ خاص، أنّ العنف والقمع يؤدّيان إلى زيادة التّطرّف. فراشد الذي دخل السّجن أوّل مرّة متطرّفًا، نجده يُشعل فتيل حرب الكلب الثّانية، ولا يزيده ذلك إلا تطرّفًا حيث يظهر في نهاية الرّواية كرجلٍ "داعشيّ" جاهز لإشعال حرب الكلب الثّالثة. ومن هنا فالمتطرّف لا يعالجه السّجنُ ولو كان لفترة طويلة، بل يعالجه إلى جانب السّجن رعاية نفسيّة وتوعويّة لحلحلة تطرّفه وفكّ عُقده.
ـ راشد يمثّل الإنسان في كلّ زمانٍ ومكان، الإنسان الذي لطالما ادّعى أنّه الضّحيّة، وأنّ ما يحدث له من مصائب هو بسبب "التّاريخ الذي يكرّر نفسه" أو بسبب "الآخر المختلف" من دون أن يعترف أنّه العدوّ الأول لنفسه وللطّبيعة ولكلّ شكلٍ من أشكال الحياة. ويُظهِر نصر الله من خلال راشد قدرةَ البشر على إبادة بعضهم البعض بسبب اختلافهم، وإبادة بعضهم بعضًا بسبب تشابههم، وإبادة بعضهم البعض بسبب تاريخهم، وإبادة بعضهم البعض حتى بعد محوِ ماضيهم وذاكرتهم السّوداء.
وختمت الخلايلي مؤكدة أن نصر الله استطاع عبر الرواية أن يوصل للقارئ عدّة أفكار تخصّ القضايا الوجوديّة، وقد استخدم في سبيل ذلك عدّة أدوات منها المرآة التي وضعها أمام القارئ وجهًا لوجه وطلب منه التّحديق فيها لإعادة النّظر في النظرة بين الإنسان وذاته وبين الإنسان والآخر. كما استخدم كلمة "بدأت!" في نهاية الرّواية للدّلالة على استمراريّة الحروب التي تمسّك بها الإنسان أيًّا كان مستواه الثّقافي وأيًّا كانت الطّبقة الاجتماعيّة التي ينتمي إليها. وجاء السّؤال الوجودي الذّي يمثّل صرخة الرّواية "على أحدهم أن يقول لنا بوضوح ما الذي يريده الإنسان!" على لسان راشد وهو من أفسد شخصّيات الرّواية ليدلّ على أن الإنسان يخرّب ويملأ الأرض فسادًا، ثمّ يبدأ بالتّلفّظ ببعض الحكم والأسئلة كأنّه ملاك بريء لم يكن سببًا لأيّ خراب من قبل.