الخِطَابُ الدِّينيُّ الإسلامي: جدل التجديد

النِّظامَ التَّربَويَّ بمؤسَّساتِه المختلفةِ تتحمل المسؤوليَّة والأمَانَة والعبء الأكبر تجاه إعداد الشَّبابِ المُسلم للحَياةِ الآنيَةِ، وللمُستَقبل الآتِي، وما يصَاحب هذا المستقبل من تَطَورٍ عِلميٍّ وتقنيٍّ وحضاريٍّ، وبما يمكِّن هذا الشَّباب من مُواجَهةِ التَّحدِّياتِ والعقَباتِ المحتَملة.

بقلم: بليغ حمدي إسماعيل

  تَحْتَاجُ مُجْتَمعَاتُنا العَربِيَّة والإسْلامِيَّة إلى خٍطابٍ إسْلاميٍّ جَدِيدٍ، ولَيسَ مُجرَّد التَّطْوِيرِ في مَظهَرِهِ القَائِمِ على فِكرةِ الطِّلاءِ الخَارِجيِّ، وإنَّما يَتَطلَّب فِعل التَجْدِيدِ تَغييرا نَوعِيًّا في بنيَةِ الخِطَابِ وأولَويَّاتِه، ومَوضُوعَاته، ومن ثمَّ إعادة صيَاغَةِ أطروحَاتِه، وتَجْدِيد وتحديثِ تقنياتِ هذا الخِطَابِ ووسَائِله، والأهم مِن ذَلك تَطويرِ قُدراتِ حَامِلي هذا الخِطَاب ومُنتِجيه أيضًا؛ من أجلِ تَلبيةِ احتياجَات الفَردِ والمجتمعِ في ظلِّ الظُّروفِ الآنيَةِ، والإحْدَاثيَّات المُتسَارعَةِ الرَّاهنةِ، واستجَابة للتَّحدِّياتِ التي تُواجه المجتَمعَات العَربيَّة، في سِياقِ حَركةِ تفاعلِها مع مَا يَجري حَولها وفق مُعطَياتِ التَّثِويرِ التُّكنُولُوجيِّ من نَاحية، والتَّوَجُّهَات المَعْرِفِيَّة المُعاصِرَة من نَاحيةٍ أخرَى .

دَعتْ الحَاجَة إلى خِطَابٍ دينيٍّ بنَائيٍّ وليس إنشَائيًّا؛ يدفع حَركةَ المجتمعِ عبر الفَرزِ بين قِيمِ التَّحلِّي وقِيمِ التَّخلِّي، ويَسْعى ـ هَذا الخِطَابُ الدينيُّ ـ إلى إدْرَاك سُنَنِ التَّغيير الحَضَاريِّ، بحيث يعيد للإنسَانِ المسلمِ دوره وفَاعلِيته وحُضُوره في حَرَكةِ المجتمعِ، وهَذا الخِطَابُ يَنبغي أن ينبعَ أولا من طَبيعَةِ الإسْلامِ الذي يَنطَوِي على دَعوةٍ مستدامةٍ إلى التَجْدِيد ، والتَجْدِيد لا يَعني تَغيير جَوهَرِ الدِّينِ أو أصُولِهِ، وإنَّما يعني إعَادته إلى النَّقَاءِ الذي كَان عليه يوم نَشْأتِه ؛ حيث الأصَالَة الفِكرِيَّة لأركَانِهِ وثَوابتِه، عن طَرِيقِ تَجْدِيد الإيمَانِ به والالتِزَام بِتعالِيمِه الصَّحِيحَةِ بعيدًا عمَّا قد يعتريها من لغَطٍ وشَوائِب، فضلا عن قُدرتِه عَلى استِيعابِ مُستجداتِ العَصرِ وتَوجهَاته المَعْرِفِيَّة المعاصِرة، وما تحمله من قَضَايَا لم تكن معروفةً من قبل، وهي بذلك بحاجَةٍ إلى بيانٍ وتوضيحِ موقفِ الدِّين منهَا .

 لا شَك أنَّ قضيةَ تَجْدِيد الخطَابِ الدينيِّ تَحتل أهمِّيةً بَالغةً في وقتِنَا الرَّاهن؛ نَتيجة لما يَرتبط بهذا الخطاب من التباسٍ، وبما يكتنف بعضه من غُموضٍ قد يخرجه ـ أحيانا ـ عن جادةِ الصَّوابِ، من قبل فريقٍ يسعى جاهدا بأدَواتٍ فقيرةٍ استغلال قَضية تَجْدِيد الخِطَابِ الدِّينيِّ للعبث بأصُولِ الدِّين وثوابتِه وأعمدته الرَّئيسَة، وفي مُقابل هذا الفَريق نَرى فريقًا آخر يجلس على الشَّاطِئ المقابل يرى أنَّ أية محاولةٍ لفتحِ بابِ التَجْدِيد هو خُرُوج عَن الإسلامِ ويَجب مُقاومته والتَّصَدِّي له.

أدى ذلك كله إلى ظُهورِ تيارين في ظلِّ تصاعد الحَديث عن قَضيةِ تَجْدِيد الفِكرِ الدِّينيِّ ؛ أحدهما يرفض الإصلاحَ عامة، واختار طَواعيَةً طريقَ العُنفِ والتَّطرُّفِ والإرهَابِ، فقدَّم بذلك صُورَة سَلبيَّة ومسيئة عن الإسلامِ، والآخر تيار إصلاحِي وسطي يسعى إلى تَقديمِ خطابٍ دينيٍّ يؤكد على إعمَالِ العقلِ، والتَجْدِيد المستدام وموافقة التَّغييراتِ المعاصرةِ، ويَجعل من تَجْدِيد الخِطابِ الدِّينيِّ حتميةً وسبيلا للتَّعبيرِ عن الإسلامِ الصالحِ لكل زمانٍ ومكَانٍ .

لكن الواقع يؤكد أن الخِطابَ الدِّينيَّ المعاصرَ رغم مُحَاولات تَجْدِيده يُعاني من أزمةٍ حقيقيَّةٍ ترتبط بِشكلٍ وثيقٍ بالأزمةِ الحَضَاريَّةِ التي تُعاني منها المجتمعات الإسلاميَّة، لذلك ترجع ضَرورة تَجْدِيد الخِطابِ الدِّينيِّ إلى الحَالةِ التي تعيشها مُجتمَعاتنا الإسْلاميَّة اليَوم من انتِكاسةٍ افقدتها الكثير من منهجيتها وصوابها؛ حيث انحسرَ شهودها الحَضاري، وعَجَزت عن التَّقوِيم والمرَاجعةِ ومَعرفةِ أسبابِ القُصُورِ، وتوقفت عن أدَاءِ رسالتِها في الشَّهادةِ على النَّاسِ والقِيادَة لهم.

يَرى الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر أن التَجْدِيد خَاصَّةٌ لازمةٌ من خواصِ دينِ الإسلامِ، نَبّه عليها النَّبيُّ ( صلى الله عليه وسلم ) في قَولِه الشَّريف: "إنَّ اللهَ يبعثُ لهذِه الأمَّة عَلى رأسِ كلِّ مئة سنةٍ مَن يجدِّد لهَا دينها "، وهذا هو دليل النَّقل على وجوبِ التَجْدِيد في الدِّين، أما دليل العقلِ فهو " أننا لو سلمنا أن رسالة الإسلام رسالة عامة للناس جميعا، وأنها باقيةٌ وصالحةٌ لكل زمانٍ ومَكانٍ، وأنَّ النُّصوصَ مَحدودةٌ، والحَادثَات لا محدودة ؛ فبِالضَّرورةِ لا مَفرَ لك من إقرارِ فَرضيَّة التَجْدِيد آلة محتمة لاستكشافِ حُكم الله في هذه الحَوادثِ " .

إذا كَان مُعظمُ رِجالِ الدِّينِ الإسلاميِّ والفِكرِ والتَّربية ينادون بِحتميةِ تَجْدِيد الخِطابِ الدِّينيِّ، فإنَّ هُنَاك ثمة عَوامِل وأسبَاب تَدفع بِضَرورةِ الجديَّة في تَجْدِيد هذا الخِطَاب، يمكن حصرها في الفَهم الخَاطِئ لنُصوصِ الكِتابِ والسنَّة، وتصدُّر أشبَاه المثقَفين للفَتوى، والتَّسَرع في إصدارِ الأحْكامِ الشَّرعيَّةِ دون رويَّةٍ ، وظُهور خِطَابٍ دينيٍّ مُتشَدِّد يعتمد التَّكفيرَ مَنهجًا لَه وعقيدة وسُلوكًا يَسعى إلى نَشرِه، والتَّروِيج له بشتى الطرق والوسائل، فضلا عن الانشغال بالدِّفاعِ عن الإسلامِ،  دون مُحَاولَة إنتاج فكر دينيٍّ جَديدٍ أو حتى إعادةِ الأفكَارِ الأسَاسيَّة للدين للظهور مرة أخرى .

وعليه، فإنَّ النِّظامَ التَّربَويَّ بمؤسَّساتِه المختلفةِ تتحمل المسؤوليَّة والأمَانَة والعبء الأكبر تجاه إعداد الشَّبابِ المُسلم للحَياةِ الآنيَةِ، وللمُستَقبل الآتِي، وما يصَاحب هذا المستقبل من تَطَورٍ عِلميٍّ وتقنيٍّ وحضاريٍّ، وبما يمكِّن هذا الشَّباب من مُواجَهةِ التَّحدِّياتِ والعقَباتِ المحتَملة التي قد تعيق تقدمهم ونَهضَتهم في ظلِّ عَقيدةٍ سليمةٍ وصحيحةٍ وصالحةٍ.

لتلك الأسباب فإن هناك ضَرورةِ لتَطويرِ المقررات الدِّراسِيةِ الدِّينيَّةِ بمَا يتناسب مع مُتطلباتِ وحاجاتِ المتعلمين واشتِمالهَا على المفَاهِيم والقَضَايَا المعاصِرة المتَّصلة بواقعِهم وحياتهم؛ وذلك لِتجنيبهم الحيرة الذِّهنيَّة، كما أشَارت نَتائجُ الدِّرَاسَات السَّابِقَة إلى بُزُوغ عدةِ قَضَايَا جَدليَّةٍ على السَّاحةِ تتقاذفها الآراء بين الصِّحةِ والخَطأ، وبين الرفضِ والقبولِ، حتى أنَّ هذه القَضَايَا والمشكلات التي تتضمنها أصبحتْ مثارَ جدلٍ فهل هي مُستحدثة أم مُستحسنة أم سلبيَّة ؟ ومن هنا ظَهرت الحَاجةُ إلى ضرورةِ تقويمِ المقرراتِ الدراسيَّةِ الدِّينيَّة لتعرف مدى قُدرتها علَى التَّصَدِّي لهذه المشكلات ومعالجة تلك القَضَايَا.

يمكن تحديد جُملة من الأسباب والعوامل التي تجعل من تَجْدِيدِ الخطابِ الدِّينيِّ الراهن ضرورة حَتمية وحاجة ملحة من مثل جُنوح الخطاب الديني ـ أحيانًا ـ إلى التجريح الشخصي أو الطائفي، فيضعف أثره ويقوى ضرره، أيضا ما ألصق بالدينِ الإسلاميِّ من عاداتٍ غير صحيحةٍ. كذلك رسوخ العقل العربي تحت قيودِ الوهمِ والخرافات التي تحول بينه وين الإبداع والتَجْدِيد، وتوقف عقل الأمة الإسلامية عن الإضافة، بالإضافة إلى شيوع الفَهمِ الخَاطئ لنصوص الكتاب والسنة لدى العامة، وتصدُّر أشباه المثقفين غير المتخصصين للفتوى، والتسرع في إصدار الأحكام الشرعية دون تعمق أو وعي بفقه الواقع.