الدمار الأخلاقي لاستمرار الإحتلال

أربع نظريات أخلاقية – كانتية، نفعية، قائمة على الفضيلة، ودينية – تُظهر عدم وجود أساس أخلاقي في خطة سلام ترامب.

لطالما أكّدت على أن احتلال إسرائيل للضفة الغربية يتحدى المبدأ الأخلاقي وراء قيام الدولة. وخلافًا لتأكيد رئيس الوزراء نتنياهو، فإن الإحتلال يحتّ بدلاً من أن يدعم الأمن القومي لإسرائيل ولا يمكن تبريره لأسباب أمنية أو أخلاقية. و"صفقة القرن" التي قدمها ترامب هي بمثابة تكريس للإحتلال الذي سيكون على حساب إسرائيل. وما لم تتبن إسرائيل طريقًا أخلاقيًا جديدًا وتضع حداً للإحتلال، لا يمكن لأحد منعها من الإنهيار من الداخل فقط لتصبح دولة منبوذة فقدت روحها، متخليًة عن عمد عن أحلام آبائها المؤسسين عن أن تكون لهم دولة يهودية ديمقراطية مستقلة.

هناك أربع نظريات أخلاقية – كانتية، نفعية، قائمة على الفضيلة، ودينية – تُظهر عدم وجود أساس أخلاقي في خطة سلام ترامب. سأناقش في هذه المقالة أولا النظريتين الكانتية والنفعية وثم سأغطي النظريتين القائمتين على الفضيلة والدين.

النظرية الأخلاقية الأولى هي نظرية الأخلاق الكانتية، وأكبر ممثل لها هو إيمانويل كانت. وفقًا لهذه النظرية، فإن العواقب لا صلة لها بالصواب الأخلاقي أو خطأ العمل. ما يهم هو ما إذا كان الإجراء قد تم من أجل الواجب أو احتراماً للقانون الأخلاقي.

قدم الفيلسوف كانت العديد من صيغ القانون الأخلاقي التي يشير إليها على أنها ضرورة قاطعة؛ لأغراضنا، والأهم من ذلك هو صيغته الأولى والثانية. الأولى هو مبدأ أن الأخلاق تتطلب منا أن نتصرف فقط ضمن تلك الحدود القصوى التي يمكننا تحقيقها. وعلى حد تعبيره "تصرف فقط على هذا المبدأ الذي يمكنك من خلاله في الوقت نفسه أن يصبح قانونًا عالميًا." باختصار، لا تفعل أبدًا أي شيء لا يستطيع فعله أي شخص آخر في نفس الوقت.

والسؤال هو ما إذا كان الإحتلال الإسرائيلي سياسة يمكن تعميمها وتمرير هذا الاختبار للتفكير الأخلاقي. الجواب واضح وهو لا؛ إن سياسة الإحتلال غير متسقة بعقلانية لأنها تتطلب من إسرائيل أن تحرم نفسها من القواعد الأخلاقية والسياسية التي يعترف بها المجتمع الدولي (والتي تعمل على حماية إسرائيل نفسها).

إسرائيل تعمل من نفسها إستثناءً – وهذه خطيئة كبرى وفقًا لكانت، لأنّ إسرائيل في الواقع تقول: "لا يتعيّن علينا أن نعيش بنفس القواعد مثل أي دولة أخرى." هذا واضح من حقيقة أن إسرائيل تنكر حق الفلسطينيين في تقرير المصير وتبرر ذلك باسم الأمن القومي، هذا على الرغم من أن تحقيق الأمن المطلق من شأنه أن يجعل الفلسطينيين دائمًا عرضة للخطر.

وفي حين وافقت إسرائيل عدة مرات على حلّ الدولتين، فإنها تواصل اغتصاب الأراضي الفلسطينية، منتهكة بذلك الإتفاقيات الدولية التي وقعت عليها إسرائيل (قرار الأمم المتحدة 242، اتفاقيات أوسلو). ومن خلال القيام بذلك، تتحدى إسرائيل بوضوح الصياغة الأولى للواجب القاطع، وهو ما أوضحه كانت بأنه يتطلب منا احترام اتفاقاتنا وعقودنا. أي أن إسرائيل تتصرف على أساس مبدأ أو سياسة نقض اتفاقياتها لخدمة مصلحتها الذاتية والتي لا يمكن تعميمها دون تناقض لأنه عندئذ لا يمكن الحفاظ على مؤسسة التوصل إلى اتفاقيات دولية، الأمر الذي من الواضح لا يزعج لا ترامب ولا نتنياهو.

وعلى الرغم من أن العديد من الدول تخرق العقود الدولية، فإن هذا لا يؤثر على حجة كانت لأنه يعلم جيدًا أن الناس يكذبون ويخدعون ويسرقون. همّه هو مبدأ الأخلاق وما يتطلبه، بغض النظر عما إذا كانت هذه المتطلبات قد تم الوفاء بها في الواقع أم لا. ومن خلال الحفاظ على الإحتلال تنتهك إسرائيل القانون الأخلاقي بينما تتوقع من الفلسطينيين الإلتزام بنفس المعايير.

الصيغة الثانية هي عدم معاملة أي شخص آخر فقط كوسيلة، ولكن دائمًا كغاية في حد ذاته. بمعنى آخر، ما يقوله كانت هو أنه ككائنات عاقلة حرة يمكنها أن تتصرف وفقًا للأخلاق، كل منا يمتلك قيمة جوهرية مما يعني أنه يجب علينا احترام الكرامة المتأصلة لكل فرد.

وفي حالة الفلسطينيين الذين تحت الإحتلال، تعاملهم إسرائيل كأشياء بدلاً من أشخاص يمكنهم الموافقة بعقلانية على الطريقة التي يعاملون بها. تقوم إسرائيل بإكراه الفلسطينيين جسديًا ونفسيًا بحرمانهم من حقوق الإنسان، على سبيل المثال، من خلال الإحتجاز الإداري والغارات الليلية والطرد، وبالتالي سلبهم كرامتهم وحرمانهم من استقلاليتهم، وهذا فقط ما تعززه صفقة ترامب.

النظرية الأخلاقية الثانية هي النظرية النفعيّة التي نشأت في شكلها الحديث في إنجلترا مع أعمال جيريمي بينثام وجون ستيوارت ميل. وعلى النقيض من نظرية كانت، تضع هذه النظرية كل التركيز على عواقب أفعالنا. إنها تنص على أن أي إجراء يكون صحيحًا من الناحية الأخلاقية إذا كان ينتج أكبر قدر من الخير لأكبر عدد من الأشخاص.

يعتمد التقييم الأخلاقي لأي سياسة على ما إذا كانت هذه السياسة تزيد من الفائدة أم لا. تتفق النفعية مع كانت على نقطة أساسية واحدة، وهي أن الأخلاق تحظر استثناء نفسها. ولأسباب واضحة، تعطي الحكومات أولوية أكبر لشعوبها. لكن هل يزيد الإحتلال من أمن ورفاهية جميع الإسرائيليين؟

وعلى الرغم من حقيقة أن إسرائيل تتخذ إجراءات استثنائية لتعزيز أمنها، فإن الإحتلال يقوض في الواقع أمن الدولة كما يتضح من المصادمات الدموية المتكررة التي تكثفت منذ الكشف عن خطة السلام والوضع المكلف من الإستعداد الذي يجب أن تحافظ عليه إسرائيل. علاوة على ذلك، إذا قامت إسرائيل بتوسيع اعتباراتها الأخلاقية إلى أبعد من شعبها لتشمل الفلسطينيين، فإن سياسة الإحتلال ستبقى فاشلة لأسباب نفعية وحتى بشكل ٍ أكثر حدّة.

من المؤكد أنه في الوقت الذي تلجأ فيه إسرائيل إلى الحجج النفعية لتبرير معاملتها للفلسطينيين، فإن إسرائيل تكشف في هذه العملية عن المأزق الكلاسيكي للتفكير النفعي. إنها في نهاية المطاف لا توفر حماية واحترام كافيين لحقوق الإنسان، مما سيؤدي مباشرة إلى تآكل مكانة إسرائيل الأخلاقية داخل مجتمع الأمم.

***

تقول نظرية أخلاقيات الفضيلة – التي لا يزال أرسطو أكبر المدافعين عنها – إن الفعل فعل أخلاقي إذا تم تنفيذه نتيجة لكونه ذا شخصية فاضلة. لا تتعلق أخلاقيات الفضيلة في المقام الأول بتدوين وتطبيق المبادئ الأخلاقية ولكن تطوير الشخصية التي تنشأ منها الأعمال الأخلاقية. وفي هذا السياق، فإن الإحتلال الإسرائيلي الذي تخلّده بصورة فعليّة "صفقة القرن" – بينما له تأثير سلبي كبير على الفلسطينيين – له تأثير مفسد أخلاقياً على الإسرائيليين أنفسهم وانعكاسات ضارة كبيرة على مكانة إسرائيل الأخلاقية.

تعترف أخلاقيات الفضيلة بأهمية اكتساب عادة التصرف الأخلاقي الذي ينطوي على تربية أخلاقية؛ كما قال أرسطو "تهذيب العقل دون تهذيب القلب ليس تهذيبا ً على الإطلاق". الإحتلال لا يثقف الشباب الإسرائيلي على الفضائل الأخلاقية، بل يصلّب قلوبهم لأنهم يستطيعون العيش مع الأحكام المسبقة والتمييز ونزع الإنسانية عن الفلسطينيين.

وعلى هذا النحو يفشل الإحتلال في تلبية مبادئ أخلاقيات الفضيلة لأنه يخلق بيئة تحط من المضمون الأخلاقي للإسرائيليين أنفسهم. ونتيجة لذلك فإنهم يواصلون ارتكاب انتهاكات ضد الفلسطينيين دون أي شعور بالذنب الأخلاقي.

قد يجادل المرء من وجهة نظر إسرائيلية معينة (أي حركة الاستيطان) بأن الاحتلال يولد فضائل مثل التضامن الوطني والتماسك الإجتماعي والولاء والشجاعة والمثابرة. وفي حين قد يبدو هذا صحيحًا على السطح، إلاّ أنّ الإحتلال يمزق في الواقع النسيج الإجتماعي والسياسي للإسرائيليين ويقوض الأجواء التي يمكن أن تنمو وتزدهر فيها الفضائل الأخلاقية مثل الرعاية والرحمة والشهامة.

علاوة على ذلك، كلما طال أمد الإحتلال زاد الضرر الذي يلحق بالشخصية الأخلاقية لإسرائيل، وستصبح إسرائيل أكثر ميلًا إلى التضحية بقيمها ومُثُلها الأساسية كدولة ديمقراطية ملتزمة بحقوق الإنسان.

وأخيرًا، نحتاج إلى النظر في النظرية الأخلاقية الدينية التي تقول إن الأخلاق تتصرف وفقًا لما تأمرنا به الآلهة. وفي هذا الصدد توجد نظريتان أساسيتان يمكن إرجاع كلاهما إلى إيثيفو أفلاطون حيث يطرح سقراط السؤال التالي: "… ما إذا كان الورع أو المقدس محبوباً من قبل الآلهة لأنه مقدس، أو أنه مقدس لأنه محبوب الآلهة."

الأولى هي نظرية القيادة الإلهية التي تنص على أن ما يجعل الفعل أخلاقيًا أو صوابًا هو حقيقة أن الله يأمر به ولا شيء غير ذلك. والنظرية الثانية التي دافع عنها سقراط هي أن الله يأمرنا بالقيام بما هو صواب لأنه هو الشيء الصحيح الذي يجب القيام به. وبعبارة أخرى، الأخلاق تسبق إرادة الله ولا يمكن إنقاصها من الأمر الإلهي.

قد يبدو في سياق هذا النقاش القديم أن اغتصاب الأرض الفلسطينية وضمها يمكن الدفاع عنه على أساس نظرية الأمر الإلهية لأنه إذا طلب منا الله القيام بأية مجموعة من الأعمال، حينئذ ٍ حسب التعريف سيكون هذا الشيء الأخلاقي للقيام به.

يتمسك الكثير من اليهود الأرثوذكس بنظرية الأمر الإلهي حيث يفسرون مفهوم "ميتزفه" (العمل الصالح) أولاً وقبل كل شيء كـ "أمر"، حيث لا يمكن حتى التفكير في صلاحيته بمعزل ٍ عن حقيقة أن هذا هو ما أمرنا به الله أن نفعل.

وعلى هذا النحو، فإن أولئك الذين يأخذون الكتاب المقدس باعتباره الوحي لأوامر الله يستخدمونه لتبرير مفهوم إسرائيل الكبرى. ونتيجة لذلك، ينظرون إلى الوجود الفلسطيني باعتباره عائقًا وضعه الله أمامهم لاختبار عزمهم. لذلك، فإن معاملتهم القاسية للفلسطينيين جائزة أخلاقياً لأنها تتفق مع المرسوم الإلهي.

ومن خلال تبني نظرية الأمر، فإنهم يعزون إلى موقف كان وما زال يستخدم لتبرير الأفعال غير الأخلاقية بشكل صارخ. قد يتصدى المدافع عن هذه النظرية لذلك بالقول أنّ الله صالح، فهو لا يأمر بأي شيء غير أخلاقي.

ومع ذلك، فإن هذه الحجة جوفاء لأنه إذا كانت الأخلاق هي ببساطة ما يوافق عليه الله، فإن القول بأن الله صالح هو مجرد تأكيد أنه يوافق على نفسه وإرادته. وفي هذه الحالة، لا يوجد حتى الآن أي حماية ضد المتطرفين الذين يستخدمون نظرية الأمر الإلهي لتبرير حتى أكثر الجرائم بشاعة. علاوة على ذلك، إذا كان الأمر المعني يلبي حاجة نفسية عميقة الجذور – على سبيل المثال وطن يهودي منحه الله – فإن ما ينسبه البشر إلى الله يصبح في النهاية "إرادة الله".

هناك مشكلة أخرى في نظرية الأمر الإلهي وهي – كما لاحظ الفيلسوف غوتفريد لايبنيتس – أنها تحول الله إلى نوع من الطاغية لا يستحق حبنا وتفانينا: "فلماذا نسبّحه على ما فعله إذا كان يستحق التسبيح بنفس القدر لفعل العكس تماما"؟

وبالإنتقال إلى النظرية القائلة إن الله يأمرنا بالقيام بالخير لأنه جيد، فإن الأمر الواضح هو أن أي فعل يجب أن يستمد قيمته الأخلاقية بشكل مستقل من إرادة الله. في هذه الحالة، يجب أن تكون السياسة الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين مبررة أخلاقياً دون الرجوع إلى بعض الصلاحيات الإلهية. لقد كشفنا آنفا ً، ولو بشكل ٍ موجز، عن سياسة إسرائيل في ضوء علم الأخلاق والنفعية وأخلاقيات الفضيلة ووجدنا أن هذه السياسة قاصرة وفاشلة في تلبية المتطلبات الأساسية لهذه النظريات. لذلك، فهي تفتقر إلى التبرير الأخلاقي المستقل الذي يمكن أن تستند إليه أوامر الله.

لا يمكن الدفاع عن احتلال إسرائيل المستمرّ – كما ستؤدي إليه بالتأكيد خطة ترامب – لأسباب أخلاقية أو فيما يتعلق بالأمن القومي. يمكن لإسرائيل أن تدافع عن نفسها وتتغلب على أيٍّ من أعدائها الآن وفي المستقبل المنظور، ولكنها غارقة في فساد أخلاقي لا يعمّقه إلاّ إستمرار الإحتلال. إنه العدو من الداخل الذي يشكل أكبر خطر تواجهه إسرائيل.