الدولة الدينية... في الوعي الإسلامي المعاصر

الفكر الإسلامي السلفي الذي لم يعاين وجودًا للدولة المنفصلة عن الدين لم يصطدم بمشكل ازدواجية السلطة الخضوع لسلطة الدين وسلطة الدولة منفصلتين كما لم يكن مهيأً للوقوف على الوجه الآخر للمشكل وهو المخاطر الكامنة في اندماج السلطتين معًا في قبضة واحدة هي قبضة الدولة الدينية.

بقلم: عبد الجواد يسن

تشكل الفكر السياسي عبر القرون الثلاثة الأولى، التي تمثل عصر التدوين، حيث جرى التفكير في “الدولة” من خلال نموذج الحكم القائم وكرد فعل له، وجرى التعامل مع “الدولة الدينية” بما هي معطى مفروغ من وجوده ومشروعيته. لم يقف الوعي السلفي على “مفهوم” الدولة في ذاتها، ولا على المعنى الإشكالي الكامن في علاقتها بالدين. وهو موقف معرفي مفهوم في سياق تشكله الخاص، وفي السياق العام لثقافة الاجتماع الوسيط، الشمولي الطابع، والخاضع إجمالًا لهيمنة الدين.

خلافًا للمسيحية، التي اكتمل تكوينها كديانة قبل أن تتوافر على دولة بعدة قرون، امتلك الإسلام دولته “الخاصة” منذ البداية تقريبًا، ولعدة قرون تالية. تكرس الربط في السياق الإسلامي بين الدين والدولة بعد تقنينه فقهيًا في صيغة الدولة الحارسة للدين. في محيطه المحلي المنعزل نسبيًا، لم يدخل الإسلام الناشئ في مواجهة سيادية مع دولة قوية بحجم الدولة الرومانية، ولم يقع بالتالي في مشكل التعارض مع سلطة علمانية مفارقة كما وقعت المسيحية. الفكر الإسلامي السلفي الذي لم يعاين وجودًا للدولة المنفصلة عن الدين، لم يصطدم بمشكل ازدواجية السلطة (الخضوع لسلطة الدين وسلطة الدولة منفصلتين) كما لم يكن مهيأً للوقوف على الوجه الآخر للمشكل، وهو (المخاطر الكامنة في اندماج السلطتين معًا في قبضة واحدة، هي قبضة الدولة الدينية).

بحسب لوثر وكالفن لا يتفسر وجود الدولة بأي نوع من العقد الاجتماعي أو إرادة الناس، بل مباشرة بإرادة الله. ولذلك فعلى الشعب الانصياع لحكم الدولة بوصفه طاعة لله، وليس له حيالها حق المساءلة لأنها لا تسأل إلا أمام الله. وعلى الرغم من الحديث عن تقديم طاعة الله على طاعة البشر عند التعارض -شرحًا لكلمات بطرس “ينبغي أن يطاع الله أكثر من الناس” ( أعمال الرسل 25:29) بحيث يكون العصيان الفردي جائزًا عند الضرورة- يشدد كالفن مثل لوثر على عدم جواز مقاومة الحكام بالقوة، أو العمل على تغيير الحكومات عن طريق العنف، لأن ذلك يعني الخلط بين المملكتين. أوامر الحاكم الدنيوي التي تخالف كلمة الله غير مشروعة، ولن يفلت من عقابه، لكن ذلك لا ينفي مشروعية السلطة في ذاتها، ولا يبرر التمرد عليها، أو حتى التهديد به، كما صرح كالفن بشكل قاطع في رسائله إلى البروتستانت المضطهدين في فرنسا.

واضح هنا أن تصعيد مقام الدولة على حساب الكنيسة، لم يكن يتم لصالح الفكرة العلمانية أو السيادة الشعبية كما كان عند وكليف، بل كان يشتغل لصالح السلطة الإلهية. ولذلك يلزم قراءته في إطار الروح العام للبروتستانتية كحركة أصولية فجة، تعاود النزوع إلى “الشمولية الحصرية” بما هي جوهر التدين التوحيدي. فنحن في الواقع حيال التفاف تحويري، ينطوي على نفي “ضمني” للازدواجية، وتوافق موضوعي مع النموذج اليهودي/ الإسلامي، الذي يسند إلى الدولة وظيفة حراسة الدين. وهي الوظيفة التي جرى تفعيلها بشكل قمعي في مواجهة المخالفين (الهرطقة) خصوصًا عند كالفن.

لكن الدور الذي لعبه الإصلاح البروتستانتي في كسر هيبة الكنيسة، سيقدم دعمًا غير مباشر لعملية التحول الكبرى التي ستنتهي لصالح العلمانية (تنحي الدين كليًا عن المجال العام، وتقليص هيمنته التقليدية في المجال الخاص).

على الرغم من نزوعها الأصولي، يلزم قراءة البروتستانتية في السياق العام لحركة التطور الكلي (الاقتصادي/ السياسي/ العقلي) التي أخذت تجتاح أوروبا بدءًا من القرن الرابع عشر، والتي صارت تكشف تدريجيًا عن تناقضات هيكلية بين النظام الاجتماعي والنظام الديني، وتصدر من ثم ضغوطًا متواصلة على النظام الأخير. في هذا السياق يمكن فهم البروتستانتية كنوع من رد الفعل المبكر، أو الاستجابة “الجزئية” من قبل المسيحية لمثيرات التطور الاجتماعي، التي ستسفر عند القرن التاسع عشر عن انتصار “كامل” للعلمانية مقابل الكنيسة، مع تصعيد فكرة سيادة الشعب كأساس لسلطة الدولة. المساحة التي انسحب منها الدين في المجالين العام والخاص، جرى اقتسامها بين الدولة والمجتمع المدني، الذي تكرس حضوره المستقل مقابل الدولة.

بوصفها تطورًا نقديًا للنظام الديني يصدر من داخله، مثلت الأفكار الإصلاحية، خصوصًا بعد كالفن، حلقة وسطى (انتقالية) بين نسق الفكر السياسي القديم، الذي ظل يفكر في الدولة كموجود اجتماعي أرضي يتفسر بفكرة التوافق والمصالح الاعتيادية، وتحكمه فكرة الشعب صاحب السيادة التي تنتمي إلى العالم.

عن مركز المسبار للدراسات والبحوث
ملخص مقال: مفاهيم إشكالية في الوعي الإسلامي المعاصر.. الدولة والدولة الدينية