الدِّين أقوى من الأيديولوجيا

غير المسلم نفسه كثيرًا ما يكون أخلاقيًا في سلوكه وقيميًا في مبادئه، وقد يكون محافظًا في سلوكه الخاص والعام، لأنَّ مكارم الأخلاق نفسها ليست حكرًا على الإسلام.

بقلم: علاء سعد حميده

الأيديولوجيا مصطلح حديث نشأ في البيئة الغربية، لكنه أصبح متداولا في كل مجتمعات العالم المعاصر، وتُعرف الأيديولوجيا ببساطة على أنها النسق الكلي للمعتقدات والقيم والأفكار الموجِّهة لقرارات الفرد وممارساته وسلوكه، وبتعبير مبسط يمكنك توقع سلوك فرد ما أو مجموعة بشرية ما، وردود أفعاله تجاه العالم المحيط، من خلال الأيديولوجيا التي ينتمي إليها ذلك الفرد أو تلك المجموعة، وبالمثل تستطيع أن تحدد الأيديولوجيا المتحكمة في الفرد من خلال تحليل سلوكه وممارساته ومواقفه في الحياة،

لذلك يمكننا وضع تعريف أقل حدية للأيديولوجيا بأنَّها طريقة في الحياة والإدارة والنظرية الاقتصادية، وهي على ذلك تكون أقل تأثيرًا من العقيدة الدينية ومتطلباتها اللازمة، ويحتويها الدين، ويقبل بتعدُّد الأيديولوجيات داخل التطبيق المنهجي للدين على مناشط الحياة.

يظل المسلم مسلمًا مهما اختلفت أيديولوجيته في الإدارة والسياسة والاقتصاد، وتظل العقيدة ومن ثَمَّ العبادات ثُم الأخلاق الأساسية من صدق وكرم وأمانة وشهامة ومروءة وغيرها فوق الأيديولوجيا ومستوِعبة لها، وتطبيقات ذلك في واقعنا المعاصر كثيرة، فالمسلم يقف يؤدي فريضة الصلاة لا يسأل المسلم الذي يجاوره عن هُويته السياسية ولا نظريته الاقتصادية ولا رؤيته الاجتماعية قبل أن يصطَّف بجواره ويلصق قدمه بقدمه، تربط بينهما أخوَّة الدين والعبادة والأخلاق، وذوو الأرحام يُحبون بعضهم حُبًا فطريًا يغرسه الله فيهم وإن تباينت أيديولوجياتهم ونظرياتهم في الحياة،

فالإسلامي ليست أيديولوجيا مستقلة عن الدين الإسلامي نفسه، ولا هي أيديولوجيا عقدية حاكمة مثلها مثل الليبرالية أو الاشتراكية أو الأناركية أو القومية المتطرفة، بل إنَّ الإسلام ذاته يقبل أن تختلف النظرية السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تستمد منهجها من تعاليمه طالما احترمت الثوابت القطعية، ولذلك فالإسلامية أساسًا ليست مصطلحًا صحيحًا ولا شرعيًا، ولم يقل به أحد من قبل في تراث المسلمين، إلا كتابًا واحدًا:  مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين للإمام أبي الحسن الأشعري، وخلاصة ما وصل إليه قوله: (اختلف الناس بعد نبيهم على أشياء كثيرة ضلَّل بعضهم بعضًا وبرأ بعضهم من بعض فصاروا فِرَقًا متباينين وأحزابًا متشتتين إلا أنَّ الإسلام يجمعهم ويشتمل عليهم)، إذن مصطلح الإسلاميين الذي تفرَّد به أبو الحسن الأشعري، قُصد به فرقًا من المسلمين، ولم يُقصد به لا الدعاة ولا المصلحين ولا المجدِّدين.

إنَّ سقوط مصطلح الأيديولوجيا الإسلامية في الدول والمجتمعات المسلمة يُعد مطلبًا أساسيًا للعودة إلى المرجعية الكبرى الكلية للإسلام ذاته كدين، يقبل التباين، الذي يعرِّفه ابن تيمية بقوله: اختلاف تباين وليس اختلاف تضاد، ويقلل حدية المواجهات المؤدلجة بين تيارات وفصائل المجتمع الواحد، ويُعلي من قيمة الوطن وأولياته والحفاظ على كيانه ووحدته وأمنه ورخائه واستقراره، كقيمة إسلامية أساسية حثَّ عليها الدين في غير موضع، على النظريات السيواقتصادية القائمة على الاجتهاد والتأويل البشري في فهم النص الظني، ولأنه في الأساس مصطلح دخيل، حاول أن يؤصِّل له بعض منظري تيار الإسلام السياسي على اعتبار أنَّ الإسلامي يتميَّز عن المسلم بدعوته وعمله على تحكيم منهج الإسلام في مختلف مناحي الحياة.

فمن أوجه الخلل التي تواجه مجتمعاتنا وتعوق إنجاز تقدُّم حقيقي، اتخاذ أيديولوجية إسلامية قائمة على الاجتهاد البشري في التصور والفهم، وجعلها مساوية للعقيدة، ومكافئة للدين الإسلامي ذاته، واعتبار كل تناقض لها أو اختلاف معها أو عنها، عداوة مع الإسلام كدين، وباعتبار طرحها كعقيدة تفرض الهيمنة والاستحواذ، فإنها داعية في حد ذاتها إلى الأحادية الفكرية والتعصب المقيت، في مقابل تعصب مقيت مكافئ، أو أشد تطرفًا، للأيديولوجيات المستوردة من الغرب أو الشرق، واعتبار تلك الأيديولوجيات أيضًا فوق الدين، أو مكافئة للدين، أضف إلى ذلك جنوح الرافضين للتطرف الفكري الأيديولوجي كمشروع إسلامي، إلى سياسة تجفيف المنابع عن طريق استهداف قيم الإسلام الأصيلة ذاتها متهمين إياها بأنها منبع التطرف الأيديولوجي، بدلا من فصل القيم الأصيلة عن الأيديولوجيا المستحدَثة، وكذلك وضع التيار الإصلاحي أو المحافظ في المجتمع لكل الرؤى الأيديولوجية المناقضة لمشروع الإسلام السياسي في سلة واحدة عند الخصومة، واعتبارهم مكافئين للدعوة للانحلال واللا دينية واللا أخلاق، دون أن يكونوا كذلك كحتمية أو ضرورة.

 بل إنَّ غير المسلم نفسه كثيرًا ما يكون أخلاقيًا في سلوكه وقيميًا في مبادئه، وقد يكون محافظًا في سلوكه الخاص والعام، لأنَّ مكارم الأخلاق نفسها ليست حكرًا على الإسلام، حتى أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إنِّما بُعثت لأتمِّم مكارم الأخلاق)، والإتمام لا يكون إلا لما هو قائم وموجود بالفعل.

ووفق نظرية أنَّ لكل فعل رد فعل مساوٍ له في المقدار ومضاد له في الاتجاه، فإنَّ المطلوب من أصحاب الأيديولوجيات الأخرى ألا يغلوا في أيديولوجياتهم غلوُّا يجعلها فوق الدين والعقيدة، ويتركون التعصب لها من باب أولى، ويُعلون مصالح الوطن العليا أيضا فوق ثوابت الأيديولوجيا القابلة في أصل تكوينها للتطوير والتغيير والمرونة، ليلتقي الجميع على كلمة سواء أقوى من أي أيديولوجيا، وليتفق الجميع على ثوابت أعلى من الأيديولوجيا هي العقيدة والأخلاق وسلامة الوطن ومصالح الناس وأمنهم وحرياتهم ورخائهم، ثم يختلفون فيما دون ذلك وفق ما يرون من أيديولوجيات مبتاينة كيفما شاءوا.

عضو رابطة الأدب الإسلامي العالمية