"الراجح والمتعذر" تستكمل ثلاثية الكغاط المسرحية

المسرحية تقوم على توظيف شعري وجمالي معا لأحد مبادئ فيزياء الكوانتم، والذي هو مبدأ تراكب الحالات الكوانتية. 
أليس من سخرية أدوارنا أن نبلغ تارة عالم الإنس وتارة عالم الجن، وأن نكون أحيانا من الكونين معا دون أن يضطرب لنا فكر أو ينزعج لنا بال؟
المبدأ ينص على إمكانية تواجد الأنظمة الكوانتية في حالات عدة في نفس الآن

"الرَّاجِحُ والمُتَعَذِّر" عنوان النص المسرحي الجديد للمسرحي والناقد المغربي فهد الكغاط والذي يأتي في سياق ثلاثية مسرحية من المسرح الكوانتي بوصفها مشروعا أدبيا ومسرحيا، يسعى الكغاط إلى تقديمه منذ بضع سنوات، وقد أكد أن هذه المسرحية تمثل بالنسبة إليّ تجريبا جديدا في المسرح الكوانتي، تقوم على توظيف شعري وجمالي معا لأحد مبادئ فيزياء الكوانتم، والذي هو مبدأ تراكب الحالات الكوانتية. 
وقال الكغاط "إذا كان هذا المبدأ ينص على إمكانية تواجد الأنظمة الكوانتية في حالات عدة في نفس الآن، وربما تكون الحالة الواحدة منها نقيض الأخرى تماما، فإني استحضرته في هذا النص، ووظفته في الحالات والمواقف، من أجل خلق متخيل مسرحي ذي حمولة كوانتية، يستلهم استعاراته وتصوراته من هذا المبدأ الفيزيائي، وتتأسس بنيته الدرامية عليه بالأساس. إن هذا العمل المسرحي استكشاف فني للوجود الإنساني، والذي لا يحكمه سوى الرجحان والمصادفة، واستجلاء لطبيعة الإنسان ودواخله، والتي لا يحكمها سوى تراكب الشيء ونقيضه.. ومن النص:
"أتحسب الحياة كلها غير كثير من المصادفة والرجحان؟
ألسنا فيها نتقلب أبدا بين الشيء ونقيضه، فلا نعرف لحالاتنا مُسْتَهَلا، ولا نُسكن أنفسنا مُسْتَقَرا؟
هَمْ...؟
نحن في حياتنا نشبه كثيرا شخصيتك في هذه المسرحية...
وأدوارنا لا تختلف إلا قليلا عن دورك فيها...
نتأرجح مثل نَوَّاس لا يستقر.. بين الحالة ونقيضها، بين الشيء ونقيضه.. نطارد الشك واليقين فنمسك بهما كليهما.. دون أن نعلم أيهما الشك وأيهما اليقين..
أليس من سخرية أدوارنا أن نبلغ تارة عالم الإنس وتارة عالم الجن، وأن نكون أحيانا من الكونين معا دون أن يضطرب لنا فكر أو ينزعج لنا بال؟
ما تخشاه في دورك لا يعدل مثقال ذرة مما نحياه في مسرح حياتنا".

في ميكانيكا الكوانتم، فإن المجرّب يضع في اعتباره أنه جزء من التجربة. وهذه هي الحالة في مسرح فهد الكغاط في ما يتعلق بالمتفرج، والذي هو في الوقت نفسه متفرج وممثل

وقد قدم للنص الناقد د.محمد ديوري مذكرا بأن المؤلف، في متنه الأول، والذي حمل عنوان "الإيقان والارتياب أو يُوٍريبِدِس الجديد"، استوحى من ميكانيكا الكوانتم مسلّمتين رئيسيتين الأولى: الارتياب الذي يشُوب مآل أي حدث طالما أنه لم يقع بعد، مما يجعل من التطور الذي يسِم الحدث المعادلَ أو النظيرَ لعملية القياس في ميكانيكا الكوانتم، وهي العملية التي تسمح بما يسمى بـ "اختزال الحُزْمة المَوْجِيّة"، والثانية الطبيعة المزدوِجة، المَوْجِيّة ورأى أنه في هذه المسرحية "الرَّاجِح والمُتَعَذِّر" يستلهم الكغاط من ميكانيكا الكوانتم، بالأساس إمكانية تراكب الحالات الكوانتية.
وأوضح ديوري أن مبدأ تراكب الحالات ينص على أنه من الممكن لنظام كوانتي ما أن يوجد في حالات عدة في الوقت الواحد، كل واحدة منها وقد خُصِّصت باحتمال ظهور أو حدوث. لقد أدهش هذا المبدأ أكثر من فيزيائي شهير، لأنه يُقوِّض يقينيات كل عالم حريص على الفيزياء الكلاسيكية، القائمة على التفرد الذي قد يميز أي نظام، ومن ثم الحتمية التي تحكم كل ظاهرة فيزيانية. وأما في المتن الثالث، والذي سيحمل بالتأكيد عنوان "المُشابَكة"، فإن المؤلف يعتزم الاستلهام من هذه الظاهرة لبناء حبكة مسرحية لن تعدم المفاجأة والإدهاش. ولست هنا أشير إلى هذا الأمر سوى لأؤكد عزم المؤلف إمعان النظر في الأحداث المهمة التي طبعت ميكانيكا الكوانتم، بهدف كتابة ثلاثية تحتضن هذا الجزء من الفيزياء، الذي تطور في الثلث الأول من القرن الماضي.
وأضاف ديوري في تقديمة للنص الصادر عن دار توبقال للنشر أنه للرجوع إلى مبدأ تراكب الحالات والمناقشات التي أثارها النص، يمكننا القول، إن الفيزياء الكلاسيكية، لمّا كانت تهتم فقط بالنُّظُم الماكروسكوبية، فإنه من المُسوَّغ ألا نتحدث فيها سوى عن النظام الوحيد والأوْحد، والذي لا يمكن أن يكون إلا في حالة وحيدة، لكن بالنسبة إلى ميكانيكا الكوانتم، وهي التي تهتم بالنُّظُم الميكروسكوبية، فإنه لا يمكننا الحديث، في تجربة ما، سوى عن عديد من الأنظمة التي لا يمكن أن تكون كلها في الحالة نفسها، خلافا لـبُرادَة الحديد، التي تتراصف حُبيباتها كلها باتجاه خطوط الحقل المسلط، متى كانت في أحد المجالات المغناطيسية.
وأشار إلى إن هذه الأنظمة المتعددة، والتي لا يمكن أن تكون كلها في الحالة نفسها، تفرض معالجة رُجْحانية/ احتمالية للحالات التي من الممكن أن تكون فيها النّظم، فتكون النتيجة حينها صورة الحالة الأكثر احتمالا، أي الحالة التي يوجد فيها أكبر عدد من الأنظمة. ومثل هذا الاستنتاج لم تفنِّده التجارب أبدا. وعلاوة على ما يميز تجربة فهد الكغاط من أصالة وتجديد كبيرين في الأدب المغربي بصفة خاصة والأدب العربي بصفة عامة، وهو ما يتجسد في التأسيس للمسرح الكوانتي العربي، فإن هذا الكاتب، ومن خلال هذه الثلاثية، يستوحى من بيئة باحث فيزيائي متخصص في ميكانيكا الكوانتم.
وذكّر ديوري بأنه من المفترض للفيزيائي الكلاسيكي أن يكون النطاق أو الموضع الذي يشغله خارجيا بالنسبة إلى الظاهرة، وهو ما يعني انعدام تأثيره عند إجراء القياس في إحدى التجارب. إنه يحسَب نفسه متفرجا سلبيا لا يتدخل إطلاقا في التجربة. أما في ميكانيكا الكوانتم، فإن المجرّب يضع في اعتباره أنه جزء من التجربة. وهذه هي الحالة في مسرح فهد الكغاط في ما يتعلق بالمتفرج، والذي هو في الوقت نفسه متفرج وممثل، بما أنه يدعى بانتظام للتدخل في سير الحدث. إن المشاهد، في مسرح فهد الكغاط، جزء من العمل المسرحي لا يتجزأ منه، يتحرك مع الممثلين، ويتوجه إليهم وإلى المتفرجين الآخرين، ويتنقل في القاعة بل وحتى على المسرح؛ لكنه، في نفس الوقت، يحاول ألا يكون عنصراً حاسماً في الحبكة، تاركا للممثلين أمر العناية بأفعالهم وتسلسلها.
وخلص ديوري إلى أن التوجه التجريبي الذي نجده في مسرحيات الكغاط، ليس بالأمر الجديد في المسرح. لقد وظف من قَبل من قِبل أكثر من مبدع مسرحي، لكنه عند فهد الكغاط يبرز بوصفه عنصرا جوهريا، بما أنه شرط ضروري لمسرح كوانتي يحرص على الانطلاق من الأوليات الرئيسية لفيزياء الكوانتم". 
يذكر أن د.فهد الكغاط صدر له عدد من الكتب منها "تدوين الفرجة المسرحية" (2013)، و"آثار الفرجة المسرحية - تأشير الإخراج المسرحي" (بالفرنسية، 2014)، و"الإيقان والارتياب أو يوريبدس الجديد" - تجريب في المسرح الكوانتي (نص مسرحي، 2016)، و"معجم المسرحيات المغربية - من البداية إلى العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين" (2019). كما أن بعض أعماله المسرحية والنقدية تُرجمت إلى الفرنسية والبرتغالية، منها على الخصوص مسرحية "الإيقان والارتياب أو يوريبدس الجديد"، والتي صدرت في ترجمة فرنسية عن لارمتان في باريس سنة 2018.