'الرجل الزجاجي': أحوال رجل يعاني محن الحياة

المترجم العراقي عبد الهادي سعدون يترجم رواية الإسباني ميغيل دي ثربانتس التي يعتقد فيها بطلها أنه مصنوع من زجاج قابل للكسر والتهشّم بأقل ضربة أو لمسة محتملة بسبب معاناته الشديدة من البغض والضغينة.

يواصل الروائي والمترجم العراقي د.عبد الهادي سعدون مشروع ترجمته لأعمال الروائي والشاعر الإسباني ميغيل دي ثربانتس، والمتمثل أولا في رواياته المثالية القصيرة التي كتبها ثربانتس بفترات متباعدة بين الأعوام 1590- 1612 ونشرها عام 1613 عند ناشره "خوان دي كويستا" في مطبعته في مدريد بعد النجاح الكبير الذي حظي به الجزء الأول من الدون كيخوته 1605، وقبل سنتين من نشر الجزء الثاني من الدون كيخوته 1615. حيث أصدر أخيرا ترجمة رواية "الرجل الزجاجي" وذلك بالتعاون مع دار الرافدين ودار تكوين.
يشير سعدون إلى أن ثربانتس في مقدمة لرواياته المجموعة في كتاب واحد عند صدورها ذكر بأنه كتبها ليترك للأجيال ما يعظهم في حياتهم "إذ لا تخلو أية رواية من هذه الروايات على نموذج أو مثال أو عِظة أو فائدة أخلاقية"، ولهذا السبب أسماها بالروايات المثالية أو النموذجية، فالهدف الأعظم الذي جعله يكتبها هو توقيعه على مثال يساعد المجتمع والقارئ للنظر للأمور بنظرة أخرى.
 وثربانتس على أية حال ينجح في أغلبها بمنحنا تلك العظة والسمات المثالية التي رغب بتنويرنا بها، ولكن ليس كلّ رواياته امتلأت بهذه الأمثلة والنماذج، بل أن بعضها كما سيرى القارئ لا تمتّ بصلة لهدف ثربانتس المعلن عنه في تقديمه للروايات، ولعله هنا أيضاً قد تقصّد الخروج عن النمطية المثالية حتى لا يتشبع بها القارئ ويميل عنها للسبب هذا أو ذاك.

 ثربانتس يعبر عن فكرة المجنون العاقل أو (البهلول) في تراثنا العربي
ثربانتس يعبر عن فكرة المجنون العاقل أو (البهلول) في تراثنا العربي

وقد أوضح سعدون أن عنوان الرواية "El licenciado Vidriera" حرفياً هو "طالب الجامعة المتزجّج" أو صاحب الإجازة الجامعية الزجاجيّ، بحكم أن من يصِل الجامعة ويدرس فيها يُطلق عليه صاحب إجازة ايضاً، أو يمكن أن يكون "رجل قُدّ من زجاج"، ومنها فضّلنا أن نطلق عليها ما وجدناه أفضل ترجمة للعنوان وهي (الرجل الزجاجيّ). والرواية كاملة لها علاقة كما سترون بحكم ما يُهيأ لبطلها من أوهام ورؤى تصيب عقله، لأنه يحسّ بنفسه مصنوعاً من زجاج قابل للكسر والتهشّم بأقل ضربة أو لمسة محتملة.
وأضاف أنه عبر تفاصيل شخصية الرجل الزجاجيّ حاول ثربانتس، كحال رواياته الأخرى، أن يكون مراقِباً لما يجري في عصره، وأن يضع بالتفصيل آراءه على لسان بطل الرواية بلا خشية من نقد أو ملاحظة شديدة القسوة على أفراد ورجال ومهن عصره.
 لقد استغلّ فكرة الصعود بالجنون والخروج عن المألوف بوضع كلّ شيء في مرصد النقد طالما أن النقد والآراء ينطق بها رجل يعدّه مجتمعه مجنوناً ومخرفاً ولا ينطق إلا عن هراء، وهو ما استغلها ثربانتس للتعبير عن فكرة المجنون العاقل أو (البهلول) في تراثنا العربي ونماذجها العديدة المنتشرة في الكتب والحكايات المعروفة.
وأشار إلى أن النقاد والكتّاب أعدوا رواية ثربانتس هذه كونها أول مثال عن رواية التحول أو التقمص التي تصيب البشر لتعرضهم لمحن وجودية وإنسانية، كما هو عليه الأمر في رواية التحول أو المسخ لمؤلفها كافكا في القرن العشرين. 
ورواية ثربانتس إنما تُعدّ من النماذج الأولى التي تصفُ أحوال رجل يعاني محن الحياة والبغض والضغينة ليصل إلى أعلى درجة من التقمص لاعتقاده أنه قُدّ من زجاج يمكن كسره في أيّة لحظة".
وقال إن "بطل الرواية، رغم فقره المعلن، إلا أنه بعصاميّته وتوقه للوصول إلى القمة يُجبر الآخرين على قبوله وذلك لتمتعه بالذكاء والفطنة والحذاقة. وهو في كلّ هذا لا يتخلص من واقعه إلّا بالعمل، ولا يصل إلّا عندما يجرّب كلّ إمكانيات الحياة في عصره.
 ثربانتس كعادته يضعنا في كلّ رواية إزاء معضلة إنسانية، وهو في كلّ مرة يصعّد من الأحداث حتى أعماقها الدفينة ليعود بنا مجدداً للواقع البشري في ظلّ ظروف لا يكون فيها الإنسان سوى عنصر ضئيل في التغيير والمشاركة والتقييم".
مقتطف من الرواية
وبعد أن أتمّ كلّ ما رغب في رؤيته، قرّر مع نفسه العودة إلى إسبانيا ومواصلة دراسته في جامعة سلمنكا. وما فكر به عمل على تنفيذه على الرغم من أسف صاحبه الفارس الذي رجاه أثناء توديعه أن يبلغه بأخباره أولاً بأول حال وصوله وما يتبعه. وهو بدوره وعده بذلك، وقد قرر المرور بفرنسا ومنها العودة إلى إسبانيا، دون أن يتمتع برؤية باريس لأنها كانت في حالة استعداد وتسليح للحرب. ختاماً وصل إلى سلمنكا حيث استقبله أصحابه خير استقبال، ولشعوره بالراحة والاستقرار عاود الدراسة حتى أتمها بنيل شهادة خريج في القانون.
حصل أن وصلت في تلك السنة إلى المدينة سيدة متحررة لا تضاهى بقدراتها في الوصل وإيقاع الرجال بشباكها. وقد حطّ في وكرها كلّ طير مرّ بالمدينة ولم يسلم منها أحد. ولما وصل إلى أسماع توماس أن السيدة قد ادعت زيارتها إيطاليا والفلاندس، فحمله الفضول للتعرف عليها. وما بين زيارة وأخرى، وقعت السيدة العفيفة صريعة هواه. لكنه لم يشأ الدخول إلى بيتها إلا بعد أن ألحّ عليه صحبه، رفض بعدها تجديد الزيارة لها. 
وهي في النهاية كشفت له عن رغبتها به وعرضت عليه أن تمنحه كلّ املاكها مقابل قبوله. لكنه وهو المنشغل بكتبه فحسب ولا يهتم لأمور الحياة الأخرى، لم يستجب بالمرة لطلب ورغبة السيدة.
شعرت السيدة بجرح في داخلها سبّبه توماس لعدم استجابته لرغباتها، ولأنها متأكدة من عدم حصولها عليه بالطرق المعتادة، فقد لجأت لوسائل أخرى، وهي برأيها أشد نفعاً وتعجيلاً بتحقيق رغباتها المعلنة. 
وهكذا أخذت بنصيحة سيدة موريسكية بأن قدمت لتوماس ثمرة سفرجل منقعة بطلاسم سحرية معتقدة أنها بهذا ستُجبره على عشقها والوقوع بمحبتها. لكنها لا تعرف أن كلّ أعشاب العالم و كلماته ولا رقّته بقادرة على اجبار الإرادة الحرة حتى لو أطعمته كلّ أطعمة العشق ومهيجاتها. لكنها تقوم بالمقابل بدسّ السموم لكل ما يتناوله، كما اثبتت التجارب والمواقف المتنوعة.
ما أن أكل توماس السفرجل في لحظة سوء، حتى بدأ على الفور يؤذي قدميه ويديه كما لو كان مصاباً بالصرع، ودون أن يعود إلى رشده لساعات طويلة، عاد بعدها وكأنه في حالة ذهول، وقال بلسان متلعثم ومضطرب إن السفرجل الذي أكله قد أتى عليه، وأعلن عن اسم من أعطتها له.
 عندما علمت العدالة بالحالة، ذهبوا للبحث عن سيئة الصيت تلك. لكنها وقد رأت ما أقدمت عليه، كانت قد لملمت أغراضها واختفت ولم يرها بعد ذلك أحد.
ظل توماس راقداً في الفراش لمدة ستة أشهر، وقد جفت أوصاله، وقد ظلّ كما يُقال جلداً على عظم، وظهر للجميع أن قدراته الذهنية قد تدهورت تماماً.

سعدون يواصل مشروع ترجمة أعمال ثربانتس
سعدون يواصل مشروع ترجمة أعمال ثربانتس

 وعلى الرغم من أنهم قاموا معه بالعلاجات الممكنة، إلا أنهم قاموا فقط بشفاء مرض جسده، وليس ما في رأسه، لأنه وإن بدا معافى، إلا أنه كان مجنوناً بأغرب حالات الجنون مما شوهد حتى ذلك الحين. 
صار البائس المسكين يتخيّل أنّه مصنوع من الزجاج. وبهذا الوهم، فإنه عندما يقترب منه أحدهم، يصدر أصواتاً رهيبة متوسلاً به بالكلمات والإشارات أن لا يقترب منه لأنه قد يعرّضه للكسر. 
فهو حقيقة وواقعاً ليس مثل بقية البشر، لأنه كله قُدّ من زجاج من رأسه حتى قدميه. 
ولكي يقوموا بإخراجه من وهمه الكبير هذا، فإن الكثير منهم، ودون الالتفات لتوسلاته ورفضه، كانوا يقومون باحتضانه والإحاطة به، وهم يصرخون به أن يراقب حالته وهو أنه لم يتكسّر. لكن المسكين في المقابل، يتدحرج في الأرض صارخاً للمرة الألف لتأتي بعدها حالة إغماء تتركه على حاله ممدداً لأربع ساعات كاملة.
 وعندما يعود إلى وعيه يُجدّد توسلاته ودعواته أن لا يقتربوا منه أبداً. كان يطلب منهم أن يبقوا بعيداً عنه وان يسألوه ما يشاؤون، لأنه في بحر معرفته قادر على الإجابة بما يرغبون ذلك لكونه رجُلاً من زجاج وليس من لحم ودم. فالزجاج كما يرى من مادة شفافة رقيقة، وتعمل الروح عبرها بدقة وقدرة عاليتين أفضل من الجسد الترابي الثقيل.
وشاء الكثيرون أن يجربوا صدق ما يقوله، وهكذا بدأوا يسألونه في قضايا كبيرة لاختبار عقله، وهو ما شكل إعجاباً كبيراً به من رجال الأدب في الجامعة ومن أساتذة الطب والفلسفة، وهم يرون فيه ذلك الجنون الغريب إذ يفكر في كونه مصنوعاً من زجاج، بينما كان في الحقيقة يقدّم معرفة عالية وقدرة فائقة إزاء أي سؤال يُطرح عليه.
طلب توماس منهم أن يعطوه جراباً واسعاً ليحتوي كأس جسده القابل للكسر، لأنه يعتقد أن لباساً واسعاً لن يحطمه. وهكذا منحوه ثوبا واسعاً وقميصاً عريضاً، فلبسه بعناية تامة وشدّ عليه خيط زنار من القطن. ورفض رفضاً قاطعاً أن يرتدي حذاء في قدميه. أما نظام ما اقترحه لكي يطعموه دون أن يقتربوا منه، فهو أن يعلقوا إناء التبول في رأس عصا يملؤونه بما يجود به الفصل من فاكهة. أما اللحم والسمك فلم يكن من آكليها، وعندما يشعر بالعطش يشرب من نبع أو من نهر، هكذا وهو يغرف منه بيديه.
 وعندما يمشي في الشوارع كان يمضيها في الوسط وهو يراقب السقوف خوفاً من أن تنهار أو أن يسقط عليه حجر منها ويكسره. 
في الصيف ينام في الحقل أو تحت السماء المكشوفة، أما الشتاء فيقضيه في أحد الخانات متنعماً ومتغطياً كليّاً حتى رقبته في كومة التبن، وهو يشرح للناس أنها الطريقة المثلى للرجال الذين هم من زجاج على شاكلته.
 وعندما ترعد السماء، كان يرتعش متهيّجاً ويهرب إلى الحقول ولا يدخل المدينة حتى تكون قد مرّت العاصفة نهائياً.
حجَر عليه أصحابه لوقت طويل، ولكنهم رأوا أن جنونه يمضي إلى الأمام، لهذا قرروا أن يصغوا لمطالبه، وهو أن يتركوه حراً طليقاً، وهذا ما فعلوه، فخرج من المدينة مشيّعاً بالعجب والتأسّف لكل من عرفه.
كان الصبية يحيطون به، لكنه كان يطردهم بعصا يحملها معه، وكان يجبرهم على أن يحدّثوه عن بعد حتى لا يتكسر، ذلك أنه رجل من زجاج رقيق وقابل للتهشم. كان الصبية، وهم من أشقى خلق العالم، حتى لسماعهم توسّلاته ورجائه، يشيعونه صلياً ورمياً بالحجارة ليروا فيما لو أنه يتكسر حسب قوله. لكنه كان يصرخ عالياً ويطوح بذراعيه أملاً في أن ينجده العامّة ويعاقبوا الصبية على أفعالهم.