الرواية النفسية بين قديسة وعاهرة

ندى في رواية "سوسنة المستنقع" لمختار عيسى تتجاوز كونها خضراء الدمن، لنرى لها أدوارا سياسية خطيرة ومشبوهة.
جرأة غير عادية في تناول الأحداث والوقائع القريبة زمنيا من القاري المعاصر
مختار عيسى يصور مواقف كثيرة من حالة الانفصام التي تتمتع بها شخصية ندى

تنتمي رواية "سوسنة المستنقع" للشاعر والروائي مختار عيسى إلى تيار الرواية النفسية من خلال بطلتها ندى التي يمكن أن نطلق عليها "خضراء الدمن"، وهي التي حذرنا منها رسولنا الكريم (صلى الله عليه وسلم) بقوله "أياكم وخضراء الدمن قالوا: وما خضراء الدمن يا رسول الله؟ قال: "المرأة الحَسناء في المنبت السوء".
ولكن ندى في هذه الرواية تتجاوز كونها خضراء الدمن، لنرى لها أدوارا سياسية خطيرة ومشبوهة، من خلال تعاملها مع المسئولين الكبار بالدولة بل من خلال إشارات كثيرة لتعاملها مع الكيان الصهيوني الذي يمارس ضغوطه النفسية العنيفة عليها، فتتخيل أن "ناحوم" يمارس معها المضاجعة الجنسية كل يوم سبت، ووصفته بأنه "الجني العاشق" الذي فض بكارتها، وعلمت بذلك والدتها نجية غوايش، فلم تبدِ أي اعتراض، وتتوطد العلاقات بينها وبين ناحوم، فيقول لها ذات لقاء (ص 146): "أعلم أنك صرتِ أمهر منا في الدفاع عنا، وها قد وصلتِ إلى قمة الحزب، وقريبا إلى كرسي الرئاسة الكبير".
ومع كل التردي الذي تقع فيه تلك السوسنة في المستنقع الكبير والماء الآسن، فإن لديها دائما رغبة في التخلص من حياتها الفاسدة والملوثة والعودة إلى نقاء السريرة والشفافية والطيبة الإنسانية، لذا نرى أنفسنا أمام شخصية مصابة بانفصام نفسي حاد، وتصف نفسها بأنها قديسة وعاهرة، خاصة عندما تتذكر أن لها فخذا مشوهة منذ طفولتها، نتجت عن احتراق جزء من جسدها عندما اندلعت فيه نار الوابور، وكانت أمها في الوقت نفسه تمارس الجنس مع زوجها بلتذذ كبير، ولم تسع إلى إنقاذها ابنتها، فتصب الابنة لعناتها الأبدية على أمها وزوج أمها.

في جميع أعمال مختار عيسى الروائية نلاحظ ذلك التماس مع الكيان الصهيوني المتغلغل في مفاصل أعماله بطريقة مباشرة وغير مباشرة

وقد استطاع مختار عيسى أن يصور لنا مواقف كثيرة من حالة الانفصام التي تتمتع بها شخصية ندى، فنراها على سبيل المثال تذرف دموعها على سجادة الصلاة ويرتجف بدنها ارتجافات عنيفة وهي تتلو الفاتحة وآيات التوبة، ثم بعدها مباشرة تشق قميصها الخشن من أعلاه إلى أسفله، كأنما تنتقم من امرأة مسرفة، في خصومتها، فنرى في يمين الجسد نهدين كأنهما جبلان، ويساره وجها شيطانيا كئيبا يطاردها في كوابيسها الليلية.
هذا الانفصام الحاد هو الذي يخلع على الرواية صفة الروائية أو الدرامية، ومن خلاله استطاع السارد أن يغوص في عالم النفس البشرية بكامل تقلباتها وصراعاتها وتناقضاتها، ويَسبر أغوارها ويتجول في سراديبها وكهوفها. ويقدم لنا تشريحا عميقا لها ويحدثنا عن مصيرها في عالم متناقض ومرعب. ويكتب لنا تحليلا ثاقبا للحالة الاجتماعية والسياسية والدينية لمصر خلال الزمن الفني للرواية. ويذكرني في ذلك ببعض أعمال الأب الروحي للرواية النفسية الكاتب الروسي ديستويفسكي.
في كل مقطع من مقاطع الرواية الأربعة والثلاثين، نجد صراعا حادا بين ندى وشخصيات في المجتمع، سواء شخصيات سياسية له وجودها وتأثيرها في الحياة وفي المجتمع، أو شخصيات عادية لا تأثير كبير ولا وزن لها، ولكن ندى ترى فيها وجوها لا بد من الانتقام منها، بعد أن تزوجت خمس مرات وفشلت في حياتها الزوجية معهم.
وفي الوقت نفسه استطاع الكاتب أن يصور لنا – من خلال علاقات ندى بالأوساط السياسية ووصولها إلى رئاسة الحزب القوي (حزب الرؤية) بعد فضائح عدة – كيف تُدار دفة الحكم، وكيف تدار العلاقات والمصالح في أدق تفاصيل ومفاصل الدولة خلال الزمن الروائي وهو منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وتحديدا في العام 2005.
وعلى سبيل المثال يقول السارد في ص 107 "في صباح الجمعة الأخيرة من شهر يناير في العام 2005 كانت نداءات باعة الجرائد في محطات المترو وعلى أرصفة شوارع القاهرة تعلن عن فضيحة الواعظ الشاب الذي وجدت جثته ملقاة في أحد المصارف على الطريق الزراعية".
وهذا الواعظ الشاب هو أحد ضحايا ندى الكثيرة، وكانت قد استعانت به ليعطي دروسا دينية في المسجد الذي أنشأته ليتعبد فيه الناس، وكتبت على اللافتة الرخامية بأحد جدرانه الجانبية "فاعلة خير ترجو أن يدعو لها رواد المسجد بظهر الغيب أن يغفر الله لها"، وهو ما يجسد حالة من حالات الانفصام، فكانت تدخله منتقبة لتسمع إلى الدروس الدينية، وتستكشف الشخصيات من حولها.
من الحيل الفنية التي ابتكرها الكاتب والمناسبة لأجواء الرواية، وجود الطبيب النفسي المعالج لندى المشوهة جسديا وفكريا، ومن هنا كانت الفرصة لإظهار الكثير من ماضي الشخصية والغوص في أعماقها وبسط الكثير من ملامحها وتطورها النفسي من خلال كرسي الاعتراف في عيادة الدكتور نادر الذي وقع في حبالها، وفكر في التخلي عن عيادته والتفرغ الكامل لها. ولكن مساعده محروس الذي كان على علاقة طيبة بأسرة ندى اقترح عليه ألا يفعل ذلك. لقد أوصت الأم (نجية غوايش) محروس برعاية ابنتها قبيل وفاتها. ولم يخيبْ محروس ظن الأم الراحلة، فعرض على طبيب العيادة النفسية التي يعمل فيها معالجة ندى، بعد أن تطورت حالتها وأصبحت خطرة على نفسها وعلى المجتمع من حولها. 
غير أن الدكتور نادر يجد تقارير من اختصاصيين نفسيين عن ندى تصل إلى حوالي خمسة آلاف صفحة مذ دخلت قسم البوليس لأول مرة متهمة بقطعها عضو رجل، وإلقائه في بلاعة الشارع العمومية.
لذا تتوزع الرواية بين اعترافات ندى الصريحة والفضائحية من خلال حكاياتها للطبيب، وبين الحب الذي شبَّ بينهما، ومحاولة نادر غفران كل ماضيها في سبيل الارتباط بها، والبداية من جديد بعد أن تشفى من أمراضها النفسية الخطيرة.
وكلما اقتربت ندى من تحقيق بعض مراحل الشفاء على يد الطبيب أو المعالج النفسي، تنتكس حالتها، مرة أخرى، فتقرر إخضاع الطبيب لها، وممارسة الجنس معه في عيادته، وتحت نظر محروس، وعندما تفيق وتتذكر ما حدث تعود أكثر شراسة وانتقاما وخطورة. فلا يملك الطبيب ومساعده إلا تهدئتها بحقنها بالمخدر الذي يغيبها عن الوعي ساعات تستيقظ بعدها محبة للحياة وللبشر وتفعل ما يمليه عليها ضميرها الطيب اليقظ، وتظل تبوح بمودة وشاعرية.
هكذا تمضي مقاطع الرواية بين مد وجزر نفسي، بين سوسنة جميلة ومستنقع قذر، بين احتراق داخلي وبرودة خارجية، بين مونولوجات وديالوجات، وكفر وإلحاد وإيمان ومناجاة للخالق، بين عهر وتوبة، وعري فاضح وإسدال وانتقاب، والتذاذ بإهاجة الرجال وقتلهم والتمثيل بهم، وأحلام وكوابيس ورؤى وفضائح سياسية عنيفة على مستوى بعض الوزراء والسياسيين في الأحزاب، تهز المجتمع المصري، بل والدولي عندما نكتشف أن منال أخت ندى التي هربت من مصر وبدّلت اسمها من منال إلى سمية، وتزوجت من ثري يقيم في دويلة عربية ترعى الإرهاب، تعود هي وزوجها صاحب اللحية الطويلة الذي لم ترتح إليه ندى منذ رأته لأول وهلة، لتنفيذ بعض العمليات الإرهابية داخل البلد.   

ليست رواية رقمية
قتلناك يا سوسنة

إن الجانب الخيّر يظهر بكامله في شخصية ندى عندما تجلس إلى ابنها هادي المعاق (الذي أنجبته من أحد رجالها الخمسة)، والذي لا يقدر على الكلام أو الحركة، ولكنها ترى فيه الوجه الصافي الخالي من كل الذنوب، بينما هي امرأة عاهرة وفضيحة متنقلة، وعندما أراد خصومها السياسيون، وبعض أساتذة الجامعة، الانتقام منها، فصلوا رأس هادي عن جسده، وغطت دماؤه المصحف وكرسيه الكهربي إلى جانب السرير، مع رسالة موجهة إلى ندى تقول: "الآن ذبحناه، ذبحناك، ستعيشين مذبوحة يا ندى يا عدوة الله، يا عدوة الدولة".
ولا تتوصل ندى بكل جبروتها وعلاقاتها مع المؤسسة الأمنية ورئيس الدولة نفسه، إلى الفاعل، ويجن جنونها فتقرر الانتقام بطريقتها من المجتمع كله، وتتبنى عددا من التفجيرات في مناطق مختلفة بالبلد وكأنها تبنت العمليات الإرهابية أو جُندت في تلك الشبكة التي تدار في تلك الدويلة، وكانت التكبيرات والتهاليل التي ترج بدنها كلما أتت الأنباء بخسائر الأرواح والمباني في مؤسسات عدة كأنها موسيقى على إيقاعها ترقص كل خلجاتها وقد أحست أنها تأخذ بثأر هادي الذبيح.
ولم تفلح معها كل جلسات العلاج النفسي التي واظبت عليها في عيادة الدكتور نادر، بل تحولت إلى آلة تدميرية هائلة وطاقة إجرامية كبرى لا يستطيع أحد السيطرة عليها، إلى أن أصدر رئيس الدولة نفسه تعليمات بتصفيتها بشرط ألا يتسرب أي خبر عن رعاية الرئيس بنفسه لهذه التصفية. ولكنها كانت أسبق من كل الأجهزة الأمنية في الذهاب إلى الموت حيث انتحرت بكامل إرادتها بعد أن تناولت الكثير من الحبوب، فشغل العالم بهذا الخبر خاصة عندما وجدوا إلى جوار جثتها خطابا إلى ابنها الراحل هادي تقول فيه: "آتية إليك يا حبيبي"، بينما استسلم حبيبها الدكتور نادر إلى نوع من الجنون حيث رآه الناس مرتديا جوالا من الخيش يجوب الشوارع صارخا: "يا سوسنة .. نحن المستنقع .. ظلموك يا حبيبتي .. عجزنا جميعا عن إخراجك منه .. قتلناك .. قتلناك يا سوسنة".
ليظل السؤال حائرا مَنْ اغتال السوسنة المتمثلة في شخصية ندى، هل البيئة التي نشأت فيها مشوهة الروح والجسد، هل جهاز من أجهزة الدولة خاصة بعد أن هددت بكشف مذكرات المهندسة الشاعرة "نهال السكري" التي ماتت منتحرة في رواية سابقة لمختار عيسى، ودخول حبيبها مراد في حالة انطواء نفسي شديد الخطورة، أو انهيار نفسي؟
إن مراد في روايات مختار عيسى السابقة يقارب شخصية نادر في "سوسنة المستنقع"، بل أرى ندى امتدادا على نحو أو آخر لنهال السكري، خاصة أن كلتيهما ماتت منتحرة، غير أن نهال لم تتعهّر مثلما كانت ندى، وربما ظروف التربية أو النشأة أو البيئة المحيطة كان لها أكبر الأثر في تكوين الشخصيتين.
وما يجمع بين "سوسنة المستنقع" و"غلطة مطبعية" هو التعري الجسدي حيث شاهدنا طقوسا جنسية، وقرأنا صفحات لمشاهد عُري بين مراد ونهال، مثلما رأينا وشاهدنا صفحات مماثلة بين ندى ونادر وغيره في "سوسنة المستنقع".
أيضا التعري أو العهر السياسي يجمع بين "سوسنة المستنقع" و"استبرتيز" (وهي رواية لمختار عيسى صدرت عام 2010).

صراع حاد
الكاتب مختار عيسى

وفي جميع أعمال مختار عيسى الروائية نلاحظ ذلك التماس مع الكيان الصهيوني المتغلغل في مفاصل أعماله بطريقة مباشرة وغير مباشرة، حيث نلاحظ دائما وجود المعبد اليهودي والنجمة السداسية والشمعدان، وفي "سوسنة المستنقع" نجد أسماء معينة كانت موجودة في السلطة الإسرائيلية أثناء الزمن الروائي مثل تسيبي ليفني وزيرة الخارجية الإسرائيلية، حيث تهدد ندى بكشف وقائع ستطيح برؤوس كبيرة في مؤسسة الحكم، وما أسرّت به في مخادع رجال دولة عن علاقات المستويات القيادية العليا بالحسناء ليفني وزير الخارجية الإسرائيلية والتي كانت تملك عدة شرائط فيلمية لمضاجعتها كلا منهم.
وعلى الرغم من أن الرواية ليست رواية رقمية، إلا أنها استفادت استفادة عظمى من قاموس الحداثة الرقمية، حيث الأخبار التي تتواتر على "الفيس" و"تويتر" عن علاقة الدكتور نادر بندى. يقول نادر في ص 19: "المصيبة في الخبر الذي سيطيره خصومي الآن على الفيس وتويتر و .. بل ربما كنتُ خبرا في نشرة أخبار الثامنة". أيضا نلاحظ تسابق الفضائيات والصحف الورقية والإلكترونية لنشر فضائح ندى والجرائم والاحتمالات المتوقعة عن أسبابها، وعن فضائح المشايخ الديجيتال، كما نلاحظ استخدام أقراص الدي في دي لنسخ الجرائم المصورة لبعض الشخصيات المرموقة.
هكذا نجد في "سوسنة المستنقع" جرأة غير عادية في تناول الأحداث والوقائع القريبة زمنيا من القاري المعاصر، وبحكم عمل الكاتب في الصحافة سنوات طويلة فقد استطاع أن يطوع معرفته وحدْسه الصحفي في تجديد خلايا الرواية العربية المعاصرة، بمزيد من الضخ السياسي والاجتماعي والنفسي في عروق تلك الرواية.