الرواية تتكلم بلهجة الحياة في 'لعنة الظلام'

عمل محمد عاطف الجندي يقتحم الواقع الشعبي بسخرية دامية، ليكشف عبثية العالم بأسلوب شبابي فوضوي وعميق.
ضحى عبدالرؤوف المل
بيروت

في زمن اختلط فيه الواقع بالهزل، والبطولة بالسخرية، تدخلنا رواية "لعنة الظلام" للروائي محمد عاطف الجندي إلى عالم ساخر ومرير في خريطة الانهيار الأخلاقي والاجتماعي حين تُطفأ أنوار العقل ويحل الليل في الوعي. وهي بمثابة صفعة أدبية حارة على وجه العادي والمألوف، وجرس إنذار لمن يظن أن الدراما لا تسكن بين أطلال الطين وعرق الفقراء. الرواية ليست تقليدية بأي حال من الأحوال، هي عمل يأخذنا من شوارع البوطة الضيقة في مدينة حوش عيسى إلى فضاءات من العبث الوجودي، ومن تراب الحياة اليومية إلى أسئلة كونية كبرى، مغطاة بطين السخرية الشعبية، وملح الواقعية الساخرة. فهل الصراع الكوني في حي شعبي هو لعنة الظلام؟

ما يبدأ بشجار بسيط حول موقع القمر. نعم، القمر نفسه  بين "القُن" و"دكش"، سرعان ما يتحول إلى ملحمة اجتماعية مصغرة. القمر، الرمز الأزلي للجمال والرومانسية والحكمة، يتحول في هذا العمل إلى سبب لـ"علقة محترمة" وعركة حقيقية في حارة ضيقة، كاشفًا لنا كيف يمكن لفكرة عبثية أن تشعل صراعًا وجوديًا في قلوب البسطاء.

الصراع هنا ليس مجرد هزل، بل إسقاط ساخر على واقع تغيب فيه العدالة والمنطق، وتصبح فيه السيطرة على الرموز (حتى لو كانت القمر) نوعًا من إثبات الوجود وسط التهميش.

"القُن" ليس مجرد اسم، بل أيقونة. مزيج من الطيبة الفطرية والجهل المتراكم، من الكرامة العائلية والمهانة اليومية. يتنقل بجلبابه البلدي وطاقيته الفلاحية بين هامش الحياة ومركز السرد، يحركه الحمار، ويوقفه قسم الشرطة، وتصفعه الحياة في وجهه كلما حاول أن يرفع رأسه.

في لحظة عبثية سوداء، يشتم "ديك" الحمار، فيُسحب إلى داخل المركز بتهمة "السب في الدين"، في مشهد يمزج بين الهزل والمرارة، ليكشف زيف المؤسسات، وضعف فهمها للواقع الشعبي الذي تحكمه.

لا يمكن الحديث عن الرواية دون التوقف أمام رمزية الحمار والغربال. الحمار، الذي يُضرب بلا رحمة لكنه يرفض السير نحو "المركز"، يصبح فجأة أكثر وعيًا من الإنسان، وكأنه يستنجد بالسلطة ضد من يركبه. أما الغربال، فهو مَجاز ساخر للعنف المرتد، للعقاب الذي نصنعه بأيدينا، حين يُقذف في الحائط فيرتد ليصيب القُن في وجهه، لا مرة بل مرتين، كأن الحياة تصر على أن تعلمه الدرس: لا فائدة من العنف، ولا حتى ضد الأدوات. فهل لهذا السرد الشعبي لغة ساخرة؟

ما يميز هذا العمل بحق هو لغته. لا تجميل، لا تزيين، لا استعارات رنانة تُثقِل النص، بل مباشرة قاتلة، وسخرية ساخنة تنبع من قلب الواقع لا من برجه العاجي. الجُمل القصيرة، الحوار الشعبي، المفردات المحلية – كلها تعيد تشكيل القارئ قبل أن تعيد تشكيل العالم المصور. فهل هذه الرواية مرآة مشروخة لعالم رسم خريطته محمد عاطف الجندي؟

رواية يمكنني القول عنها رواية شبابية، لأننا لا نقرأ رواية تقليدية. تجعلنا في مواجهة أنفسنا من خلال مرآة مشروخة، يرى فيها القارئ ملامحه وهو يضحك، لكنه لا يدري: هل يضحك من القن أم من نفسه؟ فمحمد عاطف لا يقدم مجتمعًا كاملًا بحماقاته، وصراعاته، وتفاهاته المتضخمة. يجعلنا نسأل من المسؤول عن هذا العبث؟ ولماذا نضحك ونحن نغرق فيه؟ فهل الرواية هي ضربة موجعة في خاصرة الأدب المعاصر، وصوت جريء ينبثق من الحواري ليذكرنا أن الفانتازيا ليست دائمًا في الخيال، بل أحيانًا تحت لمبة جاز، فوق عربة كارو، أو في صرخة من رجل يشكو من غربال؟ وهل لعنة الظلام تمرّد لغوي ورؤية جيل شاب مختلف؟

في رواية لعنة الظلام نلمح بوضوح أسلوبًا شبابيًا متفجرًا، لا يعبأ بقواعد السرد الكلاسيكي، ولا يتجمّل بزينة اللغة الفخمة، بل يقتحم الواقع بعفوية جارحة، ويمزج بين الفصحى والعامية بطلاقة تشبه ما يحدث في الأزقة أكثر مما يحدث في الكتب. كاتب هنا لا يكتب بـ"لسان الكاتب"، بل بـ"نبض الشارع". ينهل من ذاكرة الناس، من عباراتهم اليومية، من الشتائم، من التعبيرات الساخرة، ويصبّها في قالب ساخر حقيقي، لا مفتعل، يجعل القارئ يشعر أنه سمع هذه القصة في قهوة بلدي لا في مكتبة أكاديمية. فماذا يجعل الأسلوب شبابيًا هنا؟

التلقائية في الحكي فالراوي صديق يحكي لك على كوب شاي، لا يخجل من أن يضحك على أبطاله، ولا يتردد في تعريتهم أمام القارئ كما تم توظيف العامية بذكاء، ليست تهريجًا بل أداة تعبير عن عمق الشخصية وواقعها، تعكس البيئة والثقافة دون تصنّع.

يذكّرنا أحيانًا بروح منشورات "السوشيال ميديا" الساخرة، لكنه أكثر عمقًا، لأنه يذهب أبعد من النكتة ليصنع دراما من العبث. فهل كسر التوقعات محمد عاطف؟

في كل مشهد، يحدث شيء غير متوقع، الحمار يرفض السير، الغربال يهاجم صاحبه، القمر يصبح سببًا للعنف... وهذه الكوميديا السوداء تلامس روح الشباب المتمردة، الساخرة من الواقع، والعاجزة عن تغييره. فهو لا يطلب من القارئ أن "يقرأ"، بل أن "يرى" و"يعيش" و"يتفاعل"، يفتح له الباب ليكون جزءًا من النص لا مجرد متلقٍ. وهذا ما يجعل الرواية قابلة للانتشار في أوساط الشباب، وتخلق حالة تعاطف أو ضحك أو حتى صدمة، وهي أشياء نادرة في السرد الكلاسيكي. فالأسلوب الشبابي في لعنة الظلام ليس ترفًا لغويًا، بل موقف من الحياة، هو رفض للجمود، ومراوغة ذكية للوجع... وهو ما يمنح الرواية ميزة استثنائية، وروحًا لا تُنسى.