السعادة، اختيار أو نصيب
الاختلاف لا يفسد للمشاعر معنى، فبالرغم من وجود التباين على خلفية انتماءاتنا المجتمعية، الا أن التفرد في تكوين الشخصية يمنع من محاسبة الآخر على ما يشعر به، فليس هناك قوانين أو قواعد ترشد في توجيه المشاعر الى قنوات متفق عليها. مع هذا، يحقُ لأي شخص التعبير عن مشاعره بالطريقة التي تُمثِّلهُ، وفي التوقيت الذي يختاره. ومن الطبيعي أنْ يتمَّ الحديث عن السعادة عندما تكونُ غائبةً، وهي ما برحتْ هدفاً ينشده الإنسانُ. هنا يفرضُ السؤال نفسه: هل يمكن تحديد مؤشّراتِ السعادة وتمييز اللحظات التي يدبُّ فيها هذا الشعور؟ يقولُ جاك بريفر "أدركت السعادة من الجلبة التي خلفتها أثناء رحيلها." ما يُفهم من منطوق العبارة أنَّ السعادة تصبحُ أكثرَ حضوراً في غيابها.
يرى كثيرون بأن السعادة في الصلاة والعبادة. ولكن، ما الذي يميّز الصلاة لتكون سببًا في الشعور بالسعادة؟ أعتقد بأن الإيمان بوجود مَن يحرّك الدفّة من جهته، ليتّزن المركب الذي نقف بداخله هو مصدر هذه الإيجابيّة. أي أن السعادة حالةٌ تشترط على الوجود أن يثبت وجوده، ولكن ماذا يكون الأمر بالنسبة لمن يصرُّ على أنَّ الإنسانَ كائنٌ مقذوف به إلى الوجود، وبالتالي لابدَّ أن يتحملَ مسؤوليته؟ ما أن تنفصل السعادة عن مؤثرات ماورائيّة حتى تقترن بتحقيق الحرية. فكلّما خفّتْ سلطة المشروطيات ازدادَ المرء شعورًا بالسعادة. لربما يكتمل مفهوم السعادة عند حضور الأمان، وقد أوجد الانسان مفهوم الأمان في وجود الله، في محيط يشعر به الفردُ بأن حقّه في الحياة محميّ، بل ان كل ما يحدث معه يصبّ في النهاية لمصلحته، والسعادة حتمًا آتية لا محالة. بالمقابل، ثمّة من يعتقدُ بأن الله، بمعنًى ليس بعيدًا عن نفس المفهوم السابق للأمان، قد يتجلى لنا على شكل مكانٍ، زمانٍ أو في صورة شخصٍ يكون هو المفهوم الكامل للشعور بالأمان ومن ثمّ بالسعادة. تبدأُ السعادة برأي أبيقور حين يغيب الألم، غير أنَّ الوصول إلى السعادة يتطلبُ حيازة الأمان وهو الذي يُكسب الإدراك مناعةً ضدّ التشنج في التفكير والتشويش في الاختيار. قد يقودنا هذا إلى السؤال عن مصادر الأمان، فهل يستمدّهُ الإنسانُ من الآخر أو من المكان المشحون بالروحية الإيجابية؟ وجود هذا المصدر الذي قد يكونُ متمثلاً في شخص أو مكان يوفّرُ عليك عناء قلق البحث عن عوامل تُثبت جدارتك، وبذلك يكون هذا الشعور مشابهًا للحظة الحصول على دورٍ تُجيد أداءه بإتقانٍ وثقة، بعيدًا عن رهبة المسرح وعيون الرقابة. فيحدث استنفار لطاقاتك على أتمّ وجه، ما يعني أنَّ السعادة تحلّ في أيامك مجانًا وترشفها مساماتك هناءً.
المُغامرة
السعادة هي أن تجرؤ على فعلٍ كان يُهيّأ لك أنه فكرة مستحيلة من عالم الخيال. وفي داخل المغامرة تتعرف على الشحنات التي تدغدغ دماغك حماسًا واستثارة فلا تهتمّ الا بأن تستمر بالاندفاع قُدمًا والى الأمام. وقد تكون السعادة في قطف ثمار جهد دون أن يقاسموك فيها، أو أن تنجز مهماتك كلها في يوم يسبق يوم العطلة. السعادة ان ترقص دون أن تتذكر عيوبك. وتكمن السعادة أيضا في العلم بأن لديك القدرة على تخطّي مواقف صعبة حين تداهمك كانهمار المطر، تبتلّ ربما، ولكنك تعلم أنك لن تختفي بسبب ذلك. بل تصل الى البيت لتجد الشمس تطلّ عليك من الداخل. ما يعني أنَّ الشعور الإيجابي لا يغيبُ، حتى لو تعثّرتَ، لأنَّ الإنسان مفطورٌ على إرادة النهوض كما هو معرّضُ للخسارة. لذا يمكن للمرء أن ينهزم لكنه لا يتحطم، بحسب قول همنغواي. صحيح إن السعادة ليست إلا لحظات، لكنك تعيشُها كأنها زمن خالد، هنا يجوزُ تفسير الانجراف نحو الحب بأنَّه بحث عن الأبدية في اللحظة وبالتالي تتحرك كما تشاء وتصبحُ الروحُ معطاءةً في التعبير. إذن، ما إن يدبّ الشعور بالسعادة في الروح حتى تتأكد بحرية التصرف في وقتك ويختفي شبح الوصايا على الدرب، تعمل ما تحبّ أو لا تعمل أي شيء، فالقرار لك وحدك. أن تكون انسانا قادرًا على تمييز اختياراتك في كل لحظة هو ما يجعلك سعيدا، نظرا لكوننا كائنات تتأثر بأقل تغيير يهزّ استقرار أذهاننا. السعادة هي أن تكون لك من الايمان حصة كافية لتشعرك بأمان وراحة: أن تؤمن بنفسك، أن تؤمن بوجود الله هناك في السماء، أو أن تؤمن بوجوده هنا على الأرض. فهل علينا اذن أن نعمل لنوفّر لأنفسنا ذلك الأنموذج المسبب لكل تلك السعادة؟ أم نأمل أن نحصل بمساعدة الحظ على مثيلها في طريقنا نحو المجهول؟
سعادة الفنان
لا يؤمن أصحاب الفن، مثلا، بالحظّ، انما هم دائمو البحث عن مؤثراتٍ تشعل خيالهم ليبدعوا الصورة التي تعبّر عن مكنوناتهم، فتكون السعادة عندهم حين تحرّر الصورة من عالم الخيال الى الأرض في نهاية المطاف. وفي الحقيقة هناك من تكون سعادته حين يفهم العالم تلك الصورة التي أرادت أن تقول شيئًا للعالم رآه مبدعها فقط. ولربما هذا التفاهم هو أساس المحبة بين الناس، فإنه من اللافت جدا أن تلتقي بمن يفهم كلامك من الجملة الأولى، فتجدك تبحث عن فرص جديدة للقائه، لأنك تميّز ما تشعر به من سعادة في وجوده. وبالحديث عن الخيال، هناك من يؤمن أن السعادة تكمن في الخيال، لأنَّ الخيال الذي لا ينقطع أوسعُ من الواقع. أي أنه بمقدورك أن تحصل على ما تتمنى، بالتالي ما يسعدك، إذا ما اجتهدت بخيالك لتحصيله، بل رؤيته جاهزا ورؤية نفسك سعيدا معه، يدّعون بذلك أن السعادة حصاد ما تتخيله لنفسك. هذا ما يسمى بالنجاح عادة، لأنك تصل لمرحلة أنجزت فيها ما خططت له. يبدأ هذا الإنجاز بالتأكيد حين تكون الخطة واضحة أمامك ويحدث ذلك عندما تنجح بأن تفصل كيانك عن المجموعة، لتحدّد لنفسك ما يناسبها هي فقط، فتختار أنت الطاقم الذي يساعد في توجيه الخطة نحو الهدف. هذا يعني اننا من يحدد نصيبنا من السعادة بحسب اجتهادنا لتجربتها حية وحقيقة.
طلب السعادة
أنطلب السعادة لأنها حقٌّ؟ أم نكتفي بما تفاجئنا الحياة ونكون من القانعين؟ أليس من الطبيعي بدلا من ذلك، أن نسعى لما يقنعنا وبأن هكذا على الحياة أن تكون؟ أهناك ما يحدّد كمية السعادة التي تحقّ لنا؟ أعلينا ان نعطي مسبقًا لنحصل عل حقنا في السعادة؟ وان كانت السعادة في العطاء كما نسمع، ألسنا نعطي لنُريَ العالم ما لدينا لنقول، بطريقة أو بأخرى؟ أنحصل على السعادة حين نُخرج ما في دواخلنا ونجد من يتلقاه؟ أو يعيد لنا صداه؟ لجميعنا ما يعطي لهذا العالم، علينا أن نتأكد أن هناك من يتلقى صوتنا، وإلا، لنرمي به أمام الحائط المناسب لنشعر بالصدى يردّ الينا روحنا، فنسعد بوجودنا مع أنفسنا.