السودان.. عن تطبيق الحدود الشرعية الإسلامية

في تجربة حكم الإخوان التي استمرت ثلاثين سنةً تم إدراج الحدود في القانون الجنائي منذ عام 1991 شملت العقوبات المنصوص عليها في القانون المذكور الجلد والرجم والبتر والقتل.

بقلم: بابكر فيصل

تنافح جميع تيارات الإسلام السياسي عن ضرورة تطبيق نظام العقوبات الإسلامي الذي يتضمن ما يعرف بالحدود الشرعية، باعتباره نظاما إلهيا لا يمكن استبداله بالنظم الوضعية للعقوبات، بل إن تلك التيارات تكاد تختصر دعوتها لتطبيق الشريعة الإسلامية فقط في تضمين تلك للحدود داخل القوانين الجنائية.

في 27 تموز/يونيو 2016 وجهت لجنة الشؤون الخارجية بمجلس العموم البريطاني مجموعة من الأسئلة حول "الإسلام السياسي" لنائب المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين في مصر الدكتور إبراهيم منير، كان من بينها السؤال التالي: هل تؤيد أم ترفض استخدام العقوبات الجسدية في منظومة العدالة الجنائية مثل الجلد، الضرب أو البتر؟

أجاب الدكتور إبراهيم قائلا: "أنا كمسلم ملتزم بما قرره الإسلام من عقوبات على الجرائم المختلفة وضرورة تطبيقها في المجتمع المسلم والتي ضمنها عقوبة القتل في جرائم إزهاق الأرواح أو غير ذلك من الجرائم وفقا لما يقرره الدين، والنظم القانونية المعمول بها".

في تجربة حكم الإخوان المسلمين للسودان التي استمرت منذ حزيران/يونيو 1989 وحتى سقوط نظامهم في نيسان/أبريل الماضي، تم إدراج الحدود في القانون الجنائي منذ عام 1991، وقد شملت العقوبات المنصوص عليها في القانون الجلد والرجم والبتر والقتل عن جرائم شرب الخمر والزنا والسرقة والحرابة والردة، وعند بدء العمل بذلك القانون قال قادة الجماعة إن الخطوة تمثل عودة الإسلام الصحيح الذي ظل مغيبا طيلة عهود الحكم الوطني الذي أعقب خروج المستعمر البريطاني في 1956.

من جهة أخرى، توجد العديد من الجماعات الفكرية والسياسية والحقوقية داخل العالمين العربي والإسلامي ترفض تطبيق العقوبات الحدية باعتبار أنها لا تتماشى مع روح العصر، وأن تطبيقها في الماضي كان يناسب أعراف المجتمعات القديمة، وأنه ليس كل أمر يلزم المسلمين في أي وقت وفي أي ظرف خاصة بالنسبة للمعاملات، كما أن تطبيق الشرع بالنسبة لهم يتمثل أولا في تطبيق العدالة بين الناس.

وأيضا توجد اتجاهات فكرية تسعى لعصرنة الإسلام، وتدعو لتجميد تطبيق الحدود في الوقت الحالي، ومن أبرز ممثلي تلك الاتجاهات السويسري الجنسية المصري الأصل طارق رمضان، حفيد حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان المسلمين، الذي أصدر بيانا في عام 2005 يدعو إلى تعليق فوري للحدود، بدعوى أن ظروف تطبيق الحدود ليست موجودة في كل العالم الإسلامي.

إذن، نحن هنا بإزاء ثلاثة مواقف مختلفة تجاه قضية تطبيق الحدود الشرعية، أولها يدعو لتطبيقها فورا باعتبارها أمرا من السماء وهو ما تدعوا له جماعات الإسلام السياسي، وثانيها يعارض التطبيق باعتبار أن الحدود لا تتناسب مع التقدم الحضاري الذي أصابته البشرية، أما الثالث فهو موقف وسطي يدعو لتجميد تطبيقها حتى استيفاء الشروط التي تسمح بإنزالها لأرض الواقع.

يسعى كاتب هذه السطور للنظر في التناقض الذي أظهرته التجربة العملية في موقف جماعات الإسلام السياسي تجاه تطبيق الحدود، إذ اتضح أن اندفاعهم نحو التطبيق الفوري ليس أمرا حقيقيا نابعا من إيمانهم بضرورة تطبيقها في جميع الأحوال، بل هو مجرد سعي لدغدغة عواطف الجماهير المسلمة.

يتكشف هذا الأمر خصوصا عند النظر في تجربة حكم الإخوان المسلمين للسودان، حيث ظلوا يحكمون البلاد لنحو ثلاثين عاما بقانون جنائي يتضمن الحدود الشرعية، ومع ذلك لم يجرؤوا على تطبيق العقوبات التي تشتمل على البتر والرجم والقتل في جرائم الزنا والسرقة والردة، واكتفوا طيلة فترة حكمهم بتطبيق عقوبة الجلد على شاربي الخمر.

بالطبع لا نستطيع تفسير امتناعهم عن تطبيق تلك العقوبات بعدم وقوع جرائم تستوجب تطبيقها طوال ثلاثة عقود من الزمان، كذلك لا يمكننا الاستناد على الزعم بأن أحوال البلد لم تكن مهيأة لتطبيق تلك العقوبات، وبالتالي يكون المبرر الوحيد المقبول هو استبشاعهم لتطبيق تلك العقوبات وما يمكن أن تجره عليهم من مشاكل خصوصا مع المجتمع الدولي.

من المؤكد أن القائمين على أمر تلك القوانين كانوا يدركون أن تطبيق عقوبة الجلد وحدها سيجد استنكارا داخليا إضافة لردود الفعل التي قد تقوم بها بعض الدول وجماعات حقوق الإنسان، ولكن بالطبع ستكون ردة فعل تلك الجهات على عقوبات الرجم والبتر والقتل أكبر بكثير من الجلد، لذا آثروا التوقف عن تطبيقها واكتفوا بوضعها في القانون شكليا.

إذا اتفقنا أن دافع الامتناع عن تطبيق تلك العقوبات هو استبشاعها والخوف من ردة الفعل على تطبيقها، فإن ذلك ينسف الادعاء الأساسي الذي تنبني عليه دعوة جماعات الإسلام السياسي لتطبيق الحدود الشرعية، وهو قدسية تلك العقوبات باعتبارها أوامر إلهية واجبة التنفيذ ولا يمكن تعطيلها لأية سبب، وبهذا تتحول الحدود لمجرد قضية سياسية (دنيوية) قابلة للأخذ والرد شأنها شأن القوانين الأخرى.

توجد العديد من الجماعات الفكرية والسياسية والحقوقية داخل العالمين العربي والإسلامي ترفض تطبيق العقوبات الحدية

من ناحية أخرى، قد يقول قائل إن عدم تطبيق الحدود الشرعية لسنوات طويلة لا يبرر الدعوة لرفضها أو تجميدها، ومن ذلك ما صرح به القاضي وعضو مجلس الشورى السعودي عيسى الغيث في استطلاع لـ "بي بي سي" حيث قال: "الأحكام المتعلقة بالحدود قليلة وإن السعودية لم تطبق منذ عشرات السنين حد الرجم لصعوبة توفر شروط توقيعه كما جاءت في الشريعة الإسلامية".

هنا يطرأ سؤال في غاية الأهمية حول جدوى العمل بنظام للعقوبات لا يتم تطبيقه لعشرات السنين؟ فالمعلوم أن القوانين ونظم العقوبات توضع لتُطبَّق وليس العكس، فإذا كانت غير قابلة للتطبيق لعشرات السنين لأية سبب من الأسباب فذلك يعتبر دليل قصور فيها وليس مؤشرا لجدواها وضرورتها.

بعيدا عن الآراء التي تنادي بإعادة النظر في تطبيق العقوبات الجسدية باعتبار أنها لا تتماشى مع روح العصر، أو تلك التي تطالب بتجميدها بدعوى أن الظروف غير مواتية لتطبيقها في الوقت الراهن، يبدو جليا أن دعوة تيارات الإسلام السياسي لتطبيق الحدود لا تخرج عن إطار المحاولات الدؤوبة لتلك التيارات توظيف الشعارات الدينية لخدمة الأغراض السياسية، وهو الأمر الذي أثبتته بجلاء تجربة حكم الإخوان المسلمين في السودان.

نُشر في صفحة الحرة