السودان: من الثورة إلى الدولة

النظام البائد كان قد طبَّق برنامجا للتمكين الحزبي عمل بواسطته على السيطرة على الخدمة المدنية وأجهزة الدولة والاقتصاد الوطني وذلك عن طريق فصل آلاف الموظفين تعسفيا وإحلالهم بالموالين للحركة الإسلامية.

بقلم: بابكر فيصل

بالتوقيع النهائي على الاتفاقين السياسي والدستوري بين قوى الحرية والتغيير والمجلس العسكري الانتقالي وتعيين المجلس السيادي ورئيس مجلس الوزراء، تكون الثورة السودانية قد انتقلت إلى مرحلة الدولة وهي المرحلة التي ستكتمل بتشكيل الحكومة (مجلس الوزراء) التي ستستلم مهامها رسميا في الأول من سبتمبر.

ووفقا لما جاء في نصوص الاتفاقين، السياسي والدستوري، فإن قوى الحرية والتغيير التي ستحكم البلاد لثلاث سنوات ستضطلع بالعديد من المهام خلال فترة الانتقال، تأتي في مقدمتها أربعة مهام: ترسيخ الحريات، وقف الحرب وإحلال السلام، معالجة المشكلة الاقتصادية، وتفكيك دولة التمكين الحزبي التي شيدها النظام البائد.

في إطار ترسيخ الحريات العامة، تعهدت حكومة الثورة بإلغاء جميع القوانين المقيدة للحريات مثل قانوني الأمن الوطني والنظام العام وغيرها، كذلك ستعمل على استعادة حياد الأجهزة الإعلامية الرسمية (التلفزيون القومي، الإذاعة، وكالة الأنباء إلخ) وتغيير رسالتها الشمولية التي ترسخت عبر ثلاثة عقود من الاستبداد.

كذلك ستعمل حكومة الثورة على إطلاق حرية العمل السياسي والحزبي دون قيود، وضمان قيام وتكوين النقابات والاتحادات المهنية عبر الانتخاب، فضلا عن السماح بحرية التعبير والتنظيم بصورة كاملة.

تنتظر الحكومة مهمة عسيرة وشاقة تتمثل في وقف الحرب الأهلية المستمرة في دارفور منذ عام 2003، وكذلك في ولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق منذ عام 2011، حيث أشار الاتفاقان السياسي والدستوري إلى أن الحكومة ستخصص الستة أشهر الأولى من عمرها لعملية إحلال السلام في البلاد.

وكان النظام البائد قد فشل في وقف الحرب بسبب سياساته الفاشلة القائمة على عقد اتفاقيات مع الحركات المسلحة بطريقة التجزئة مما فاقم الأوضاع، إضافة لعدم توفر الإرادة الكافية لدى قادة النظام للتوصل لسلام دائم بدفع استحقاقات وقف الحرب، وهو الأمر الذي حدا بقوى الحرية والتغيير لتبني الدعوة لمفاوضات شاملة مع جميع الحركات المسلحة عبر مؤتمر السلام المزمع عقده خلال مدة أقصاها شهر من بدء أعمال الحكومة.

من ناحية أخرى، تواجه الحكومة الانتقالية التحدي الاقتصادي الذي انعكس في ندرة السلع والارتفاع الجنوني لأسعارها والتدهور الكبير في مستوى المعيشة لقطاعات عريضة من الشعب السوداني والتراجع المريع في الخدمات الأساسية مثل الصحة والتعليم، فضلا عن توقف الاستثمارات الأجنبية وارتفاع الدين الخارجي لأكثر من 53 مليار دولار.

في هذا الإطار طرحت قوى الحرية والتغيير برنامج الـ 100 يوم الإسعافي لمعالجة مشكلة الأسعار وتوفير السلع الأساسية (الخبز، البترول، الدواء) في الثلاثة أشهر الأولى، وهو البرنامج المؤمل منه تخفيف أعباء المعيشة التي أثقلت كاهل الطيف الأوسع من المواطنين، وكانت أحد الأسباب الرئيسية في اندلاع الثورة.

أما على المدى المتوسط فإن الحكومة تعوَّل كثيرا على رفع اسم السودان من القائمة الأميركية للدول الراعية للإرهاب، وهي الخطوة التي ستمهد الطريق أمام شطب الديون الخارجية، واستئناف المنح والقروض من المؤسسات الدولية المانحة، إضافة لتدفق الاستثمارات الأجنبية المباشرة.

من المعلوم أن النظام البائد كان قد طبَّق برنامجا للتمكين الحزبي عمل بواسطته على السيطرة على الخدمة المدنية وأجهزة الدولة والاقتصاد الوطني، وذلك عن طريق فصل آلاف الموظفين تعسفيا وإحلالهم بالموالين للحركة الإسلامية (الفرع السوداني لجماعة الإخوان المسلمين)، إضافة لمنح التسهيلات المصرفية ورؤوس الأموال والامتيازات الحكومية لأتباع النظام مما خلق طبقة كبيرة من الأثرياء والرأسماليين الموالين له.

مازال هؤلاء الموالون للنظام يسيطرون على مفاصل الدولة ومؤسسات الحكم ويتحكمون في اقتصاد البلاد، وسيعملون على عرقلة كل البرامج التي ستقترحها الحكومة، كما أنهم سيبذلون كل مساعيهم لخلق المشاكل والأزمات حتى يثيرون غضب الجماهير، وهو الأمر الذي يتطلب وعيا كبيرا من الحكومة في التعامل معهم بكل حزم، وإفشال خططهم الهادفة لإجهاض الثورة والتغيير الذي مهرته الجماهير بالدماء والدموع.

قد رسم الاتفاق السياسي والوثيقة الدستورية الخطوط الرئيسية لكيفية تفكيك مؤسسات النظام البائد، وذلك عبر إنشاء مفوضيات متخصصة للإصلاح الإداري ومحاربة الفساد، فضلا عن تأكيد حياد الهيئة القضائية والنيابة العامة وهو الأمر الذي سيضمن تقديم جميع المتهمين بنهب المال العام وتبديد ثروات البلاد إلى المحاكمات العادلة.

من ناحية أخرى، فإن تحديا كبيرا ومحتملا سيواجه الحكومة القادمة ويتمثل في وحدة تحالف "قوى الحرية والتغيير"، وهو الجسم الذي قاد الثورة طيلة الثمانية أشهر الماضية، وسيقوم بتشكيل الحكومة بوصفه التحالف الأعرض في تاريخ السودان الحديث بما يمثله من عشرات الكيانات السياسية والنقابية ومنظمات المجتمع المدني.

وبما أن قوى الحرية ستكون المرجعية السياسية للحكومة القادمة فإن أية انشقاقات داخلها ستؤثر سلبا على أداء الحكومة، وهو الأمر الذي بدأت بوادره تظهر للعيان من خلال الخلافات التي تبدت أثناء تقديم أسماء المرشحين لعضوية مجلس السيادة، والتي ربما تتكرر بخصوص التشكيل الحكومي، وهذا الأمر يتطلب وعيا كبيرا وحكمة من القائمين على أمر التحالف المنوط به إنجاز مرحلة الانتقال بصورة ناجحة تؤسس لديمقراطية مستدامة في البلاد وتحقق شعارات الثورة المنادية بالحرية والسلام والعدالة.

لا شك أن النظام البائد قد خلَّف تركة مثقلة عناوينها الأبرز: الحروب وكبت الحريات والانهيار الاقتصادي والفساد المستشري وسوء الإدارة، وهي الأمور التي دفعت بالثوار للخروج للشارع وإسقاط رأس النظام، وبما أن الجماهير كانت متقدمة على القوى السياسية في تحركها، فهي مطالبة بأن تستمر في حالتها الثورية المتسمة باليقظة، لتراقب الأداء الحكومي، ولتقوم مسار قوى الحرية والتغيير حال انحرافه عن أهداف الثورة، ولتشكل السند الحقيقي لإنجاح برامج الحكومة الهادفة لإنزال شعارات الثورات لأرض التطبيق.