السودان: هل حقا أضاعت الوثيقة الدستورية الدين؟

تجربة حكم الحركة الإسلامية فرع الإخوان المسلمين في السودان أثبتت بشكل قاطع أن وضع نص في الدستور يوضح أن للدولة دينا معينا أو يشير لمرجعية الشريعة لا يمثل ضمانا لإنزال القيم العليا التي ينادي بها الإسلام.

بقلم: بابكر فيصل

في أعقاب إجازة الوثيقة الدستورية الموقعة بين قيادة الثورة السودانية ممثلة في قوى الحرية والتغيير والمجلس العسكري، سارع رجل الدين السلفي، عبد الحي يوسف، بدعوة الجماعات الإسلامية إلى إنكار الوثيقة باعتبار أنها أغفلت مرجعية الشريعة الإسلامية ولم تنص على أن الإسلام هو دين الدولة الرسمي.

وقال يوسف إن "ما تم بشأن الوثيقة الدستورية ما هو إلا تمرير أجندة لا علاقة له برفع العناء عن الشعب، وأعضاء المجلس العسكري سيسجّل التاريخ أنهم رضوا بلعاعة الدنيا وتضييع الدين حينما وقّعوا على وثيقة فيها تنازل عن هوية الأمة ودينها".

في البدء نقول إن الدولة "كيان اعتباري" شأنها شأن الشركة والمؤسسة التجارية والنادي الرياضي، وبهذا المعنى يصبح من المستحيل أن ننسب لها دينا معينا، إذ هي لا تنطق بالشهادتين ولا تصوم ولا تذهب لأداء الصلاة في المسجد، الدين هو دين الأشخاص (الأفراد) الذين يكون باستطاعتهم اختيار عقيدة ما ينتمون لها ويلتزمون بما يترتب على ذلك الاختيار من الإيمان بتعاليم محددة وممارسة لطقوس معينة.

ومن ناحية أخرى فإن النص على دين معين للدولة لا يعني شيئا محددا يمكن الإمساك به والإجماع عليه، ذلك لأنه توجد داخل الدين الواحد فرق واتجاهات ومذاهب متعددة هي في واقع الأمر انعكاس لأفهام العقول، وقد تشكلت بفعل التجارب والبيئات والسياقات التاريخية المختلفة، وبذا يصبح من المتعسر الاتفاق على معنى واحد للدين الذي ينص عليه في الدستور.

إذ لا يعكس ذلك النص معنى محددا للدين مجمعا عليه، فإنه بالتالي يصير نصا غير ذي جدوى في أفضل الأحوال أو يصبح مصدرا لمشكلات كبرى في أسوئها، ذلك لأنه يتحول لمجرد أداة لخدمة أغراض السياسة "المدنس" التي تتخفى خلف "المقدس" من أجل ممارسة السيطرة والإقصاء.

لم يمنع النص في الدستور المصري على أن الإسلام هو دين الدولة الرسمي الأب الروحي لجماعات الإسلام السياسي العنيفة، سيد قطب، من أن يسطر في كتابه "العدالة الاجتماعية في الإسلام" التالي: "ونحن في الوقت ذاته نتخذ الإسلام دينا رسميا للدولة، ونزعم فيما بيننا وبين أنفسنا أننا مسلمون، إن لم نزعم أننا حماة الإسلام ودعاته، ولكننا نقصي هذا الدين من حياتنا العملية".

الحديث أعلاه يوضح بجلاء أن النص على وجود دين معين للدولة لا يعني شيئا، وأن هناك جماعات وأشخاص، مثل الأستاذ قطب، لم يعصمها ذلك النص من ادعاء أنه تم إقصاء الدين من حياة المسلمين، بل إنه مضى أبعد من ذلك ليقرر أنه لا يوجد إسلام ولا مسلمين في الأساس "المسلمون اليوم لا يجاهدون، ذلك لأن المسلمين اليوم لا يوجدون. إن قضية وجود الإسلام ووجود المسلمين هي التي تحتاج اليوم إلى علاج".

بهذا المعنى، فإننا نقول إن الدين أساسا هو دين الأفراد وليس الدولة أو المجتمع، وبما أن الإيمان به يعكس في جوهره اختيارا طوعيا فهذا يعني أنه متى ما تمكنت تعاليمه وقيمه ومقاصده من نفس المؤمن به فإنه لا يكون بحاجة إلى دولة تُعينه على تطبيق هذه التعاليم وتلك القيم في سلوكه الخاص، ولن تمنعه دولة لا تشاركه الاعتقاد في ذلك الدين من أن يسلك في حياته طبقا لما يؤمن به.

أما قول عبد الحي يوسف إن عدم وجود نص في الوثيقة الدستورية يشير إلى أن الشريعة مصدر السلطات يعتبر "تضييعا للدين" فإنه قول لا يخلو من مزايدة، إذ يعلم هو قبل غيره من الناس أن دستور نظام الحكم الشمولي البائد كان ينص على أن الشريعة مصدر السلطات، ومع ذلك فقد كان ذلك النظام هو الأكثر فسادا وتضييعا لتعاليم الدين وقيمه من بين جميع النظم التي حكمت السودان، بما فيها الاستعمار البريطاني.

للشريعة أحكام متفق عليها، هي المرتبطة بالعبادات والشعائر، وكذلك يلتزم المسلمون بقواعدها المنظمة للأحوال الشخصية، ولكن الشريعة تحولت إلى شعار مبهم عندما أقحمت في السياسة، حتى صارت شعارا مشتركا بين تنظيمات تختلف عن بعضها اختلافا كبيرا، كالاختلاف بين حزب العدالة والتنمية التركي الأقرب للحداثة، وطالبان وداعش المتخلفين عن العصر.

الشريعة بمعناها الديني المباشر ـ كما يقول عادل حمد ـ يعيشها عامة السودانيين بلا انشغال بتثبيت النص في الدستور من قبل النظام البائد ولا انشغال بإغفال النص من قوى الحرية والتغيير والمجلس العسكري، فهم في صلواتهم وأذكارهم وصيامهم وقيامهم وزكاتهم وطوافهم وميراثهم وزواجهم وطلاقهم ملتزمون بالأحكام الشرعية. ما منعهم عن ذلك غياب النص ولو كان الحاكم مستعمرا غير مسلم. في الجانب الآخر، لم يمنع وجود النص الدستوري النظام البائد من تزوير الانتخابات وقتل المعارضين بل وبعض الموالين والتلاعب في الأراضي وابتداع بدعة التحلل التي تعبد الطريق أمام استباحة المال العام وغير ذلك من الجرائم.

لم يدفع النص الدستوري القائل بأن الشريعة مصدر السلطات، عبد الحي يوسف، وأشباهه من علماء السلطان إلى أن يصدحوا بكلمة الحق في وجه الحاكم الجائر وأن ينحازوا إلى جانب الثوار الذين خرجوا للشوارع منددين بالقتل والفساد والظلم، مع أن غايات الشريعة ومقاصدها الكبرى تحث على العدل وحفظ الأنفس والأموال.

كذلك لم يمنع النص، عبد الحي يوسف، من استلام أموال بصورة غير مشروعة (تحت مسمى تبرعات) من الرئيس المخلوع عمر البشير لدعم القناة الفضائية المملوكة له والمعروفة باسم "طيبة"، وهو الأمر الذي اعترف به الطاغية في التحقيقات الجارية معه هذه الأيام.

قد أثبتت تجربة حكم الحركة الإسلامية (فرع الإخوان المسلمين في السودان) بشكل قاطع أن وضع نص في الدستور يوضح أن للدولة دينا معينا أو يشير لمرجعية الشريعة لا يمثل ضمانا لإنزال القيم العليا التي ينادي بها الإسلام، العدل والحرية والكرامة الإنسانية، إلى أرض التطبيق العملي، كما أن غياب ذلك النص لا يعني "إضاعة الدين" كما يدعي عبد الحي يوسف.

ومن جانب آخر، فإن طرح هذه القضية في هذا التوقيت وبعد تجربة حكم فاشلة باسم الشريعة الإسلامية استمرت ثلاثة عقود من الزمن ووضعت البلد على شفير الهاوية بعد التدهور المريع الذي أصاب جميع النواحي السياسية والاجتماعية والاقتصادية يعكس اهتماما بالأمور الهامشية وإهمالا للموضوعات المركزية عند النظر في الكيفية التي يمكن أن ينهض بها السودان من عثرته.

كاتب سوداني